فراس حج محمد| فلسطين
في هذه الكتابة المرتدّة إلى أيام المدرسة، حيث كنت معلماً، أعلّم الطلاب مبحث اللغة العربية، وما فيها من شعر ونثر وبلاغة وعروض، وقد علمت ما يزيد قليلا عن الاثنتي عشرة سنة من شهر ديسمبر 1995 وحتى أواخر شباط 2008، وعلمت خلال هذه الفترة طلابا وطالبات، وصفوفا مختلفة، وفي مدارس متعددة، وتحت ظروف متنوعة. اكتسبت في هذه الفترة تجارب غاية في الخصوصية والأهمية، وما يعنيني منها هو كيف كان الشعر في هذه التجربة وكيف تجلى في هذه المرحلة.
بحكم التخصص والمبحث والدرجة التي أحملها في ذلك الوقت (البكالوريوس، وأعد لنيل درجة الماجستير)، سأدرس الصفوف العليا، كان الصف العاشر الأساسي بشعبتيه نصيبي والشاغر في المدرسة الأولى التي علمت فيها أربعة أيام فقط، وأول حصة حضرتها مع المعلم السابق كانت حول قصيدة لمخائيل نعيمة “النهر المتجمد”، عرّف المعلم الطلاب عليّ، واستمعت لشرحه، وأكملت عنه الشرح، لست متذكرا هل شرحت بحضوره أم لا، لكن الشعر كان أول ما صادفني ورافقني وأمسك بيدي وأدخلني إلى غرفة الصف.
في الشعبة الثانية كان أيضا عليّ أن أشرح قصيدة “لا تعذليه” لابن زريق البغدادي، وهكذا كانت تجربتي في الأربعة أيام في مدرسة “سالم- دير الحطب” الثانوية مع الشعر في التدريس، أحد طلابي الذين علمتهم في الصف العاشر في تلك السنة أصبح معلماً، ونلتقي بين الفينة والأخرى، فيذكرني وهو يمد إصبعه “لا تعذليه”، كأنه يذكرني بالطريقة التي كنت أشرح فيها القصيدة أو ألقي فيها هذا المطلع.
أنتقل إلى مدرسة تل الثانوية للبنين، وأمكث فيها سنة ونصف، ودرست فيها الصفوف الأساسية العليا (7-9)، وعلمت مبحثي اللغة العربية والتربية الإسلامية، لا أذكر شيئا عن هذه المرحلة له علاقة بالشعر في بيئة المدرسة سوى زميلنا الأستاذ حسين الهندي- رحمه الله- وكان معلم المرحلة الثانوية، وكان شاعراً، ويلقي أشعاره علينا في غرفة المعلمين، وأمام الطلاب، وكثيرا ما كان يوظف شخصية “جانكيز خان” وهولاكو في نصوصه، رامزا في ذلك للاحتلال ووحشيته، حتى غدا شيئا لافتا ومتوقعا منه عندما يأخذ بقراءة القصيدة. ما لفت انتباهي في تجربة الأستاذ حسين أنه كان يلقي أشعاره أمام الطلاب، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أفعل مثله، متذكرا ما قرأته عن إبراهيم طوقان وأنه كان يلقي أشعاره في مدرسة النجاح الوطنية. ما زلت ملامح الأستاذ حسين (أبو أحمد) الباشة جدا حاضرة في مخيلتي، وهو منفعل بالقصيدة مندمجا في طقوس الإلقاء، كان يقرأ عن دفتر مكتوبة فيه القصيدة بخط اليد.
كتبت في تلك الفترة نصوصا خجولة، لا أذكرها، لكنني عرضت قصيدة منها على الأستاذ الهندي. ولم أعد أذكر ما قال، كنا جميعا نكتب في تلك الفترة على الدفاتر باليد، لم يكن الحاسوب طاغيا وشائعاً.
