ابراهيم محمود
لم يكن بيننا موعد، وأنا مقيم في دهوك، وهو رحالة حدودي، سوى أن موعداً كان حافزاً على اللقاء، موعد عبر الفن وفي الفن وتداعيات الفن، في بيته الأربيلي الذي يحل فيه بين الحين والآخر، والقاسم المشترك بيني وبينه، في اللقاء حين توجهت إليه صباح الجمعة3 آذار 2016، كان سؤال الفن، وهو يرتبط بعمل أنجزتُه ليس لي تماماً وأراد إنارته وأردتها كذلك، وحين التقينا، شدَّنا اللقاء إلى عمل آخر يتطلب أكثر من قطع مسافات طويلة.
Șivan Perwer، هو نفسه الذي لا يقيم في مكان إلا ويضفي عليه ما هو أكثر من المكان بحيوية الفن، وقد طال اللقاء ساعات ثلاثاً، حسبتها دقائق معدودات، وقد حاولت أن أصغي كثيراً لأستشرف في فنه ما سمعته عبر أغانيه، وأتلمس خلَل حديثه المتشعب وشائج القربى بين كلماته ومسيرته الفنية، لأقارن بين اسمه وهو في حديثه العادي والمختلف حيث لا يكون عادياً، واسمه وهو يتراءى منصهراً في لاتناهي فنه عبر المئات من أغانيه.
أردت الانصراف سريعاً، فكان الإلحاح بالبقاء للغداء المشترك، فكان هناك غداء وغداء آخر” طعم الكلام المرافق “، كان تنقله بين ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي وعلمي وتاريخي، هو الترجمة الدقيقة لخاصية الفنان الذي ينظر إلى الحياة كفن لا يحاط به، إلا أن الفنان الذي يهِبُ روحه للحياة وله موقع فيها، وفي موقع ثمة شعب كامل ينبض، شعبه الكردي، الآخرون وهو في تنوعهم، من خلال احتضانهم حبّياً، يكون لمجرى القول حسن العاقبة.
عن بُعْد كنت أتابعه، وعن بعد حاولت تصوره، تخيله، وعن قرب رأيته واستمعت إليه وتحاورنا معاً، ومعنا، وبيننا الأخ حاجي أحمد مدير أعماله بسلالة مشاركته، وكما هو فضاء الفن، كان للكلام وعليه أن يتعدى حدود المكان، ويكون تشديد مشترك على ما هو مشترك في عمل لن يُسمّى إلا حين يعبُر برزخ الصمت إلى مجال المسموع والمقروء.
يتحدث Șivan Perwer مع روحه وبروحه، فثمة خبرة حياتية، ثمة صداقة طويلة تستغرق أربعة عقود من الزمن، وهبتَ الكلمة دفقاً ينبوعياً. لا غرابة في ذلك، فالرجل قدَّم الكثير ، وهو ينثر سنوات عمر مديد في جهات أربع، وانبسط ظله خارج مسقط رأسه، وبلدته، والجهة الجغرافية التي خرج منها، كما لو أن انسيابية الكلام تتناسب والمجاهدة التي تعرّف به لمن يعنيه أمره. كان يتكلم، وينوّع في الموضوع، يتكلم ويرنّم الكلمة أو ينغمها تأكيداً على أن لكل كلمة طعماً مختلفاً وإيقاعاً مختلفاً رغم المخرج الواحد، وليعزز فكرة تنوع الحياة، يتكلم ويصغي، ويتأمل وينظر ملياً، وفي كل حركة ثمة شارة لها نسَب فني، وقد لا أكون مبالغاً إن اختصرت القول هنا بأنه في اللقاء المستغرق لساعات ثلاث اختصر عمراً من حيث العلامات الفارقة، إذ عبر التنقل من فكرة إلى أخرى، تبدو أغانيه، تبدو ألحانه، وكأنها شهود عيان على أن الرجل لا يتحدث إلا عن فنان يلخص حياة شعب، أناس معذّبين بحبهم للحياة، للتمايز، وهم كرد كرد.
من يتابع Șivan Perwer، لا يخطىء النظر، في أنه رحالة حدودي، ومصادق لغات وثقافات ومقيم فيها، حيث تسعفه إرادته في تعميق الوصل بين الواحدة والأخرى، وفي المحصّلة يكون ثراء الفن طبعاً، ومن يتابعه وهو مسكون بنار الفن، يتعرف على طلاقة محيّا الفنان، تمدد أفق الرؤية، مزجه ما كان بما هو راهن بما سيكون، يكاشف نزيل زمان مفتوح، وهو يجيد التحدث بأكثر من لغة، سوى أن كرديته تكون عتبة انطلاقته إلى ما يريد، وذاك هو صواب الفن .
في بيت Șivan Perwer الطليق، أردت لقاء خلتُه محدوداً، وإذا بي في نقطةِ ما قبل البداية، فبيته الطليق ليس أي بيت كان، حيث يستقبل كل من مأهول ببذرة فنية تتكلم الكردية المفتوحة على العالم وتتحرر من كل وصاية عليها.
وما أكتبه هنا، شارة ذكرى، تذكار للحظة زمنية، جمعاوية، مؤرَّخة، لعمل مشترك نظير الفن أو توأمه أو معزَّزٌ به، وسلام لروح تتنفس حياة بكامل جسدها، وهي تريد معانقة كل كردي حيث كان، أنّى كان !
دهوك- في 4-3/2016