نقد الفكر الكوردي المعاصر (ثقافة الفوضى أو فوضى الثقافة) الحلقة الخامسة

عبد الرحمن آلوجي

 

مما لا ممدوحة فيه أن الثقافة هي الحاجة العليا للمجتمع الإنساني فهي تمثل  اختزالا حقيقيا لتجاربه , وخلاصة معارفه و علومه , والعصارة من تراثه وقيمه , وفنونه وآدابه , مما يمكن أن يجسد الحس الحضاري والذاكرة الجمعية الواعية لمسيرة طويلة بحجم الفسحة الزمنية من عمر هذا المجتمع وما تراكم في حيزه المكاني , ورقعته الديمغرافية من معادن الفكر وذخائره , لتكون هذه الحاجة العليا مرآة ارتقائه أو علامة تحدره بالقياس إلى نسبية التطور ودرجة الارتقاء .
والمجتمع الكوردي واحد من المجتمعات الإنسانية التي خضعت لجملة عوامل وتعقيدات , وعقد وتراكمات , وتحديات قديمة ومعاصرة استهدفت وجوده وكيانه , وتجاوزت حضاراته وقيمه , مستجلبة آثار بيئات ومناخات وروافد حضارية متعددة المشارب مما صبغه بكثير من التنوع والتلون  والتراتيب والمقومات , ليؤوب الفكر الكوردي في قمته خلاصة لكل ذلك يمكن الوقوف عليها ومتابعتها ونقدها وتقويمها , وهو ما يستدعي من الدارسين والمحللين الكورد أن يغتنوا بها ويغنوها بملاحظاتهم وآرائهم في مفهوم نقد معاصر يأخذ بالحسبان المقاييس الدقيقة التي تبغي التقويم والتصويب والمراجعة , وتقديم البديل ورؤية المعدل والمقوم مما يمكن أن يشكل تراثا فكريا يبنى عليه ويتحرك من خلاله .
والثقافة في كل الأحوال تعبير عن شعور مرهف , وإحساس رفيع , وسلوك مضيء , يختزل التراث العلمي والقيمي والروحي , فيحدد ملامح الشخصية الإنسانية في رقيها وسموها وارتقائها في السلم الحضاري , بما يهيء من تقبل فاعل , وهضم فعلي لمختزلات الفكر الإنساني إن صح التعبير ليترجم السلوك الإنساني إلى ما هو أنبل وأعلى وأكثر هضما لتراكمات سرعان ما تؤول إلى ثمرة غنية تعطي للحياة مذاقها , وللفكر نبله , وللشعور جوهره ,  وهو يعلو بقدر اكتناز المعرفة الإنسانية وشمولها واتساعها , وعمق تحولاتها في أعماق الإنسان , وقدرته على النفاذ , وإمكان سيطرته على الغرائز والدوافع العضوية , والتحكم بها , وجعلها أداة بقاء ووجود , لتنزع إلى إغناء الدوافع العليا العقلية والشعورية والوجدانية والتربوية , لتشكل عنصر إبلاغ وإشعاع , ونقطة إضاءة وعلامة وفاق , يعلو إلى ما كل هو سام ومرتق ٍ في سلم الحضارة الإنسانية .

