كيف أن الحيّ الغربي لم يعد موجودا؟

حسن داوود
ها هو إبراهيم اليوسف، كاتب الرواية وراويها وبطلها أيضا، يعود إلى شارع الحرية بعد غياب ثلاثين سنة. لم ينس شيئا وهو يتنقّل مقيما في البلدان، فهو يستطيع أن يسمّي كل ما كان قائما في ذلك الشارع، بل في حيّه الغربي على الأخصّ، مكانا مكانا وشخصا شخصا. وهو فعل ذلك في ما راح يرسم تلك الخريطة، معيّنا موضع كل شيء وكل أحد كان هناك، بل إنه عاد إلى تكرار ذلك في فصول روايته، واجدا على الدوام مناسبة لتلك الاستعادة، حتى أنه، مثلا، حين جعل يتذكر أين كان يلتقي حبيبته في تلك السنوات، يكتب متسائلا: «أعند دكانة بيرا آشيتي؟ أم عند دكانة أحمد كني؟ أم عند محل بدر للحلاقة؟ أم عند دكانة إسماعيل حمو؟ أم عند محل جارتنا مدينة والدة لالو المجنون بائعة الدجاج؟ أم عند ستوديو درويش؟ أم عند مرطبات الكمال، إلخ»، وستتلو ذلك أسماء أخرى توقّفتُ عن الاستمرار في إيرادها لئلا يطول الاستشهاد كثيرا. كأنه يمتحن تلك الذاكرة التي ربما لم يتوقف عن مساءلتها وتمرينها تمرينا يوميا. 
واحد من أسباب حرصه على دوام التذكّر هو أن يُبقي مَن كانوا مجتمعين في ذلك الحي باقين، مجتمعين مثلما كانوا. فقط ذلك المكان، أو تذكّر ذلك المكان، يبقيهم هكذا، خالدين، ناجين من التشتت الذي رمتهم به الحروب والغزوات وتفرّق الناس بين معتدين ومعتدى عليهم وسطوة الأحزاب، بل سطوة الحزب الواحد الذي، رغم تواتر ذكره لم يذكر الكاتب اسمه أبدا. 
وستبقى ذاكرة البطل إبراهيم اليوسف تعمل حتى وهو هناك، في حيّه. كان من هيّأوا له تلك العودة، وهو يصفهم في الرواية بأنهم مضيفوه، يدركون أنّ قدومه سيعرّضه، بل سيعرضهم هم أيضا، إلى الخطر. لذلك سيبقى في بيت أحدهم، كأنه سجين، ماكثا بين أولئك الثلاثة الذين لا تضفي الرواية على أيّ منهم ملامح تمكّنه من أن يُتصوّر أو يتخذ هيئة. ودائما في ذلك البيت المراقَب في الحي الذي يمكن لكلّ ما فيه أن يثير شبهة. هنا أيضا، وهو في جوار الماضي، بل في مكان الماضي، سيكون عليه أن يتذكر أيضا. كان يمكن أن يساعده على ذلك أرشيفه الذي أُحضر له من بيته إلى هذا البيت، لكن الكثير من الأوراق والصور ضاعت أو تلفت. بقي القليل، أو بقي ما يساعد على استرجاع ماض كتابي له، هو الصحافي كاتب المقالات والقصائد. أما الحميمي فينبغي أن ينتزع من الرأس، ومن رسائل قليلة باقية كانت تصله من حبيبته.
هو سجين إذن ولم يتح له أن يخرج من ذلك السجن إلا مرّة واحدة. ليلة واحدة قضاها كاملة مع حبيبته بريسكا، الباقية حبيبته، رغم عيشهما ثلاثين سنة بعيدين كل منهما في مكان من الدنيا. في تلك الليلة يُستأنف الغرام. عادا حبيبين كأنهما التقيا بناء على موعد ضرباه في اليوم السابق. كل شيء تغيّر في الحي الغربي، بل في شارع الحرية، بل في قامشلو كلها، بل في جميع سوريا، إلا ذلك الغرام. حتى أن الرواية لم تأت على ذكر أيّ من مفاعيل الزمن على بريسكا، كأن يلاحظ إبراهيم غضونا على وجهها، أو بطئا في حركتها، أو اختلافا ما في اقترابها لتقبيله، إلخ مما يمكن أن يشكل صدمة لقاء بعد غياب طويل، لأن حاضرها مكتنَف بماضيهما معا، أي أنها، في لقاء الليلة تلك، كانت مشبعة بماضيها. لم تُطلق عليها صفة واحدة جديدة، بل هي مثُلت مستدعاة لتكون كما هي في أوصاف شبابها الماضي. 
ولا أحسب إن كان لذلك اللقاء الوقع الذي نتخيّله ـ نحن المترقّبين ـ بشوق وفضول، كيف يجري لقاء يحدث بعد ذلك الغياب. بدت بريسكا كما لو أنها أُحضرت إلى إبراهيم ليكون في الرواية فصل غرامي يضاف إلى فصولها، أو إلى مجالاتها أو موضوعاتها الأخرى، لكن ينبغي ألا نغفل عن أن شارع الحرية هو موضوع الرواية الذي يظلل كل شيء. هنا أتذكّر تلك الفكرة التي تقول إن ما يؤلّف مسار الرواية هو تتبع مصائر الشخصيات، أو الأشياء، وتحوّلها.
الرواية، باستثناء شخصية بريسكا، دائبة في تتبع ذلك التحول المأساوي، حيث تؤرّخ للمسار المأساوي الذي لقيه أكراد قامشلي هناك، حيث لم يعد أحد ساكنا في ما كان في الماضي بيته، ولم يعد شيء قائما من الحياة التي صنعها خليط البشر في ذلك الحيّ. لقد فعلت الحرب، بل الحروب فعلها، وقد أرّخت الرواية وعلى نحو يشبه التوثيق أحيانا. وهي في ذلك خصوصا، في فصولها الأخيرة، تعدّت مجالها المكاني لتصير متناولة حرب سوريا كلها، ومستعيدة المصير التاريخي الذي يبدو مطبقا على الأكراد، منفلتة هكذا من التركيز على حيّزها المكاني الذي قرأنا عن مدى الخصوبة التي يمكن أن يكون حاملا لها.
ومما كان ما يؤثره قارئ هذه الرواية هو أن ينفصل كاتبها عن بطلها فيكونان اثنين لا شخصا واحدا. أقصد أن يصنع إبراهيم يوسف بطلا غريبا، حتى لو كان هو ذاته البطل، أي أن يكون أنا غريبا، إذ بات من الصعب أن يوجد بطل روائي حامل فضائل حسب. في هذه الرواية، أو السيرة، هو الكاتب العاشق المتذكِّر المتأسف لخراب بلده ولتشتت شعبه، هو المتعاطف مع هذا كله والناجي مما أصاب ساكني ذاك الحي، أو ذاك العالم. هو المؤيَّد من قومه الأكراد، والعادل في نظرته إلى المتحاربين. من الصعب على الرواية والسيرة أن يتحدا. هما فنان مختلفان، متنافران إلى حدّ أن ما يصحّ في أحدهما هو ضدّ ما يصح في الآخر. 
٭ رواية إبراهيم يوسف «شارع الحرية» 
صدرت عن «دار أوراق» في القاهرة و«برينت أوت»
في ألمانيا، في 208 صفحات، سنة 2017
٭ روائي لبناني
http://www.alquds.co.uk/?p=818987

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…