تجنب مخاطِر الحسد

ماجد ع  محمد 

بعضُ الناس إن لم نبالغ ونقول الكثير منهم يتصرفون بتلقائية وبكامل البساطة يتحدثون أمام الأقارب والمعارف عما يقومون به أو عما ينجزونه أو عما ربحوه أو وصلوا إليه، ولا ينتبهون إلى أن هذه الكلمات العابرة قد تكون بمثابة الشرارة الصغيرة بجوار بيدرٍ يابس، وكيف أن الشرارة الصغيرة إن لم ينتبه الشخصُ إليها قد تتسبّب بحرائق كبيرة في البيدر أو الحقل أو الغابة، كذلك الأمر فالمعلومات التي نقولها عفوَ الخاطر أمام الآخرين قد تكون وبالاً علينا وتُشعل نار الحسد والغيرة في صدور مَن كان الحسد يُغطي مساحاتَ كبيرة من كينونتهم.
وصحيحٌ أن على المرء التخلص من بعض الهموم من خلال الحديث مع صديقٍ أو زميل، وأن يرتاح أحياناً في التكلم مع المقربين ويحكي لهم عن بعض أموره الخاصة، ولكن ليس كل شخص أهل لأن نُفرغ أمامه ما كان بقاؤه يجلب الأرق، لأن بعض الملفوظات يكون حملها ومسؤوليتها أكبر عندما تُندلق في حضرة مَن لم يكن أهلاً لسكب الخصوصيات في حُجراتهم، وبقاؤها طي الكتمان أقل ضرراً من إفشائها قِبال مَن لا يحفظ الأسرار، لأن ليس كل فرد أهل لأن نتحدث أمامه عن فشلنا أو نجاحاتنا، وحيث أن بعضهم إن أخبرناهم عن هزائمنا استغلوها للاستخفاف بنا والنيل من همتنا وتقديم صورةٍ لنا كأناس لا نصيب لهم من الظفر قط، وثمة أناس إن حدثناهم عن منجزاتنا فقد تثير تلك المعلومات التي نضعها بين أيديهم مشاعر الغيرة والحسد، واجتماع تلك المشاعر مع الأنانية قد تدفع بصاحبها إلى التدحرج صوب مراتع الشرور.
والإنسان الحسود حتى غلاصمه مهما كان قريباً منك فهو مهيأ في أيّة لحظة لأن يكون أخطر عليك من الخصوم، وأن يقوم بمحاربة منجزاتك، أو بناءً على ما حققته يعمل بالضد منك، ليس لأنك اقتربت من حدود مصالحه، وليس لأنك ألحقتَ به أيّ ضرر مادي أو معنوي، وليس لأنك تسببت بخسارته في مجالٍ ما، وليس لأن نجاحك كان على حساب خسرانه، ولا كان صعودك قائماً على إزاحته أو تقهقره، ولا كان تفوقك له علاقة بإخفاقاته الحياتية، ولا كان إزدهارك له علاقة بالتضييق على منافعه، إنما لأن موقد الحسدِ الموجود فيه جاهز لأن يشتعل في أيَّة لحظة، فأي عود ثقاب قادر على إضرام غيظه، وتلهيب غيرته، وإيقاد أحطاب الحسد الكامن فيه، وفي هذا الصدد يُحذرنا روبرت غرين من الأصدقاء والمعارف أكثر من الأعداء بما أننا لا نفشي أسرارنا للأعداء إنما لمن كانوا قريبين منا، وحيث يقول:” كن حذراً من الأصدقاءـ فسوف يخونونك على نحوٍ أسرع، لأنهم يُستفزون بسهولة إلى الحسد، كما أنهم يفسدون ويصبحون طغاة، والواقع أن لديك ما تخافه من الأصدقاء أكثر من الأعداء “.
لذا فلكي لا تثير حسد الآخرين وخاصة المحيطين بك من الأصدقاء والمعارف ليس بالضرورة أن تتكلم عن نجاحاتك المتتالية لهم، وليس بالأمر الضروري أن تخبرهم بأنك ميسور الحال، وأن تجارتك مربحة، أو مرتبك عالي، أو مردودك مرتفع جداً، أو أن مدخراتك كافية لأن تعيش بفضلها عقداً إن حل القحطُ في المرابع، وليس بالضرورة أن تخبرهم عن فوزك، أو أن يعرفوا ما تأكله كل يوم، وأين تقضي سهراتك، وفي أيٍّ من المطاعم العادية أو الفاخرة تتناول طعامك، وليس بالضرورة أن تخبرهم عن الأماكن السياحية التي زرتها أو الأنشطة التي شاركت بها، فلا تعطي الآخر مبرراً لكي تتفاعل محتويات ومواد الحسد المستتر لديه ليبدأ في التفكير السلبي بك، ويتهيأ لاختلاق أسباب العدان عليك، أو التفكير بوضع العثرات في دربك، أو نصب الكمائن أمامك، أو مزاحمتك في الأمور الأكثر حرجاً لديك وإغاظةً لديه، فهذه النماذج البشرية ينبغي أن تكون حذراً معها في الكلام، فلا تتحدث عما هو عليه حالك الميسور، ولا تخبرهم عن براعاتك المتلاحقة، إنما دعهم يتحدثون عن أنفسهم وأنت اقتصر بالاستماع إليهم، أو الإكتفاء بهز الرأس كدليلٍ على موافقتك لما يقولونه، لأنك بذلك تتجنب مخاطر بركان الحسد المضمر لديهم، وفي هذا الإطار أيضاً يقول غرين “إن ظهور المرء أفضل من الآخرين خطر على الدوام، ولكن الأخطر من كل شيء هو ظهور المرء بلا عيب وبلا ضعف، فالحسد يخلق أعداء صامتين، ومن الذكاء أن يكشف المرء عن نواقص فيه بين حين وآخر، وأن يعترف برذائل غير مؤذية، لإبعاد الحسد، ولكي يظهر المرء أكثر إنسانية وقابلية لأن يقترب من الآخرين، فالآلهة والموتى فقط هم القادرون على الظهور بمظهر الكمال والإفلات به من العقاب”.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…