هي… بالذات..!

ماهين شيخاني

 

لم يكن يتوقّع أن يتسلّل الماضي إليه عبر شاشة تلفاز، في بيتٍ لا يُفترض أن يوقظ فيه شيء سوى الضيافة والضحك العابر.

كان “شاهين” في زيارة لأقاربه بإحدى الدول المجاورة، محاولًا أن يستريح من تعب الوطن، وربما من تعب القلب. جلس بين أبناء خاله يشرب الشاي، والتلفاز في الزاوية يبث حفلة موسيقية فاخرة، تعجّ بالضوء والصخب والوجوه اللامبالية. وفجأة…

توقّف الزمن.

ارتبكت أنفاسه، وضاق صدره، واتّسعت عيناه بدهشةٍ جارحة.

لا شعوريًّا نطق:

– شاهي… إنها شاهي.

هناك، بين الحضور، في الصف الثالث على يسار الشاشة، كانت تجلس “شاهي”… كما هي، بضحكتها المائلة، وعينيها اللتين تحفظهما ذاكرته كما تحفظ الأرض ظلها عند المغيب.

لم ينتبه أحد في البداية، حتى نطقت إحدى قريباته:

– أليست هذه حبيبتك..؟.

 

التفت الجميع إليه، بينما لم يلتفت هو عن الشاشة.

حاول أن يتكلم، أن ينفي، أن يضحك… لكنه لم يستطع.

قال بصوت مخنوق وهو يحدّق في الملامح التي يعرفها عن ظهر قلب:

– هي… هي… بالذات.

 

انكمش في مكانه، كأن المقعد أصبح حفرة، أو مقصلة.

سكت الجميع.

سحب نفسًا عميقًا، لكنه لم يكن يكفي.

راحت الصور تتوالى في رأسه:

صورها، أشرطتها، رسائلها على دفتره الجامعي، رائحة شعرها في زقاق خلف المدرسة، صوتها في الهاتف، ودموعها يوم أجبرها والدها على الزواج من قريبهم الميسور.

يومها وعدته أن تبقى له في القلب، حتى وإن لم يستطيعا أن يكونا معًا.

“يا لهذا القدر… حتى بين أقربائي؟ ماذا تفعل هنا؟ ولماذا في هذا الحفل تحديدًا؟ هل كانت صدفة أن تظهر الآن؟”

سأل نفسه، ولم يجد سوى صمت التلفاز حين انتقلت الكاميرا إلى مغنٍّ آخر.

لكن هي… كانت قد ظهرت.

ظهرت كأنها القدر يمرّ على القلب ليوقظه من نسيانه.

 

في تلك الليلة، لم ينم “شاهين”.

كتب لها رسالة طويلة في ذهنه، لكنه لم يُرسلها.

أطفأ الهاتف.

واكتفى بأن يردّد بينه وبين نفسه:

“لا تزالين تسكنينني… حتى ولو كنتِ جالسةً في صفوف الآخرين.”

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…