إبراهيم محمود
طريق يمضي من ” نوهدرا ” دهوك عبر ” سيمالكا ” الذاكرة النائحة إلى جهتي التي تفيض تشتتاً: أعني ما يعنيه الهبوط إلى كردية تشكو أطرافها ولسانها وروحها الذاهلة من الارتفاع إلى مرآتها المغبشة
إلى أبعد من مسقط رأسي في ” خربة عنز ” حيث لا عنز يُذكَر إنما خربة مطلولة بالرماد المصقَّع..
طريق يصلني في غرفة وطأة تاريخ العناية المشددة إلى طريق شديد التوتر والتوجع مجاوراً شمالاً لـ” دو كَرى ” حيث مقبرة المشدودين إلى ” ألف ثورة وثورة” ربما تعني” ” ألف حسرة وحسرة “.
طريق يمتد بي أماماً وأقطر ” وراءً ” من منحدرات وعرة كسهْم فجيعة صاعق، ماراً بـ” تربه سبي ” وصوت ” جوان حاجو ” وصوته الدقيق المغزى معجَّن بـ ” وطنـ:ـه ” المؤجَّل، أردت العروج على خالد حسين شمالاً، لنتعاين جرحاً مشتركاً، وخْز ذاكرة المكان نبّهني إلى مكان بعيد بعيد يحصي أنفاس نصه المضني دائماً، فأخرج من هناك دون أن أخرج بـ ” هناك “حاملاً طريقي الدقيق برأسه إلى قامشلو، أنحدر شمالاً إلى مقبرة ” قدّور بك ” تستقبلني أمي خارجة من قبرها يا روعة وجهها الذي يصرخ انكسارات: تردّني بيدين من ورد وضوء: ارجع، هنا تاريخ يصعب عليك تحمّل كوابيسه . طريقي يشدني إلى جنوب قليلاً، والجنوب حروب، لأمضي غرباً، عبر شارع ” الجسرين ” المنصوب على شاهدة من المكابدات، ماضياً بـ” العرَصة ” جنوبي، وهي في حمّى بابلها ، عابراً ساحة السبع بُحّات ” نازلاً حيث غوْر الدائر، عن جنوبي ملعب ” المكيدة ” والمباغتة الذي كان، أستحث خطى روحي، موازياً قليلاً بيت ” محمد سيد حسين ” المأهول حتى النخاع ب” نخوة قامشلو ” موازياً بعد مُتيْرات ” جاميا قاسملو ” منعطف تاريخ هلّل كردياً في مكبّرة وتبلبل في كردية متحيرة، أبعد منه قليلاً أخشع لأصوات شابة بحمى كرديتها ذات يوم لها وقعتها العالية، شمالاً قليلاً أنعطف، أقف أمام شاهدة ” جكرخوين ” في بيته الأخروي المنكوب: أكتب عليها: أين الأمة التي وعدتها يا ” أنا من ؟ “يأتيني ابراهيم يوسف مهرولاً، وصوته الجهوري يسبقه: لا تقف هنا كثيراً يا ابراهيم محمود، الجواب طعنة،
في الحال يصلني صوت ” محمد شيخو ” من على رمية جرح هائل في مقبرة ” هلالية ” الجنبية: هو ما يقول يا ” وعي الذات الكردية ” يجفلني القول، ليكمّله صوت من شمال قريب جداً، لـ” فرهاد عجمو ” حيث مقبرة ” هلالية ” الشمالية ” جملة اعتراضية: يا لكثرة قبور الكرد ! ” كما لو أنه كان يردد قصيدته ذات الصدى” كرسيستان “، فيدفعني قهر من جهات أربع، في طريق معبَّد بالملمّات، لتطل علي عامودا التواريخ ، كان عزيز الاسم أحمد نامي يردد قبل بلوغ مشارفها: سينما عامودا لم تتوقف عن الاحتراق، بشهادة من لا أنسى ظله: حسن دريعي ومأثرة روحه في كتابه الحرائقي، وفي جواره هيثم حسين وجراح الكردية تُروى في صفحات تترى داخلاً خارجاً، ليمضي الغرب الحدودي الرهيب، إلى درباسية آرشف أوسكان وقد أفزعني بروحه الملتهبة قلقاً، في الجنوب منها كان شهيد مبدأه مشعل تمو يناور سور ضريحه حنيناً إلى غاية لا تسمّيه وحده… ىطريق يزيد في قلق حساباتي، إذ أتحرك جنوب غرب، ثم جنوباً، حيث لوحة ” تل عربيد ” وثانية يستوقفني ظل ” محمد سيد حسين ” في وحدته الأهلية، وهو لا يكف صباحاً عن قراءة ” كردستان قصيدتي “، لأمضي أبعد قليلاً شرقاً- غرباً، في ” كَرفتار ” لأبصر قلب ” سيدا تيريج يبكي بليغاً ” أي بلبلى شادي.. “…
طريق يمر بي إلى بي ولا يدعني بما بي إلى خارج، وكل خارج داخل في رمامة الروح الكبيرة، كل شمال يسمّي الجهات الأخرى، وكل جهة يعيش أطوار عمرها المتسلسلة في الثلاث الأخريات.. حزاماً من دفاعات مضادة، على حزام من مجابهات تطل على نظيراتها الدقيقات بنهاياتها اللانهاية إيلاماً.
