إبراهيم اليوسف
القصيدة الأولى
لربما كنت آخر من تواصل معه الشاعر محمد عفيف حسيني، في ليلة الثاني والعشرين من شهر آب الجاري، إذ إننا تواصلنا عبر رسائل الواتس الصوتية، وعبر اتصال هاتفي سريع، ولاحظت اليوم- صباحاً بعد إعلان خبر وفاته- أنه كان قد أرسل إلي رسالة لم أستمع إليها، على أحد رقمي هاتفيين، وكان قد أرسل خطأ- أيضاً- رسالتين وجههما إلى خال له**، سأتحدث في تفاصيل ذلك، عسى أن أقارب اللحظات الأخيرة من ليلته الأخيرة التي حدثني عنها، ومن بينها رسائل صوتية.
قبل كل شيء، تعود العلاقة بيني والشاعر محمد عفيف الذي كان يكبرني بحوالي ثلاث سنوات إلى أواخر السبعينيات. كنت في آخر المرحلة الثانوية وكان هو طالباً جامعياً، وكانت قصيدته سابقة على ما أكتب: إذ كنت أكتب قصيدة العمود والتفعيلة والنثر، بينما كان هو يقود معركة ضد الأولى منها، ويرافع عن الأخيرة، ويروج لها. كنت جد معجب بلغته التي كان يزاوج فيها- آنذاك بين لغة الحداثة و لغة التكايا الدينية بحكم ثقافة الأب، كما حالتي- باعتبار أبوينا صديقين- بل إن والده كان أقرب إلى عمي عبد القادر شيخ إبراهيم، بحكم تبحر كل منهما في علوم الشرع بما يجعل منهما علمين. كل في مكانه، إلى جانب ندرة من أمثالهما، ناهيك عن روابط أخرى لامجال لذكرها- هنا-
بعد أن نشرت في النصف الثاني من السبعينيات بعض قصائدي ونصوصي آنذاك كان يشن- في لقاءاتنا- هجومه على القصيدة الكلاسيكية، إلى جانب أصدقاء آخرين كما إبراهيم محمود و: زردشت محمد- وكان الشيخ محمد و زردشت يسبقاننا في علاقاتهما مع المدن الكبيرة، باعتبارهما طالبين جامعيين هو في حلب وزردشت في حمص، بالإضافة إلى محمد نور ويونس الحكيم وشيخموس العلي .معشوق حمزة، موفق حمو/ مردوك الشامي. د. دحام عبدالفتاح. عبدالمقصد حسيني. جمعة جمعة. أمير عبدالكريم. فرهاد دريعي. عدنان شربجي. بينما كان سليم بركات سابقاً عليهم وعلينا جميعاً. اسماً معروفاً نتلقف ما ينشره. إذ إنني تحت تأثير نقده و هكذا نقد إبراهيم محمود و الروائي عبدالسلام نعمان وآخرين كففت عن كتابة قصيدة العمود، وركزت على قصيدتي التفعيلة والنثر، لتكون قصيدة العمود مناسباتية، ألجأ إليها، لما تؤديه من دور مباشر، ولأقول بيني ونفسي:
إنني كما أ. جميل داري أتمكن من كتابة القصيدة التقليدية والتفعيلة بعكس سوانا، وهكذا أستاذنا معشوق حمزة، وآخرون من أبناء المحافظة. في هذه الفترة كنت وطه خليل- كمجايلين من أبناء مدينة واحدة- نكتب كل بطريقته، وإن كنت سأشتت جهدي بين كتابة: القصة، والولع بمحرقة الصحافة، انطلاقاً من قناعة ذاتية في خدمة الآخرين، ولعلي وحدي من كان على هذا النحو من بين هؤلاء.