في عام 1996 تحدث الهبة الشعبية على إثر أحداث النفق في القدس الشريف، ولم تكن الطرق الفرعية والالتفافية معروفة أو “معبدة” في ذلك الوقت، فأضطر إلى الدوام- تعويضاً- في مدرسة قريتي؛ مدرسة تلفيت الثانوية المختلطة، ثم في مدرسة قصرة الثانوية للبنين، ولعلها كانت مختلطة في ذلك الوقت. في هذه الفترة أتعرف على طالب نابه من طلاب القرية يدرس في الفرع العلمي في مدرسة قصرة. يتعرف عليّ، فيحدثني عن قصيدة الأصمعي “صوت صفير البلبل”، وأنه يحفظها عن ظهر قلب، وأنها قصيدة صعبة والحافظون لها قلائل. كان الطالب يتحدث عن القصيدة بإعجاب شديد، وفخور بنفسه أنه يحفظها.
اكتشفت فيما بعد كم كانت القصة التراثية المتداولة خائبة، وكم فيها من التضليل، فالأصمعي لم يكن شاعرا، ولم يشر أحد من المؤرخين الذين أرخو له إلى الحادثة أو إلى القصيدة، وإنما أشار إليها حسن الكرمي في المجلد الرابع من سلسلة كتاب “قول على قول”، وهو الكتاب الذي احتوى أحاديثه الإذاعية لبرنامجه الشهير “قول على قول”. كانت تبثه إذاعة “BBC” البريطانية، ولعله أخذ القصيدة والقصة كما وردت في كتب القصاصين المتأخرة في القرن الحادي عشر الهجري دون أن يمحصها فتلك الأحاديث كان هدفها المتعة وليس البحث. عدا ما في القصيدة من خلل في الوزن واللغة والإعراب، ومفردات ليس لها معنى، ولا توجد في المعجم العربي، كل ذلك يقول إنه لا يمكن أن يقع الأصمعي في مثل هذا النص البائس التعيس، فالقصيدة- عموماً- منحولة، ركيكة، لا تستحق كل هذا الوهم المنسوج حولها.
يأتي العام الدراسي الجديد (1996/ 1997) وأنتقل إلى مدرسة قريوت الثانوية المختلطة، أعلّم فيها المرحلتين الأساسية والثانوية، طلابا وطالبات، ومكثت فيها أربع سنوات، كانت فترة زاهرة وزاخرة ومهمة في تجربة الشعر والكتابة والتعليم أيضا، فيها اختبرت قدراتي- فيما يخص الشعر- في تحليل النصوص الشعرية والبحث فيها والتعمق لأبعد ما يحتاجه الطلاب. في هذه المرحلة كنت أقرأ كثيرا في المصادر ذات العلاقة، وأكتشف أن ما في المقررات الدراسية غير يقيني، وأنه خاضع لوجهة نظر المؤلفين وما يعتقدون، فاكتشفت مثلا كذبة المعلقات وأنها قصائد علقت في الكعبة لنفاستها، إنه لم يكن أكثر من “خبر مكذوب فيه”، لراوِيَةِ شعرٍ كاذب. لا يصحّ أن يبني المؤلفون عليه محتوى تعليميا صادقا وحقيقياً. فبدأت بذور النقد تتخلق في ذاكرتي لأسائل- بعدها- كل محتوى تعليمي عندما أعلمه، وأشكّ في دقته العلمية، فأعود إلى المصادر والمراجع لأستوثق من “صحة المعلومة” وأكون على بينة وأنا أعلّم.
في إحدى الزيارات الإشرافية كانت الحصة قصيدة شعرية، وشرحت في أغلب وقت الحصة أربعة أبيات شعرية فقط، ما اضطر المشرف التربوي أن يشير إليّ بيده لأن أسرع، فشرحت بيتين إضافيين. أثنى عليّ المشرف كثيرا في تلك الحصة، وأثار انتباهه كمية الأسئلة وطبيعتها التي أثرتها من خلال الأبيات الستة أو المرتبطة بفضاء النص المعرفي.
