شعريّة الوجود كسؤال في نصّ «سؤال آخر» في المجموعة القصصية المُعنونة بــ (هو)

 سوسن إسماعيل/ سويسرا 
“أنا لم أسقط؛ إذن أنا موجود”
 
بمثابة تمهيد:
   بمجموعة من العناوين المختلفة والثريّة بالقصّ المخزون بالكثير من الإيحاءات والحدث المشحونِ بالتناصات الشعرية والحكمة مرّة، ومرّة بالتاريخي، يقدّمُ القاصّ السوري فراس الحركه مجموعته القصصية الموسومة بــ (هو)، التي تتجاوز خمسة وعشرين عنواناً قصصيّاً، مجموعة قائمة على جملة من القصص والموضوعات المتنوعة والمتعددة التي تدور في فلك حياة وأحداث جارية تتحكم فيها مجموعة من المؤسسات، وقد اختار القاص من بين هذه العناوين إحداها، ليكونَ وسماً للعتبة الأولى وعنواناً رئيسيّاً في قراءة المجموعة المعنونة بـ “هو“. 
هو” عنوان العتبة الأولى التي يدخلُ بها القاص بوابات عناوين مُتشاكلة في المجموعة القصصية، وبقراءة سريعة لهذا العنوان، يمكن للقراءة أن تفرزه بعيداً عن التكلّف والانزياحات اللغوية التي تجري عادة في كتابة العناوين الأدبيّة. إذ لا يحملُ العنوانُ إلا دلالة الضمير الغائب والذكوري، أي الضمير الحامل لمعاني التذكير فقط، وتأطيره ضمن سور لا يمكن للباحث أو القارئ أن يفككَ كما يشاء، طالما الغياب في هذا الضمير، يحملُ أبعاداً تصويرية تُغلقُ على مشاهدها، ودون المعرفة عن مدى إمكانيات هذا الضمير في التأويل والتشفير أو عكس كلّ تصوّر يمكنُ للقارئ أن يتجه إليه، وكذلك اتكاء القاص على خيوط تتقارب وتتشابك بين السّرد والشعرية، الشعرية الغالبة على الكثير من القصص الواردة في المجموعة، والتي ساهمت بشكل ما في خلخلة البنية القصصية لغلبة الشعر، الشعرية التي أضاعت بوصلة القصّ، دون غياب لكثير من المفاصل القصصية التي تشدُّ القارئ إلى عوالم الكائن/ الـ “هو”، الذي يبتغي من وراءه مقاصد وغايات تعودُ إلى أحدٍ ما غائب أو مُغيّب، هو/ الكائن الذي يتحرك ضمن مجموعة من الفوارق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، الكائن الذي يُمارسُ عليه سطوة الغياب.  
الصوت القصصيّ: 
   لعلّ أبرز العناصر الضرورية في الخطاب القصصي هو الصوت إلى جانب الصيغة والزمن، كما ذهب إليه جيرار جينيت في تقسيمه للخطاب القصصي، الصوت الذي يمثل شخوصه، فخلفَ كلّ صوتٍ حكاية وحكمة أو أمثولة تشبهنا أو تمثلنا، ربما هي الكثير من أعرافنا وموروثاتنا التي أدت بالكثير منا إلى الانحياز عن الطريق، هي أصوات تسردُ وجدان هؤلاء الذين لا نعرفهم بأسمائهم إنما بما يتركون وراءهم من الأسئلة. وهذا ما دفع بالقراءة إلى مقاربة أبعاد الأسئلة في قصة “سؤال آخر” ــ التي تضمنتها المجموعة القصصية “هو” للقاص فراس الحركه ــ لتحومَ الأسئلة وراء سؤال السارد نفسه، إذ يمرر السّارد الكثير من الأسئلة التي ربما ليس باستطاعته أن يعلنها صراحة وبقولٍ واحدٍ: هذا ما جعله يعتمد تقنية الحذف في السّرد ووضع النقاط وذلك لتسريع وتيرة السّرد والتأويل، ويشير إلى ذلك بنفسه؛ بأنه لا يمكنه كتابتها فإنّها تزلزله، عندما يقول الأعمى من الشخصيات المجتمعة في الغرفة: 
“لا يعلو صوت الحقّ في بلدٍ ….
ولا تسمعُ باقي الكلمات.
ويقول المجنون: “لو تعرفُ فروع التحقيقِ هذا النوع من الــ …. 
تُزلزلني الكلمة التي لم أكتبها” .
في نصّ “سؤال آخر” يطرح القاص مجموعة من الأسئلة، تبدأ القصة بسؤال وتنتهي بسؤال وبين السؤالين يكمنُ السؤال الأهم، من أنا، من هم، …. وإلى أين؟ إنّهُ سؤال الحياة التي نعيشها ولا نفاد من هذا الحلم/ الكابوس إلا باليقظة. نصّ يضجّ بالغموض حول شخوصٍ هم رموز لهذا الوجود، مجموعة أصوات في القصة تأتي بترتيب تتابعي، إذ يصف السّارد والذي هو نفسه الراوي العليم، أحداث القصة، ويرسمُ شخصياته أمامه على الورق، والراوي هو نفسه الكاتب الذي يدون قصة ما وبعنوان ما، واستناداً إلى هذه الشخصيات التي لكلّ منها صوتها ودلالتها العميقة إلى جانب صوت السّارد أو الراوي نفسه، يثيرُ السّارد على لسان شخوص اجتمعوا في غرفة دون باب ونوافذ، العديد من الأسئلة التي تخصّ ثقافة السّارد ذاته، إذ يبدأ السّارد القصة بسؤال: “لا أدري لماذا وكيف ومتى؟ لكنها هكذا” ، ثمّة غموض يلفُّ أسئلة السّارد نفسه، فالغرفة بأصوات شخوصها الغرباء وحالتها الأغرب، والألوان التي تغطي كلّ جدرانها وزواياها، تدفع بالسّارد إلى سؤال آخر، هذا الآخر الذي لا ينتهي عند السّارد “لا أدري لماذا كرهتُ هذه الألوان؟ ولكن لماذا الجميع يبكون؟” ، فالسّارد لا يكفّ عن توليد الأسئلة، كما أصوات شخوصه الذين لا يتوقفون عن سؤال الحياة والوجود الذي لا يتوقف عن إعاقة كلّ منهم، أربعة أصوات تجتمع في غرفة/ في عالم ملون من ورق دون مخارج، سوى مخرج السّارد وهو يراقب من نافذته أسئلة العدم التي يطرحها شخوصه، والذين لا يمثلون إلّا أصواتهم، وهم الحكماء على هذا الورق، يقولون على التوالي: 
يقول الأعمى: “العتمة باب الظلام”
يقول الأطرش مغتاظاً: “هل بدأ الكون هكذا؟”
تقول المرأة المُقعدة: “ويلي ..، الحياة دون الشمس ستغرق في السواد”
أمّا المجنون يغني ويبكي: “قام الدب ليرقص قتل ست سبعة أنفس” .

