سيماڤ خالد محمد
مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟
لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول حيث يعود الفهم بسيطاً كما كان بلا شرح ولا تعقيد.
نولد بوجوهٍ لنطمئن قلوب الوالدين بأن حنانهم لم يذهب سُدى، وأن ما بذلوه في البدايات لم يتبدّد مع الوقت، بل وجد طريقه إلينا واستقر في ملامحنا.
في وجوهنا شيءٌ منهم من نظراتهم المتعبة، ابتساماتهم المؤجَّلة، كأن الوجوه خُلقت لتكون رسالة صامتة تقول: نحن هنا وما زرعتموه لم يضع.
نولد بوجوهٍ كي نقول لهم إن المشقّة يمكن أن تُجمَّل، وإن التعب مهما طال قادر على أن يتحوّل إلى معنى، ابتسامتنا محاولة صغيرة لترميم ما أثقلته الأيام، ولمسة حبٍّ تخفّف عنهم آثار طريقٍ لم يكن سهلاً، لكنهم مشَوا لأنهم آمنوا به.
نولد بقلوبٍ لنتعرّف عليهم قبل أن نتعلّم الرؤية، نتعرّف إليهم بخفقانٍ يسبق العين، بشعورٍ لا يحتاج لغة.
قلوبنا الصغيرة تتعلّم الإيقاع الأول للحياة من قربهم، تتدرّب على النبض من نبضهم وتمتزج دقّاتها بتفانيهم الصامت كأن القلب خُلق ليكون أول جسرٍ بيننا.
نولد بقلوبٍ لأن القلب وحده يعرف كيف يحفظ القرب، وكيف يتذكّر الطمأنينة حين تتبدّل الوجوه من حولنا.
نولد بوجوهٍ لنسند والدينا حين ينهكهم الوجع، حين تتراكم الأيام فوق أكتافهم، فنكون نحن تلك المساحة التي يضعون فيها رؤوسهم دون أن يشرحوا.
نحمل عنهم ثِقَل اللحظة دون سؤال، ونصنع لهم ضحكة صغيرة قد لا تغيّر العالم، لكنها تكفي لتؤكّد لهم أن تعبهم لم يكن عبثاً.
نولد بوجوهٍ لنعكس لهم ما لم يستطيعوا رؤيته في أنفسهم: أنهم ما زالوا قادرين على الفرح، وأن حضورهم ما زال يصنع فرقاً، وأن الحياة رغم قسوتها لم تنجح في انتزاع دفئهم.
نولد بقلوبٍ كي نهبها للوالدين كاملة حين يقرّر العالم بقسوته أن يختبر صلابتهم، نهبهم قلوبنا دون شروط لأننا نعرف أن المشاعر مهما أُنهكت ما زالت قادرة على الخفقان، وأن الحب حين يُقسَم لا ينقص بل يتكاثر ويصير أقدر على الاحتمال.
نولد بوجوهٍ وقلوب، لأننا لم نأتِ بمفردنا بل جئنا محمّلين بحكايات من سبقونا، بأحلامٍ لم تكتمل، بأمنياتٍ أُجّلت، وبإيمانٍ هادئ بأن القادم قد يكون أفضل.
جئنا لنكون امتدادهم حين يضعفون، مرآتهم حين يتعبون، وطمأنينتهم الصغيرة التي تقول لهم دون خطبٍ طويلة أو وعودٍ كبيرة، في صمتٍ عميق وواضح: ما زال للحياة معنى.
٢٣-١٢-٢٠٢٥
هولير