كنت أدرّس البلاغة أيضا للصفين الحادي عشر والثاني عشر، وكنت حريصا في كل حصة أن يكون المتنبي حاضرا، فأبياته خير شاهد على المجاز المرسل، وعلى الاستعارات، وعلى التشبيه البليغ والتمثيلي والضمني. أقرأ في ديوان المتنبي وأفتش عن الأمثلة لتكون زادي في الغرفة الصفية. ومن طريف ما حدث معي في هذه الفترة، إحدى الطالبات، وهي طالبة ذكية ومتميزة، أصبحت فيما بعد معلمة، تصححني في شرح أحد أبيات المتنبي، أعود إلى الشرح بعد انتهاء الحصة فأكتشف بالفعل أنها على حق.
كتبت بالتأكيد في هذه المرحلة نصوصا شعرية، لكنها أيضا لم تعش معي، ولم أعد أذكر منها سوى قصيدة واحدة أسميتها “في معبد الأنوار”، وكانت في التغزل بإحدى الطالبات التي ستصبح فيما بعد زوجتي، كتبت القصيدة في الليلة التي أصبحت فيها خطيبتي بشكل رسميّ، وكنت أعلّم الطلاب العروض، ومن دروس العروض كان البحر الكامل، فكتبت المطلع على السبورة لأقطّعه عروضيا للطلاب، احتفاء بخطيبتي وبالقصيدة، ولكنني عدلت قليلا حتى لا أذكر اسمها، فقد كانت معروفة في السجلات الرسمية المدرسية باسم “نوار” وليس “أنوار”، فكتبت المطلع: “عتب الهوى إن الهوى أقدارُ وتفتحت باب السما الأنوارُ”
بدلا من “وتفتحت باب السماء نوارُ” في نسختها الأصلية التي أرسلتها لخطيبتي. أرضيت خطيبتي بهذا التحوير، وكانت خجولة جدا، وقطّعنا البيت عروضيا، ومر الموقف بسلام دون أن يحدث شيء مني أو منها ليدل على أن البيت من نظمي، مطلع من قصيدة طويلة.
لم أكن أعلّم النحو بجمل مقطعة، بل بأبيات شعر وآيات قرآنية، وأحاديث شريفة ونصوص قصيرة، كذلك كنت أستخدم النصوص في الأسئلة التقويمية في الاختبارات، فأعد نصا كاملا “مصنوعاً” بحيث يشتمل على كثير من القواعد الجزئية التي تعلمها الطلاب، ومن ذلك نص شعري كتبته خصيصا لامتحان النحو، وحشدت فيه كثيراً من “أسماء الأفعال”. تجربة وحيدة لم أكررها بعد ذلك، نظرا لأثر الصنعة البادية في النص التي تجعل الشعر باهتا، وينقص قدر الشعر وأهميته وروعته في أذهان الطلاب ووجدانهم فصرت أستعيض عن ذلك بكتابة النصوص النثرية لهذا الغرض.
في مدرسة قريوت الثانوية المختلطة تعود إليّ من جديد الأمنية القديمة في الظهور، تلك الأمنية التي تخلقت في مدرسة تل الثانوية لألقي شعرا أمام الطلاب في أحد الاحتفالات، ونحن نعد البرنامج والفعاليات المقترحة، وسجلت اسمي لألقي قصيدة حول مرور خمسين عاما على النكبة (1998)، كنت قد أعددت قصيدة باللهجة الشعبية بهذه المناسبة كتبتها في جامعة النجاح الوطنية على هامش يوم دوام في برنامج الماجستير.
رفض مدير المدرسة أن أشارك إلا إذا اطّلع على القصيدة، تحسبا منه أنني ضد “السلطة الفلسطينية” الناشئة في ذلك الوقت، كوني تحريريا. رفضت طلبه، فألغيت المشاركة. لم أتحسر على ضياع الفرصة، على العكس تماما، شعرت بأهمية أن أكون شاعرا يحترم موقفه وشعره، ويرفض وضعه تحت اختبار الرقيب مهما كان هذا الرقيب، ومهما كانت الفرصة الممنوحة لي لأشارك.
