قراءة: عبد الستار نورعلي
منْ أساسيات بنية الشاعر الذاتية والشاعرية المهمة والضرورية في بناء القصيدة هي خلفيته الثقافية الشعرية المُكتسَبة الى جانب الموهبة الفطرية، وإلمامه بشتى العلوم اللغوية، والفنون الأدبية، إضافة إلى الثقافة العامة الدينية والتاريخية والفكرية والفلسفية والاجتماعية والعلمية، وهذا لا يعني التعمّقَ التخصصي الدقيق، وإنَما الإطلاع والمعرفة العامة التي تُغّذي العقلَ والنفسَ، وتُغني شعريةَ الشاعر.
الشاعر ذو الثقافة العامة الواسعة قادرٌ فنيّاً أنْ يستفيد من العلوم الأخرى في شكل ومضمون القصيدة، لا إرادياً ولا تعمُّداً، بل عفويّاً لاشعورياً، حين ترتبط الحالةُ الحسيّة، والمعايشة المضمونية الموحية والخالقة للقصيدة، بما مرَّ منْ قراءة سابقةٍ لمادةٍ ما أو نصٍّ أدبيٍّ أو دينيٍّ أو قولٍ مأثور يتفاعل ويتعالق مع النصّ المكتوب، فتتسرّبُ الى بنيته، حين يكون أثرُ تلك المادة أو النصّ كبيراً، وعميقاً في نفس الشاعر.
وهذا يبيّنُ مقدار ثقافة الشاعر منْ خلال قصائده، وإغنائها، ومنحها بُعداً جمالياً وتعبيرياً، ومساحةً كبيرةً لتنقّله بقوة وسلاسةٍ، دون ضيقٍ في المجال التعبيري، والخيالي، والثراء اللغوي والتضميني؛ لأنّ الشعر ليس لغةً وألفاظاً وصوراً مُقَنّنَةً وبلاغةً وشكلاً فحسب، وإنّما هو عالَم زاخرٌ بكلّ ذلك، إضافةً الى سعة الإحالات الصُوَريّة والحسيّة والفكرية والفلسفية والتاريخية والدينية والأسطورية والاجتماعية والحِكم والأمثال، بقدر العلاقة بين حالة الشاعر ومضمون القصيدة، وبين الإحالة والتضمين والاقتباس التي تردُ في سياق النصّ. والشرط كما ذكرنا أنْ يكون ذلك مِنْ خلال العفوية في التعبير أثناء ولادة القصيدة بشكلٍ تلقائي، لا مُقحَمٍ إقحاماً أو مضمونٍ قسراً ، وإنّما طبيعياً نابعاً مِنْ طبع الشاعر الحسّي وقوة شاعريّته، وعمق الأثر الإحالي وتجذُّره في نفسه وحافظته الغنية بالمحفوظات منَ النصوص المتنوعة.
عدنان الجزائري شاعر له موقعه العالي في الشعرية العراقية، يكتب العمودي (القصيدة الفراهيدية/ الكلاسيكية)، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، أي ألوان الشكل الشعري المتنوعة، وباقتدار وإمكانية وحذاقة الشاعر الأصيل. وله دواوين عديدة منشورة.