أربعة أصوات تلتقي في غرفة ملوّنة، هي أصوات متداخلة، كلّ منهم يطرح أسئلته التي تخصّ حالة وجوده، تصفه وتميّزه عن الآخر، فثمّة من يرى الغموض ولا يسمعه، وآخر يسمع ولا يرى لوناً يكافأ عليه، وأخرى تسأل عن أحقيّة هذا العدم الذي يشبههم، وجوه مُقعدة مثلها، “وكأنكم جميعاً مقعدون مثلي؟” ، كلّ الشخوص المجتمعة في الغرفة ـ الأعمى، الأطرش، المجنون والمُقعدة ـ كلهم فاقدي القدرة على إتمام مهماتهم، الكلّ يُشيرُ إلى شؤون هذا البلد/ هذه الحياة التي يعيشونها، هم يحيونَ في دوامة من الأسئلة غير المترابطة دون أمل في نافذة أو باب يطلون منه على هذا الوجود، وكأن السّارد يؤكد على ذلك بقول الحقيقة، أو ربما كان يُهلوس من أثر الويسكي وقد خرج عن وعيه ليعترف بأنّ كلّ شخوصه من عدم، عندما كتب: “لا فضاء للغرفة ولا جدران ولا وجود لأيّ مؤثر خارجي أو داخلي على الشخوص، فضاء عدميّ يبدو مألوفاً” ، وكأنّ حالة من التشظي والانشطار قد أصابَ السّارد بين وجوده وتلمس ذلك أو عدمه بشكل ما، أمّا مقولة ديكارت “أنا أفكر، إذا أنا موجود” فإنها تُخالف هنا في القصة حالة السّارد كليّاً، لأنّ حالة السّارد ما زالت في طور السؤال حتى عن ذاته، التي فقدَ الثقة بها وإلّا لمَ السؤال: “هل أنا موجود” ، وكأنّ السّارد نفسه يُظهر حقيقة ما أو نتيجة قد توصلَ إليها ويقدمها لقارئه ومتلقيه، وكأنّ ثمة هلوسة كان يعيشها، ووزعها على أصوات أخرى تمثّلُ كلّ أدواره “شعرتُ إنَّ نهايتي اقتربت، …….، هي هي” ، وهنا السؤال الأهم، الصوت الأكثر إعاقة بين كلّ الأصوات/ الشخوص، فـ “هي هي” إشارة إلى الوضع نفسه الذي لم يطاله أيّ تغيير يستحقُ الذكر، وهو ذاته السؤال الذي قد نعثر عليه. 
وأخيراً “سؤال آخر” نصّ ذهني عن الوجود، عن الأسئلة غير المُطلقة في الحياة، فالحياة سؤال وليس ثمّة يقين فيها، وهي هنا استمرارية الوجود كسؤال لابُدّ منه. 
“سؤال آخر” نصٌّ يزخرُ بالأسئلة والإيحاءات المُشفرة، وهذا ما دفع السّارد ليمارس لعبة الاشتقاقات في نصه، فالعربي يتحول إلى حالة الرعب والعتمة إلى متعة، والكلمات إلى لكمات، فالقارئ أمان نصين في غرفتين، أيّ صوتين وهما صوت الشخصيات في الغرفة المغلقة والملونة والتي تعاني من صراعات نفسية بحتة، بدلالة كلّ شخصية وما تحمله من احتياج، وصوت السّارد أو القاص نفسه في غرفته، والذي يروي قصة ضمن قصة، أي المتلقي أمام غرفتين؛ غرفة النصّ السردي/ القصصي، وهي الغرفة المُتخيلة، وغرفة القاص/ السّارد نفسه والذي يعيشُ مع شخوصه، ثمّ يخرج من الغرفة التي تضجّ بالألوان والشخوص المُتعبة إلى غرفته الحقيقية، فيفتحُ النوافذ وينتعش بالهواء ويمارس طقوسه. أيّ القراءة أمام صوتين أحدهما يتوجب أن يتغلبَ على الاخر في النهاية ويترك سؤاله الأخير هنا.    
[1] – فراس الحركه: “هو” مجموعة قصصية، الناشر: دار موزاييك للدراسات والنشر، الفاتح – استنبول – تركيا، ط1، 2022.  
[2] – هو: فراس الحركة، مجموعة قصصية، الناشر: دار موزاييك للدراسات والنشر، الفاتح – استنبول – تركيا، ط1، 2022، ص88.  
[3] – المصدر السابق، ص86.
[4] – هو، المصدر المذكور، ص87.
[5] – المصدر المذكور، ص87.
[6] – المصدر السابق، ص88.
[7] – المصدر السابق، ص89.
[8] – هو، مجموعة قصصية، مصدر مذكور، ص90.
[9] – المصدر المذكور، ص90. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى السيدة فيروز، صوت الصباحات السورية، وعطر الزمن الجميل،