والثقافة الكوردية ليست بمعزل عن المحيط الثقافي عامة , والإقليمي خاصة , وما يصطبغان بالتراث الثقافي العام , ومؤثراته وأدواته , ومناهجه , إضافة إلى النكهة القومية , والخاصية والهوية الوطنية , ليكون ذلك مدخلا إلى صيغة خاصة هي من سمات الهوية الكوردية , بما لها من تاريخ طويل وعريق , يمتد لبضعة آلاف من السنين , هي ثمرة تراكم طبرات ومعارف أولية وسمات شخصية تتميز بها الشخصية الكوردية من تفان ٍ وإخلاص وصدق وحب للخير وشجاعة منقطعة النظير وأثرة في الوقائع والمحن .. إضافة إلى تراث شفهي غني في الحكم والمواعظ والأمثال metelok û serpêhatî  وملاحم وأساطير وأغان وحكايات , ودبكات متنوعة تحيي حالات الفرح إلى جانب قصص وأحاديث وشعر ونثر , حفظ على مرّ القرون على الرغم من حالات القمع والمنع والكبت وسحق الشخصية الكوردية .. مما يجعل من هذه الخاصية والتوحد مدخلا إلى إغناء هذه الشخصية ورفدها بالأفق الإنساني الوضيء , والإغناء بهذا التراث والحرص عليه , بما يحقق البعد الأمثل للتقارب والتوافق والتقارب في الفكر والفن والأدب والعلوم , والتي تشكل الإرث العالمي المشترك , والصيغة الأممية المتكاملة , في بناء الشخصية الإنسانية عامة , وإغنائها بالطعوم الذاتية والألوان الأثنية الخاصة ..
والثقافة الكوردية إذ تخوض معترك الإعلام والإعداد والتربية , وتواجه حالات القمع والتنكر , وتحاول جاهدة إثبات الهوية القومية فكرا ولغة وأدبا وفنا .. تتعرض لكثير من المعوقات والعراقيل وتجد نفسها على أكثر من صعيد في مواجهات وتحديات تعزز ألوانا وأشكالا وصيغا مختلفة إلى جانب تيارات ومفاهيم وآراء قد تكون فجة ومبتسرة أحيانا , أو مهزوزة وغير مستندة أحيانا أخرى , إلى جانب مواقف وأفكار مكونة مسبقا , وقد تعرضت أحايين كثيرة إلى الفوضى والاهتراء والتآكل .. الأمر الذي يفترض أن يكون ثمة نقد وتقويم ومراجعة وتأسيس ومحاولة لرصد الإخفاقات والترهلات والأخطاء , بغرض الوصول إلى صيغ أكثر نجاحا , وأقرب إلى الحقيقة , وأبعد عن محاولات التسلق أو التهرب أو التردد , وما نجده من حالات الضعف والهفافة , وتعجل الشهرة , والوقوع في مطبات التشهير والتجريح والإيذاء , والدخول في معارك هامشية , وقضايا ثانوية غير ذات جدوى , الأمر الذي يوقع في حالات غير مرضية ( كما حدث في وقائع جانبية مؤذية وخاصة في مواقع الأنترنت من نقد جارح ﻛ (Qeşmerok ) ونحوها مما يلذع ويدمر .
إن وقوع الكتاب والمثقفين الكورد في الفوضى بدافع محدد يؤدي إلى كثير من البلبلة , وعدم الوضوح , وخلط الأوراق , وركوب متن المغامرة والإيقاع في حالات التشنج والاعتساف وعدم وضوح الرؤية , بما يفيد الثقافة الكوردية ويؤثر على تطورها وارتقائها ووضوح خطها , وإغناء مسارها بما يتوافق مع المراجعة والتدقيق والنقد والتقويم , وهي مسائل هامة وحيوية , في خط تصاعدي يرتقي إلى موكب التطور والارتقاء في قضايا العولمة الثقافية , وتأثيراتها الواسعة ودرجة التهيؤ لها , وإمكان التلاؤم والانسجام مع رؤية جامعة , هي محصلة الفكر الإنساني وتطوراته وآفاقه وأثره في بناء الثقافة الكوردية والتراث الكوردي .. مما يجعل أي انكفاء أو تردد أو تراجع أو ركوب متن المغامرة والفوضى إضرارا بهذه المسيرة التي ينبغي أن ترتقي وتصعد وتعلو إلى خدمة القضية بعيدا عن المهاترة وأساليبها الرخيصة , والفكر المبلبل , والازدواجية والانتقائية وآثارهما , في اضطراب النقد المنهجي , وتهافته , ووقوعه ضحية الأنانية والذاتية والمواقف الهشة والمهتزة , والتي توقع في ثقافة الفوضى أو فوضى الثقافة , وانحسارها في سراديب معتمة ودهاليز تفوح منها روائح غير مريحة.. وهو ما نحذر منه المثقفين الكورد , بما يخدم الخط المنهجي التطويري , ويحدد مسار فكر يقظ متأن ٍ ومتزن , ومستند إلى حصيلة تراكمية يمكن برمجتها ومنهجة مسارها .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…