أعتقد أنه كان ثمة احتفال آخر في سنة أخرى، وقد شاركت طالبا من طلاب المدرسة في مبارزة شعرية. بدأت المبارزة بين طالبين من طلاب المرحلة الثانوية، أحدهما يهزم الآخر، فأكمل أنا هذه المهمة، نستمر طويلا ونحن نقول البيت ومقابله، كان الأمر شائقا وجميلا وخارجا عن المألوف، طال الأمر، وكلانا مستمتع بالموقف، لم أكن أفكر بمرارة الهزيمة لو غالبني الطالب الذي أعلّمه، فالأمر بالنسبة لي عادي وطبيعي جداً وخاضع للاجتهاد والتحضير. كان للطالب استراتيجية ليهزمني، كان بالفعل يخطط لذلك، فحشد لي أبياتا تنتهي بالضاد، على اعتبار أن الأبيات التي تبدأ بالضاد قليلة ونادرة، وهكذا، بيت وراءه بيت على قافية الضاد حتى كاد يستنزف محفوظي، بل إنه استنزفه بالفعل، ويحين موعد اللحظة الحاسمة عندما قلت مرتجلا من تأليفي: “ضعيفٌ أنتَ يا خصمي وتبغي صراع الناهلين من الجمالِ”
لم يبق وقت كثير، ولم يبق في كنانة الطالب أي سهم ليطلقه عليّ، كان الموقف مؤثرا جدا، وكنت على وشك أن أُهزم أيضاً. يفوز الطالب بالتكريم، كونه هزم زميله وقاوم بشراسة مع معلمه. يصبح هذا الطالب “المشاكس” شاعراً، ويكتب الشعر، وله كثير من المواقف الطريفة معي، فقد كنت وما زلت أحبه، وكان يزوروني في بيتي وكنت استأجرت بيتا لأكتب فيه بحث الماجستير. كان يزوروني كثيرا وكنا نتحدث في الشعر وفي غير الشعر. إنه الصديق “كريم عودة”. ولا أدري إن ظل يكتب الشعر بحماسة الشباب أم لا في اغترابه في بلاد الله الواسعة.
مرت مرحلة مدرسة قريوت الثانوية، وقد حصلت على درجة الماجستير في الشعر الفلسطيني الحديث، لأنتقل بعدها إلى مدرسة جوريش الثانوية منذ مطلع العام الدراسي (2000/ 2001)، وفي هذه المدرسة أيضا مكثت أربع سنوات، علمت فيها ثلاث سنوات المرحلة الثانوية، وكانت مرحلة مختلطة، لم يكن للشعر حضور مع الطلاب والطالبات في هذه المدرسة داخل الغرف الصفية إلا ما اعتدت عليه من تحليل النصوص والإسهاب فيها إلى أبعد مدى.
في هذه الفترة جربت الاجتهاد النحوي على بيت للشاعر حيدر محمود ورد في قصيدته عن مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، فيستفيض في مدح الهاشميين والملك حسين الذي عمّر قبة الصخرة فقال حيدر محمود قصيدته التي يجمع فيها بين الخليل وبين القدس وموقف الهاشميين (على رأيه) الداعم للقدس وللفلسطينيين. البيت هو:
“ويشهد الله أن القدس ما حملت يوما سوى الحب روحا في حواشيها”
وكان الخلاف في إعراب كلمتي “سوى” و”روحاً”، وكيف يمكن أن تُعرب الكلمتان، فحاولت أن أقدم وجهة نظري في اجتهاد نحوي، تأملت من خلال هذه التجربة ارتباط المعنى بالإعراب على نحو عميق، وقدّمت قراءة لغوية نحوية للبيت الشعري، وكانت بالنسبة لي فتحا مهما في مدى ارتباط النحو بالمعنى ومراوغة القارئ بمعنيين أو أكثر في التركيب الأدبي.