في استقرائنا لعالمه الشعريّ الغنيّ، نجد أثرَ القرآن الكريم كبيراً وواضحاً بجلاء، من خلال التناصّ مع النصِّ القرآني (التضمين والاقتباس بمصطلح البلاغيين القدامى)، التناصّ الذي يتسرب بعمق متفاعِلاً ومتقاطعاً في بنيةِ قصائده الداخلية شكلاً ومضموناً، ليضفيَ عمقاً في المضمون، وقوةً وجمالاً في الشكل، مما يمنح شعرَه فخامةً وجزالةً ومتانةً، وسَبكاً مُحكَماً. وهذا يدلُّ على ثقافته الدينية الواسعة، وحافظته التي تكتنز آياتِ القرآن الكريم، ومعرفته العميقة بالنصّ القرآنيّ وتفسيره. وحين يتقاطع النصُّ القرآني مع نصّه، يحدثُ التفاعُّل الداخلي الروحي المتلاحم والمتقاطع مع التجربة الحسيّة التي فجّرت القصيدة، ليُطلَّ برأسه فيها. وهذه إشارة صريحة إلى الأثر القرآني الناحتِ في نَفْس الشاعر، وأحاسيسه، وعواطفه، ومخيلته، ولغته، وأسلوبه. وهو دليل على قراءاته الغزيرة والمُعمّقة والواعية والمتأملة في آيات الكتاب الكريم، ولغته وبيانه الساحر الذي يجعل اللسانَ فصيحاً، واللغةَ صافيةً متينةً، والقلمَ جَزلاً، والأسلوبَ نقيّاً سليماً، والبلاغةَ عاليةَ الأداء والصحة وفي مكانها المناسب للمَقال؛ لتؤديَ دورها في خلق صورةٍ مبهرةٍ بإطارِ لغةٍ مسبوكةٍ سَبْكاً مُحكَماً، لتكون القصيدةُ محيطةً بكلِّ مقومات النجاح والوصول الى المتلقي بأجمل وأبهى صورةٍ، دون شوائبَ أو نشازٍ، أو ثقبٍ مِنْ عيبٍ، يؤاخَذ عليها الشاعر.
هذا الأثرُ القرآنيّ الكبير في قصائد شاعرنا هو إشارةُ ودليلُ حفظهِ لآياته وعِلْمهِ، وإحاطتهِ ودراستهِ الشاملتين، وأثر القرآن المحفور والمتجذِّر في نفسه ووعيه وذاكرته، لا مِنَ الناحية القُدسيةِ فحسب، بل أيضاً منْ ناحية إعجاز القرآن الكريم، لغةً وبلاغةً وفصاحةً وبياناً، حتى أصبح المرجعَ الأولَ والأساسَ الأقومَ لعلوم اللغة العربية، لأنَّ في بيانِهِ لَسحراً. هذا الإعجاز رافدٌ لا غنىً عنه، بل هو الأصلُ والفصْلُ في روافد ومنابع اللغة الشعرية، وفنون الكتابة عامةً، إذْ يضخُّ أسلوبَ الكتابة بالطلاقة والفصاحة، والبلاغة والسلامة، والنقاء والجمال، فيكونُ النصُّ متكاملَ القوام بهيّاً ومؤثّراً. لذا يحرص المبدعون الحقيقيون الأصلاء على التزوِّد من هذا المعين الربانيّ، والغذاء الروحي، والإعجاز محتوىً وشكلاً. ومن هؤلاء الشاعر عدنان الجزائري، كما أسلفنا.
يقول في قصيدة “لا…” من مجموعته “ركام الذكريات” ص 10:
سأوقدُ سنيني “سراجاً وهّاجاً”
يُضيءُ عتمَتَكَ التي
لنْ تفارقَ سجاياكَ
فقد تناصّ هنا تناصاً تضمينيّاً (التضمين بمصطلح البلاغة القديمة) لنصٍّ هو”سراجاً وهّاجاً” مع الآية الكريمة 13 منْ سورة النبأ:
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)
وذلك في بوحهِ ومناجاته التعبيرية في القصيدة، إذ يبدأها:
لا، تشغَلْ نفسَكَ بي
فالأمرُ سِيّان
إنْ جئْتَ مُعتذِراً
أو عُدْتَ أدراجَكَ!
