غريب ملا زلال
أن تكون من عفرين كالحال أن تكون من عامودا، فأبناء هاتين المدينتين محظوظون على دوام الخط، لا يمكن أن تلد فيهما و تشرب من مائهما، و تتعفر بترابهما و لا تكون موهوباً، لا يمكن ألا تكون مبدعاً، فقط الأمر يحتاج إلى القليل من التروي و البحث، الجميع هنا خالق، إما أن يكون شاعراً، أو كاتباً، أو صحفياً، أو موسيقياً مؤلفاً أو عازفاً أو مغنياً، أو فناناً تشكيلياً، أو مخرجاً مسرحياً، أو سينمائياً، أو…. إلخ، الجميع في عامودا و عفرين مبدعون حقيقيون، بأصابعهم، بأصواتهم، بأقلامهم، الجميع هنا يبحث و إن كان الزحام عالياً، الجميع هنا يخلق و له قدرة فائقة في الخلاص، فليس غريباً أن نحتار في إلتقاط الأسماء و ما أكثرها، للجميع حق علينا أن نعيد لهم بعض مما لهم في ذمتنا، أتمنى أن يمنحنا الرب جرعة ثانية من الحياة علنا نعيد كل ديون هؤلاء و نخرج من هذه الحياة دون دين في ذمتنا .
و ضيفنا هذا الأسبوع الفنان التشكيلي أصلان معمو (1978 ) إبن عفرين و زيتونها، و الذي حوله ستتلون الأمنيات، و به ستكتظ المدينة و ريفها بنهر جميل من الألوان التي تدفقت من مرسمه الحانوتي، المرسم الذي مرّ منه أسماء كثيرة، فبجهود شخصية إستطاع معمو أن يخدم المدينة بكم هائل من الألوان التي زينت بيوتها و أزقتها بشهيقهم و زفيرهم، فرغم العالم الفوضوي الذي كان و مازال يلف الأرض و أبنائها، و لنا أبناء الشرق حصة الأسد من تلك الفوضى التي حصدتنا و ماتزال،
أقول رغم تلك الفوضى الكبيرة إلا أن معمو بقي مؤمناً كفنان حقيقي ينتمي إلى الزيتون أصالة و شموخاً و تحدياً بأن الفنان يستطيع أن يخلق المستحيل، و فعلها معمو حين حول مرسمه الصغير في دكان ما على الطريق إلى ما يشبه ورشة عمل مستديمة، إليها يلجأ أبناء عفرين لتنمية مواهبهم الفنية و إخراجها إلى النور ضمن معرض سنوي ( ألوان من عفرين ) يخصصه لطلابه المتميزين .
هذا المناخ الحقيقي الذي خلقه معمو، و هذه المساحة التي لونها يرجع إلى عشقه للريشة و اللون، و إلى إنتمائه للزيتون و ما تركه الأقدمون من تراث و تاريخ، فهو يقدم نفسه بمقولات معرفية لها خصوصيتها الجمالية، و لها أهميتها الحياتية بوصفها نتاج لتحولات كبيرة الأثر يشتغل عليها معمو كشكل من أشكال الخروج من اللوحة، أو لنقل شكل من أشكال جر الفراغ و إن بحذر إلى اللعبة الفنية، فهو يحمل إلى جانب ذلك إرثاً من حضارة كبيرة تنبض في داخله، و هذا ما يدفع به إلى زيادة طموحاته و آماله في الإقتراب من اللوحة و كأنها تحمل كل الإجابات لتلك الأسئلة المطروحة في داخله على شكل دوائر لعوالم من الدهشة يرافقها الخوف الفظيع من الزمن و أزمته، فهو لا ينهي شيئاً أو ليس لديه نقاط يضعها في نهاية جملته أقصد في نهاية مقولاته الفنية، فالأمر هنا متعلق به كإنسان أولاً في داخله سجين ينام منذ الأزل يطالب بالحرية و الإفراج عنه، ثم كفنان له ظله الذي لا يتركه حتى في العتمات، ظل يطالبه بعدم الإستسلام للصقيع مهما كان قاتلاً
ظل يعزف له السر اللانهائي عبر شيفرات مفتوحة حتى يفرغها كاملة في لوحته، دون أي إحباط، و هنا ستنكشف له و لنا تلك المبهمات على نحو حلم مرتبط إرتباطاً عميقاً بمعاناة الإنسان التي هي معاناته، برموزه و أشكاله، بألوانه الصاخبة و المفعمة بالقلق و الإنفعال، وبتوجهه إلى دواخله و ما يعتمل فيها من هواجس و أحاسيس حاملة رائحة تراب مازالت تعبق فيه / به و في / بالمكان، رائحة فاحت حتى كسرت الحدود و خرجت كشاهدة حية على الآلام المقدسة و بأن الإنسان هو الأهم، فما فائدة الساحات ما لم تضج بناسها، و من أجل ذلك يستعين معمو بذاكرته كجزء مهم و فاعل في ولادة لوحته، تلك اللوحة التي لن ينتهي منها و لا من تدوين مقولاتها فيها، و لهذا لا يضع النقطة أبداً في نهايتها مهما كان صهيل أحصنته موجعاً، فهو يرسم أبجدية ذلك الوجع على خطواته بزخمها و عذاباتها، بإشاراتها و دلالاتها، بوجوهها و تفاصيلها علّ ذلك يمسح سيل التعب من روحه بل و من جسده أيضاً، فهو الحافل بالقلق و بالمكان المرهق حتى كادت الحياة تسقط منه، فكيف ينبض الفنان بالإنتماء و كل ما فيه ينبض بالضياع، هذا حال معمو المسافر أبداً في المكان المشبع بالغياب حتى بات مقاعد إنتظاره وجه آخر لذلك الضياع .
بعيداً عن نمذجة ملامح تدوينات أصلان معمو اللونية، و بعيداً عن مرارة تخطيطاته المختلطة و المختلفة فهو يكتظ بكم هائل من الألم، بأرتال من أشواك الشجن و هي تتلاطم على فضاءاته، فيتناول عناصر لها قدرة كبيرة على الإشتعال، حتى يوقظ و يوقد الروح فيها و هنا كان لا بد من الإنحياز لجماليات تعبيرية تشي بالإنفلات و التماهي، تشي بما يشبه بألم اللوحة و تفاصيلها، و كأنها في حالة مخاض طويلة ستعتريها مؤشرات لنوافذ مفتوحة على فراغات ظليلة و ما يسبح فيها من نماذج لأناس ترفض الحياد لرؤيتها، فمعمو يدغم السهول بالجبال، الأزرق بالأصفر، المشهد الخفي بالسرمدي، يوزع الضوء مع الضباب، يطارد دفق الأحمر الساخن بقدرة هائلة، و بأصابع مبللة بالعشق المباح، حتى ترتخي اللوحة تماماً و تستسلم لحزن الصهيل و تعابيره، لتجاعيده حين يلفح به صفير الريح بشفراته الحادة و بدفقة غباره، فأفق الممرات عنده مشتعلة ب صرخات الصمت حين تثور، و بسيمفونية التحولات السريعة وكأنها مبتكرة خصيصاً لها، و كأنها المعنية بالبحث عن جديد، و كأنها السر الذي إليه يمضي معمو و نحن معه دون أن يكون له و لنا حول أو قوة، و بإختصار فهو يعيد للزمن نحيبه الطويل، النحيب الذي لا يغادر مكان إقامته، بل يستأجر سقفاً مفتوحاً يظلله /نا على إمتداد دقات الساعة و عقاربها، و هكذا تمضي به الساعة و نحن معه حتى النزف الأخير .