دفعتني هذه القصيدة وهذا الفعل التأملي لقراءة الأعمال الكاملة لأشعار حيدر محمود وديوانه الأخير “في البدء كان النهر”، والموازنة بين قصائده المغناة، تلك التي قالها باللهجة العامية الأردنية يمدح فيها الملك حسين، وبين أشعاره الأخرى التي يتحدث فيها عن فلسطين. لم أجد في الأعمال الكاملة مجموعة الأغاني الشعبية، ووجدت صورة أخرى للشاعرـ فتسللت إلى ذهني صورة الشاعر المستلب الذي سرقته السياسة، وشوهه النظام الحاكم، فالصورة التي يرسمها الشاعر “للهاشميين” كانت جدا خيالية، وغير واقعية، وفيها الكثير من الشك والمحطات التي يلزمها إعادة نبش وقراءة، عدا أن المبالغة أحياناً قرينة الكذب.
في مدرسة جوريش الثانوية المختلطة حققت حلمي القديم الذي كان يداعب خيالي. ها هي الفرصة مواتية لألقي قصيدة أمام المجتمع المدرسي، قصيدة حول حرب العراق. كانت معركة المطار وسقوط بغداد (2003)، وتصريحات “أحمد سعيد الصحاف” وصورة العراق الذي يقاوم أكبر قوة غاشمة في العالم، وصدام حسين وصورته القومية كبطل عربي عظيم، كل ذلك كان دافعا قويا لأكتب قصيدة ألقيتها أمام الطلاب بمقدمة نثرية انفعالية بلاغية:
يا أمّتي إن القريـضَ خجولُ ماذا ستجدي فاعل وفعولُ
لو يشهد الشعر القديم رثى لنا ولحار فينا الشاعر الضِّلِّيلُ
مدير المدرسة، رحمه الله، في تلك الفترة، أعجب بالقصيدة، ولم يكن يعلم أن القصيدة من أشعاري، أقرّ لي بالمقدمة النثرية التي صدّرت فيها القصيدة أما القصيدة فشكّ في أنها لي. كانت التجربة استثنائية، إذ إنني لأول مرة ألقي فيها شعرا أمام جمهور في حفلة المدرسة الختامية، معلمون وطلاب وأولياء الأمور، وليس في الإذاعة المدرسية كما كان يفعل الأستاذ حسين الهندي. ولدت الأمنية في عام 1995 وتحققت في عام 2003. هذا علّمني درساً في الإصرار وعدم اليأس.
خرجت من مدرسة جوريش شاعراً وفي رصيدي الكثير من النصوص المكتوبة بخط اليد، لم يكن لديّ حاسوب حتى تلك الفترة، كنت أتهيب من استخدامه، أنتقل إلى مدرسة تلفيت الثانوية المختلطة، معلما للمرحلة الثانوية فقط، للفرعين العلمي والأدبي، وأتسلم إضافة لذلك مكتبة المدرسة. كانت سنوات مدرسة تلفيت من أهم سنوات التعليم وأكثرها ازدهارا في تجربتي التعليمية في الجوانب كافة، في تلفيت الثانوية غدوت معلما ممتازا، واشتركت في برامج تدريب المعلمين مدرّباً مع المشرفين التربويين، كنت قد بدأت التدريب في السنة الأخيرة من سنوات مدرسة جوريش، وتابعت هذه المهمة من موقعي الجديد في المدرسة الجديدة.
كنت قريبا إلى الطلاب في المدرسة، أتابع معهم التدريس بالطريقة ذاتها في تحليل النصوص والغوص بها والتمدد المعرفي وخاصة مع الفرع العلمي في الصفين الحادي عشر والثاني عشر. كنت معنيا بالشعر لدى الطلاب، ثمة طلاب يكتبون الشعر، ويعرضونه عليّ، الطالب في الفرع العلمي- آنذاك- لطفي مسلم كان يجيد الوزن وكان أول اختبار حقيقي للكتابة الشعرية الموجهة في هذا الموقف.