في هذه المناجاة يُعبّر الشاعر عن عتابه للمُخاطَب الذي فارقه بعناد، والمليئة سجاياهُ بالعتمة، فيخاطبه بأنّه رغم ذلك يُشعِلُ نفسه مصباحاً منيراً (سراجاً وهّاجاً) يضيء ظلامه. هنا ومع انسياب مناجاته بسلاسةٍ، وطَبْعٍ شعريٍّ، ومنْ وحي ولادة القصيدة، وحسّه ومشاعره وخياله الجامح – دون إرادةٍ مُسبَقةٍ وإقحامٍ مقصود – تناصَّ مع نصّ المُصحَف الشريف، الذي يحفظه عن ظهرِ قلب، والمُتواشِج مع روحه وسمو عاطفته، فجاء عفوَ الخاطر، لِيضيفَ جمالاً على جمال، وقوةً على متانة القصيدة وسبكها المُحكَم، وحِنكةً بلاغيةً، وصورةً باهرةً.
ومِنْ تناصّهِ التضمينيِّ أيضاً مع آيات القرآن الكريم ماوردَ في قصيدة “لكم…” مِنْ نفس المجموعة الشعرية ص 35 :
لكمْ
“ما تشاؤونَ،
ولديْنا مَزيدٌ”
مِنَ الألمِ:
حيث تناصَّ تضمينياً شِبهَ تامٍّ مع قوله تعالى في سورة ق الآية 35:
” لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ”
وفي نفس قصيدة “لكم” وفي نهايتها يردُ تناصٌّ تضمينيٌّ تامٌّ مع نصٍّ قرآني آخر وهي الآية 34 منْ سورة النَمْل حيثُ يقول في القصيدة:
وابْتلَعَتِ الحِيتانُ مَجاذيفَنا
حِينَها آمنْتُ ب:
“أنَّ الملوكَ إذا دَخلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكذلكَ يفْعلُون”
ووضَعَ الشاعرُ الآيةَ الكريمةَ بين مزدوجين صغيرين لأنّها نصٌّ كاملٌ مأخوذٌ تضميناً نصّياً تامّاً، ليس فيه أيُّ تغيير في الألفاظ وأماكنها فيكون حينها صياغةً تفاعليةً تشابكيةً تامّةً، يبان فيه الأثر النصّي الكبير في صياغة المضمون، ويرمي فيها الشاعر إلى قناعته التامة مضموناً وشكلاً بما جاء في الآية الكريمة، وهو أيضاً منْ باب التأكيد شرعياً على مضمون قصيدته، وما كان خلفَ ولادتها.
ومنْ هذا الباب أيضاً (التناصّ التضمينيّ) ما جاء في قصيدة “طيف” ص 17 :
“فلمّا عَسْعَسَ الليلُ”
كُنْتُ مُمسِكا بآخرِ
نبضةٍ كادَ القلبُ
يلفظُها :
وهنا تناصُّ آخر مُضاءً بمصباحٍ ثقافيٍّ كشّاف أمام القارئ، تضمينً من قوله تعالى في سورة التكوير الآية17 مع استبدال لفظ وتقديم آخر:
“وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ” .
فبدلَ أنْ يقولَ مثلاً: (فلما اشتدَّ ظلامُ الليل) كان النصُّ القرآني المنحوت والمحفوظ في لاشعورِهِ أسرعَ إلى أَخْذِ مكانِه ليتعالقَ مع القصيدة وموقعها التعبيري في الصورة المخيالية لدى الشاعر، بمعنى هناك علاقة متبادلة بين الصورتين المتخيلتين والمتعالقتين في نقطة لوحةٍ وإشاراتها الإيحائية في مخيلة الشاعر لحظةَ ولادة القصيدة.