الزيارة الأولى لمحمد إلي كانت قبل حصولي على الثانوية. زار منزلنا مع أحد الأصدقاء. كان بيتنا جد بسيط. وكانت مكتبتي الخاصة- لا مكتبة الأب- جد متواضعة، رددت على تلك الزيارة مع موفق حمو/ مردوك الشامي. التقيت هناك لأول مرة بالعم الشيخ عفيف الذي تفاجأت أنه يقرأ لنا، ويذكر عناوين نصوصنا، وينقد بعضنا، ويسجل ملاحظاته اللغوية علينا، إلا إنه كان منفتحاً أكثر على ما نكتبه ويتحدث عن محي الدين بن عربي وغيره من المتصوفة، لأخصص بعد ذلك وقتاً للعم الشيخ الكبير كلما زرت هذا البيت الفريد، وأراني الأقرب إليه، لاعتبارات عدة، نظراً لما جسره بيني وبينه الشيخ عفيف وهو يجلس وراء طاولته الصغيرة غارقاً في بطون مجلدات كتبه وحوله بعض رجال العلم وفقهائه ومحبيه!
علاقتي ومحمد توثقت. زياراته ومن حوله من الأصدقاء تكررت إلى بيتنا، ثم زاد من ذلك تقاربنا الفكري، لاحقاً، بالنسبة إلي، وصارت لنا لقاءات- حلقات الكتب- في عامودا وقامشلي، وإن إلى وقت جد قصير، قبل أن أطلق- منتدى الثلاثاء الثقافي- أو ملتقى الثلاثاء الثقافي1982.
كما شريط سينمائي. أتذكر لقاءاتنا في حلب في أواخر الثمانينيات، وولعه بمرايا السيارات الفارهة، وكان آنذاك في مرحلة- الجندية الإلزامية- يوصلني إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه لأيام، وهكذا في دمشق. كما أذكر خيباتنا الاثنين بعد إنهاء كلينا الجامعة. فرع الأدب العربي، وعدم قبولنا كمدرسين رسمياً. في العام1988- وصلتني رسائل كثيرة منه ومن جميل داري وكنت في حمص، مما قاله لي في إحداها:
إن لم يتم قبولي في مسابقة المدرسين فإنني سأسافر، واستلمت منه رسائل في العام1990. رسائل جد مطولة كان يذكر لي حياته في بلاد الاسكندناف. عن قططه. حبيباته، وولعه بالشوكولاته، وأنه سيرسل- بوط رياضة إلي- ولأخي عبدالإله. إن رسائله لم تنقطع عني، في السنوات الأولى من مرحلة هجرته، وهكذا هواتفه المطولة.:
إبراهيم لتأت أمي وعبداللطيف إلى بيتكم في قامشلي كي أتصل بهما هاتفياً
-إذ إن الخطوط الهتفية في عامودا كانت نصف آلية-
كنت أرسل أخي عبدالإله إلى عامودا ليعلمهما. أو أوصي سائق- باص جمعية عامودية ليوصل لذوية رسالة شفهية أو مدونة، باعتبار أبيه علماً، ليس في مدينته، والجزيرة، بل في الوطن كله، من دون أن ينسى ذلك، بعكس آخر، مثلاً، عندما استفز عبداللطيف حسيني، عندما كان ذووه يهتفون من بيتنا، فارتبك، وأحرج، لأكتشف الكثير عن هذا الشخص النهاز، وهذا أمر آخر. لم ينس محمد عفيف ما بيننا من خبز وملح، وقد كان يلجأ إلي أنى استدعت الضرورة ذلك، ولعل من بين ذلك أنه كلفنا- أنا والشاعر الراحل دهام حسن لخطبة فتاة قبل سنوات بعيدة. التقيت ودهام وتوجهنا صوب بيت الأسرة، بعد أن رننت جرس الباب، لأجدني وحدي، إذ لاذ أبو جوان بالفرار، لاعتباراته، وتركني وحيداً، في مهمة جد صعبة- وإن كنت قد قمت بمثل هذه المهمة مع أكثر من صديق كاتب أو زميل مدرس منفرداً أو في وفد- وأستدرك الموقف، بينما ابنة البيت تتنصت إلى حوارنا أنا و والدها، من وراء الجدار وتنقله إليه، كي يذكرني بموقف- محرج- تم معي- فور خروجي من بيت الأسرة- أنى تواصلنا، ويقهقه.
يتبع
*معذرة عن عدم ذكري أسماء شعراء آخرين سهواً *
**
سأبدي وجهة نظري حول هذه النقطة