كنت أتحدث في إحدى الحصص عن مدى التناقض الحادث في قول الشاعر: “بلاد العرْب أوطاني”، لم أكن أصدق قول الشاعر، أو لأكون دقيقا كنت أرى أن “بلاد العرْب” هي أكفان لنا وليست أوطانا، فلم تكن عداوة الأنظمة العربية بأقل من عداء الصهيونية لنا نحن الفلسطينيين، كنت متأثرا- وما زلت- بوجهة نظر حزب التحرير في هذا، فدول الطوق المعروفة التي تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم هي طوق حصار لنا لخنقنا ولمنعنا من المقاومة والتحرر، بالمقابل لقد كانت طوق نجاة للمحتلين، فلم يحم هذا الكيان الغاصب ويسهل مهمته في إذلالنا سوى هذه الأنظمة التي كانت تمارس علينا سياسة قذرة، وتضحك علينا، فكثير من الفلسطينيين كان في المعتقلات العربية في الأردن وسوريا على وجه الخصوص، يحاكمون على تهم تخص النضال الفلسطيني وأنهم أعضاء في واحد من فصائل منظمة التحرير، وقد مكث كثير منهم في أقبية السجون العربية أعواما كثيرة بمحاكمات جائرة أو مجرد حبس احتياطي دون محاكمة.
كانت أجهزة المخابرات نشيطة وتلاحق الناس على الشبهة، أو على شراء كتاب ممنوع أو قراءته، وعلى زيارة أحد “المشبوهين” من وجهة نظرها، يصدق في تلك الأنظمة المجرمة الحكمة السياسية: “ألسنتهم معنا، وسيوفهم علينا”، تكاد لا تصدق كل هذا وأنت تسمع لغة الإعلام والسياسيين بخطاب تضليلي عقيم، لكنه ذاب الثلج وبان المرج، ونبتت الحقيقة، وسقط القناع عن القناع، كما قال محمود درويش يوماً.
أدركت كم كان حيدر محمود شاعرا غير حقيقي وهو يمجد الهاشميين على سبيل المثال، وأنا ما زلت أعلّم قصيدته تلك للطلاب. كان التناقض الكبير بين القصيدة والواقع يشعرني بتفاهة النص، ولم تعد القصيدة تثير شهيتي للإشارة إلى مواطن البلاغة فيها أو احترامها بوصفها نصا شعريا عالي القيمة. كنت في تلك الفترة أيديولوجيا أكثر مما يجب أن يكون المعلم أو الشاعر والناقد الذي فيّ.
في هذه الأجواء من الرؤيا المشحونة بالعاطفة الدينية والانحياز الحزبي وتبني أفكار الحزب بحذافيرها، ولدت فكرة محاورة القصيدة “القومية” “بلاد العرب أوطاني”، فأتفق ولطفي- وهو طالب في الثانوية العامة- داخل الغرفة الصفية أن يكتب كلانا قصيدة بالمطلع الآتي: “بلاد العرب أكفاني”، لنكون جاهزين في الغد، كتب قصيدة جيدة بوعي متقدم، وكتبت قصيدة بنيتها على فكرة المقاطع. كانت تجربة مميزة واستثنائية أيضا. بعد ذلك بسنوات يصادفني قول سميح القاسم معارضا تلك القصيدة القومية الكاذبة جدا بقصيدة مؤلفة من اثني عشر بيتاً يبدأها بقوله:
بلاد الرعب أوطاني من القاصي إلى الداني
وينقض القصيدة بعد عدة سنوات كذلك، في عام 2011 الشاعر المصري هشام الجخ في قصيدته “التأشيرة” التي ألقها على مسرح شاطئ الراحة في برنامج “أمير الشعراء” بمرارة ممزوجة بسخرية وتهكم على هذا القول الذي “تعلمناه في مدارسكم”؛ قاصدا “الأنظمة العربية”. لقد نقض الجخ حقيقة في هذه القصيدة كل ما تعلمناه من أفكار، ليكتشف كم كنا نعيش في غباء مطلق وفي تدليس ممنهج.