ومنْ هذا الباب أيضاً قولُه في قصيدة “فعل جامد…” ص 32 :
ف”إنَ شرَّ الدوابِّ
الصُمُّ البُكْمُ”
وبئسَ الوَغْدُ حينَ
يمتطي أفكارَهُ الباليةَ:-
هنا تضمينً صريحً منْ قولهِ تعالى:
“إنَ شرَّ الدوابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِيْنَ لا يَعْقِلُوْنَ” الأنفال 22
التناصّ الاقتباسي (الاقتباس بالمصطلح البلاغي القديم):
ورد هذا التناصّ كذلك بشكلٍ مُلفتٍ، ممّا يُعزّزُ ما قلناه عن الأثر القرآني الطاغي على كثيرٍ من قصائد الشاعر، والمحفور في ذاكرته الحافظة اللمّاحة النشِطة المتحرِّكة. ففي خاتمة قصيدته (لا…) يردُ هذا التفاعل والتشابك مع الكتاب الشريف:
وجَدْبَ العُمرِ الذي
اسْتفاقَ بعدَ حينٍ
منَ الدهرِ لَمْ أعُدْ
أمراً مذكورا
حيثُ تناصَّ في هذا المقطع مع قوله تعالى في سورة الإنسان الآية 1:
“هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا”
فقد اقتبس الشكلَ والمضمونَ تناصّاً اقتباسيّاً منَ الآية الكريمة، ووضعها في قالبٍ صياغيٍّ آخر لا يُشعِرُ بأنّه منَ القرآن الكريم.
وفي قصيدة (طيف…) يحكي عن الذكريات التي يرزح تحت وطأة أحلامها الثقيلة على نفسه ليلاً يُرخي سُدولَهُ بأنواعِ الهموم، هذه الذكريات مرّت وكأنّ الريحَ ابتلعتها. هنا يُطلُّ التناصّ الاقتباسي برأسِه ليظهرَ أمام المتلقي اللبيب:
لمّا جاءني طيفُكَ
كُنْتُ ألَمْلِمُ بعضاً
مِنْ ذكرياتٍ
عفا عليها الزَّمنُ،
فصارَتْ كعَصْفٍ
مَضغَتْهُ الريحُ!
“كعصْفٍ مضغتْهُ الريحُ” أي كورق شجرٍ كسّرته الريح. وهنا تعيدنا العِبارةُ مباشرةً إلى قولِهِ تعالى في سورة الفيل الآية 5 “فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأكول”. إعجازُ النصّ القرآني هذا لغةً وبلاغةً والذي يقيمُ في حافظة وذاكرة شاعرنا تسلَّلَ في ثنايا انسياب القصيدة مع شيطان شعره لينزلقَ تناصّياً اقتباسياً مع الآية الكريمة، وهو يبوح بأثر الذكريات في نفسه. وكما ذكرْتُ سابقاً منْ خلال طَبْعِهِ الشاعريّ وشعريته العالية، وليس صناعةً تضفي جموداً على الصورة المُصطنَعة.
وفي قصيدة “قَ…سَم…” ص 29 يمرُّ بنا كذلك التناصّ الاقتباسيّ واضحاً جليّا، حيثُ يقولُ الشاعر:
لا.
أُقسِمُ بأنّكَ الذي
آويْتَ ما تلاهُ
قلبي إليكَ،
وهو تناصٌّ صريح معَ قوله تعالى في سورةِ القيامة الآية 1 :
” لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ”
وأيضاً ما جاء في نفس القصيدة :
فلا عَاصمَ
مِنْ أمرِكَ إلّاكَ
يا أيُّها المُتلَّبِسُ بيْ
عطشاً
وهو ما يُعيدُ في أذهاننا لحظةَ قراءةِ هذا النصَّ الآية الكريمة 43 منْ سورةِ هود:
” قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ”
بعد هذه القراءة والاستشهادات والعرض لخاصيّة التناصّ في قصائد الشاعر العراقيّ ابن المدحتية في بابل الشعراء (عدنان الجزائري)، وفي ديوانه “ركام الذكريات” أنموذجاً من باب التمثيل وليس الحَصْر، إذ نجد هذا الأثرَ القرآنيّ كبيراً في المجموعة الشعرية هذه، وفي مجمل شعره، بعدها نترك للأساتذة النقّاد والباحثين الأكاديمين تتبعَ هذا الأثرَ، وغيرَه من خصائص شعره الكثيرة.
عبد الستار نورعلي
تشرين الأول/أُكتوبر 2022