أعتذر منكِ، أنا المواطن السوري الذي كبر على أغنياتك، واستيقظت بلاده على صوتك عقوداً طويلة، أن أكون من بلدٍ لم يُحسن، رسمياً، الوقوف إلى جانبك في لحظة وجعك الكبير.

أعتذر لأنكِ خسرتِ ابناً، وخسرتِ معه جزءاً من قلبك، بينما بلدي التي أحبّتْكِ ولم تعرف صباحاً دونك، صمتتْ… أو…

إبراهيم اليوسف

يأتي الاسم- هكذا- ممتلئاً دافقاً بالبشرى بما يكفي ليشغل فضاءً واسعاً في ذاكرة الإبداع، والتشبث بالوطن وجباله وسهوله. دروبه. قراه. مدنه. وجوه ذويه. مزكين حسكو ليست مجرّد أديبة شاعرة وساردة تكتب قصائدها وأدبها بلغتها الأم، بل جذرٌ عميق في تربة القصيدة الكردية، فرعها الذي لا ينحني مهما تبدّلت الرياح. لم تأتِ من الهامش، بل…

عصمت شاهين الدوسكي

الاحساس المرهف يفجر المشاعر المكنونة والآمال الميتة

كلیزار أنور عندما فتحت عیناھا للحیاة وعرفت بعض أسرارھا، قاومت كل الأشواك التي تحیى حولھا ،أبت أن تكون نرجسه نائیة ، جرداء ، بلا نور ، خرجت من بین الطلاسم المظلمة لتغیر ذلك الهواء بهواء نقي وترفض التقالید الفكریة البالیة ، رسمت لنفسھا طریقا وعرا، شائكا، غائرا…

عبد الجابر حبيب

 

خطوةٌ واحدةٌ منكِ،

تكفي لتهوي الأبوابُ الثقيلةُ

التي حُشرتْ خلفها حكاياتُ الألمِ.

 

بخطوةٍ أخرى منكِ

سينهارُ الهرمُ المشيَّدُ فوقَ صدورِ الجائعين،

وتبتلعُ الأرضُ عذابَ البؤساء.

 

حتى بإيماءةٍ منكِ،

تعودُ إلى أصحابِها

مفاتيحُ المدنِ المفقودةِ،

ويجفُّ الحبرُ على النهاياتِ القديمةِ،

وتنفكُّ الأقفالُ عن السجونِ

دون أن يلمسَها أحدٌ.

 

بهمسةٍ منكِ،

واثقٌ بأن أصواتَ القتلةِ ستختفي،

ويذوبُ صليلُ البنادقِ

في فراغٍ لا حدودَ له،

وتسقطُ تماثيل اعتلَتْ عروشَ يأسِنا.

 

نعم، بمجرّدِ حضورِكِ،

يتمزّقُ…