كانت في الصف كذلك شاعرة أخرى صامتة، لم تطلعني على ما كانت تكتبه، أصادف قصيدة لها في جريدة “مسيرة التربية والتعليم”، فرحت جدا بهذه الولادة الشعرية لطالبة من طلابي، لكنني لا أدري بعد ذلك هل استمرت تكتب الشعر، كالشاعر لطفي مسلم أم أن تخصص الطب أخذها من الشعر. وحرم الشعر من موهبة شعرية كان يمكن لها أن تكون ناضجة وحقيقية.
فيما يتصل بتجربة التعليم المدرسي واندماجه مع الشعر، انتبهت على نحو كبير في مدرسة تلفيت الثانوية إلى أهمية قراءة الشعر قراءة جيدة، يظهر من خلالها أنه شعر، ليس فقط الصحة اللغوية، كان الطلاب- أو بعضهم على الأقل- يحبون أن ألقي على مسامعهم قصائد المقررات، كنت ألقي النص بإيقاع جميل لعلني أوصل جمالية ما مصاحبة للنص، بالإضافة إلى أنني كنت أدخل الطلاب في تحدي القراءة الجيدة، بحيث يظل الطلاب متابعين في القراءة الجهرية حتى يخطئ زميلهم؛ فإن أخطأ توقف، ليعيد طالب آخر القراءة من أول النص.
يقبل أحد طلاب الفرع الأدبي التحدي ويكمل القصيدة كاملة دون أي خطأ، وكان نصا شعريا صعبا، أشعر بنوع من الزهو، والطالب يستشعر انتصاره في هذا التحدي، فكلانا كان مزهوا بالفعل، المعلم حقق ما يريد من قراءة الطالب نصا صعباً دون أخطاء، والطالب يصل إلى خط النهاية دون أن يتعثر بحرف. يا له من شعور رائع بالفعل، تحبس فيه أنفاس الطلاب جميعا ويتبّعون لزميلهم، وأنا أرهف السمع جيدا لألقط الخطأ، فإذا ما أخطأ طالب تنبهنا جميعا، وعندما وصل هذا “العنيد” إلى خط النهاية بسلام ضجّ الصف بالتصفيق، كان موقفا لا أروع منه ولا أبدع. كأن الطلاب كلهم قد اجتازوا خط النهاية معه، وشعروا بأنهم انتصروا عليّ، فزميلهم حقق ما لم يستطيعوا تحقيقه.
عندما جاء قرار تعييني مشرفا تربويا بتاريخ: 24/2/2008، مكثت في المدرسة أربعة أيام أخر، لأنتقل إلى الإشراف التربوي في يوم 28/2/2008، ولعلني كنت أدرس الطلاب في هذه الأيام الأخيرة نصا شعريا من نصوص المقررات الفلسطينية. وفي بداية العمل الإشرافي أكتشف موهبة شعرية ستشق طريقها الإبداعي في الجامعة، ونشترك سويا في مهرجان المنارة الشعري الثاني إلى جانب شعراء وشاعرات إنه الشاعر همام حج محمد.
أكتشف في نهاية هذه الكتابة أنني أكتب أيضا عن زملاء رحلوا إلى عالم الخلود، من معلمين ومديري مدارس. رحم الله أساتذتي ومعلميّ وكل من ساعدني بشكل مباشر أو غير مباشر وأثارني بقصد أو بغير قصد لأكتب الشعر وأرعى الشعراء الطلاب، وإنها- والله- لمهمة عظيمة أن يؤدي أحدنا هذا الدور إلى جانب دوره معلماً، فدور التعليم أبعد من شرح المحتوى ويتعداه لصناعة مبدعين، أو على الأقل يساعد على توفير الأجواء المناسبة ليكون هناك شعراء وكتاب جدد. وليسامحني طلابي ممن دفعهم الخجل أو القسوة أحيانا على ألا يُظهروا مواهبهم في الكتابة أو لم تتح لي الفرصة أن أرعاهم كما رعيت زملاءهم الآخرين، وليعلموا أنّ “الكلّ ميسّر لما خلق له”.