طريق يعبر الخريطة التي تسمّيني كردياً إلى خريطة تطوي كرديتي في غياهب تواريخ معتادة، وذاكرتي تستصرخني: ” بعدين معك ؟ ” وكل ما بي ذاكرات كغيري، كغيري طبعاً يقِظي الأفق.
طريق يتشعب طرقاً : شمالاً فخاخ، شرقاً انتظار مربك، غرباً، ضباب كثيف، جنوباً، سبخات لا يطمأن إليها ..
طريق يسلّمني إلى طريق وأنا أناور روحي فلي بقية باقية من حياة كغيري من الكرد بين إصابة بالغة، وأخرى قادرة على قراءة اسمها، وثالثة لا تستسلم لملح الألم أو يد قابض أرواح قانصة ..
طريق يمضي صحبة خيال بذي سرعة تحليقية عالية إلى لغات لا يحاط بها، ويحاط بها، أرى فيها بحاراً لم تدخر جهداً في إزهاق أرواح كرد ساعين إلى أمان هامشي، إلى غابات لم تدخر جهداً في امحاء كل أثر لنظراء لهم ساعين إلى الغاية عينها، إلى جبال وعرة رهيبة، لم تدخر جهداً كالبقية في الدفع بنظراء من ذكرت إلى ” هِوىً ” على تماس مباشر بالحتف النافذ، إلى حدود لم تدخر جهداً في تامين الكثير الكثير من النائبات والويلات والكوارث وما ملكت أيمانها من صدمات، والله في عليائه في حل من كل ما يجري رغم الكم الهائل من صرخة سليلة جراح جماعي لمخلصين لاسمه ومسماه دون مراجعة تذكَر بهم..
طريق ينفتح وهو تكاثر طرقاً، مسمّياً أورُبا وللكرد فيها طرق للحياة لا تخفي مفارقاتها بين رهان على الحياة، ورهان الحياة عليها، مع فارق المعنى، يقول جان دوست، بمركّب صوته الأسيان: هذه أسمائي وأنا عجنت مراجعها الدامغة في المأساة، يقول ابراهيم يوسف خارج ” شارع الحرية ” وهو في ” إيسنـ:ـه”، بتنويع تعابيره المقلة: جمهورية الكلب ثمرة خطيئة مرة من هذه الشجرة التي ربما أكلنا منها على الارض، ليجري نفينا حتى عن السماء، وابتسامة من بلبلة الشجن مزكين حسكو، كانت تطلق زفرة عبارة شعرية من نوع: هاهمو نحن، ها نحن همو، ماضون إلى جرحنا وساعون بجرحنا إلى ما نتجاوز به جرحنا، لئلا ننتهي دون شاهدة على جرحنا العريق، وهوشنك بروكا في أربعاء رماده الأثير، كان يبتسم بغيرة خاصة على أكثر من مهدور كردية هنا وهناك، بينما عزيز غمجفين وشيلان دوسكي، كانا منهمكين بتثبيت ورود كردستان، ولكل وردة قلب أحمر، تجذرت فيها شمس صغيرة رغم الألم.
طريق ينسلخ عن طريق أبعد من الطريق الألماني المشدود إلى مسافات مؤسسة على حسابات لا تضاء بيسر، طريق مشدود إلى أمثاله: هنا بروكسل، والكرد مناخات في مصاهر المفارقات.. هنا ستوكهولم، والكرد ساحات ومنعطفات في مفارقات يسخو الزمان الكردي بإنمائها، هنا باريس مهابط ما يضيء وعداً بكردية، وصداً لأكثر منها: بشهادة قاسملو وغيره، هنا لوزان، حيث لسان زازا يردد صرخته الكردية على مدار الساعة، هنا..، هنا النرويج كغيرها من شقيقات الجغرافية الباردة، والدم الكردي الذي يلثغ كثيراً في لغات تحاسبهم على كل حركة في واقع الحال، هنا براغ المأخوذة في حسبان المحنة كردياً بالتأكيد، روما، هنا، مدريد، هنا أثينا الأكثر من تجمّع ملمات ذاكرة شتات كردية مسفوكة وعنيدة مواجهة لموتها، هنا موسكو، هنا صوفيا، هنا صربياً، هنا استراليا، وجراح سويركلي المسجلة بكرديتها، هنا كندا والنزوح الكردي المعتاد، هنا كندا الجغرافيات، وأنا أقرأ في وجه محمد عزيز ظاظا ما يكبره ألماً كردياً وما يثقِل عليه به ذاتاً، هنا واشنطن، بعيداً جداً ، قريباً جداً.. هنا مدن، هنا بلدان.. كل جهة طريق، وكل طريق ملحمة في انتظار من يحسن إدارتها أكبر من المرتجل الكردي هنا وهناك..
كل طريق امضاءة جرح على جسد ماض إلى اسمه، ولا شيء يوقفه في انتثاره !
طريق متناسل من سواه، ربما فجر تاريخه، حيث الحواجز دون حساب، وما لا يُسر دون حساب، بما أن الذين يُنظر في أمرهم بحساب مغاير لغةً ورصيد تاريخ وقيماً، مغاير لحسابهم شديد التواضع..
ربما بناء عليه:
كل الطرق في الأعم الأغلب: دغْل تاريخ، والجغرافية مصائد في الأعم الأغلب للكرد حيث يُسمّون، وحيث يُدارون في الاسم المجهول إلى إشعار آخر، وأنا من جهتي بين معلوم ومجهول أنوس غالباً..