فن الكاريكاتير متى وأين كان مجرد سخرية…؟!

  يحيى السلو

                   فترى طويلة توقفت عن الكتابة لظروف خاصة واكتفيت بالكاريكاتير ومما دفعني إليها ثانية هو
ردود الفعل لدى بعض الإخوة الأعزاء تجاه بعض لوحات كاريكاتيرية حيث تناولت فيها شخصيات كردية محلية واعتبارهم الأمر “حسب رأيهم طبعا” – إساءة– والبعض لديهم تحفظ من نشرها. والسبب : لعدم حدوث حساسيات.

       والغريب في الأمر ان يكون هذا موقف بعض مثقفينا الأفاضل علماً – ماشاء الله – لا ينقصهم إلا الدق على الخشب عند ذكر أسماءهم , و تحدثهم ليل نهار عن: الاستقلالية و الموقف الحر والكلمة ..والمصداقية… و المكانة .
        بنظرة أولية الأمر يدعو إلى الاستغراب .كيف تكون تكوينة هذا المقاس من المثقفين ..؟ مشرفين على وسائل إعلام ” ولو كانت متواضعة الإمكانيات”. المهم هنا الموقف والاقتراب.. ولكن التمعن بعيدا عن السطحية تكتشف إن الأمر في غاية البديهيات ويجب تقبل الواقع و ترى فعلا الأمر عادي واقل من العادي.

حيث التكوين الثقافي الشمولي بالإضافة إلى العقلية الكردية القروية الضيقة الأفق, التي تتنرفز من أية قول : طربوشك اعوج. ولا أريد التطرق إلى هذا الجانب لان معظم الأقلام تتناولها بصورة يومية , فما بالك أن ترسم احدهم وبلوحة كاريكاتيرية وتظهر عورات أخطاءهم, كما هو واجب فن الكاريكاتير.

        فن الكاريكاتير ” رسماً” دون شك حديث كردياً وحتى لازال هنالك بعض مثقفينا الأفاضل لا يعتبرونه فن و عدم إعطاءه أية أهمية. وبالمقابل هناك محاولات جادة من قبل بعض الفنانين لتفعيل دور هذا الفن إلى جانب الكلمة.. هذا الفن الذي تخطى خطوات جبارة في المجتمعات الأخرى. حتى بات فن الكاريكاتير من مكونات الصحيفة اليومية الأساسية , ومن أبوابها المهمة , إلى درجة بمثابة افتتاحية القراء المحببة. ولم يكن بالنسبة لهم فن الكاريكاتير مجرد نكتة عابرة أو إساءة حسب ما ذهب إليه إخوتنا, بل من خلاله يمكن رصد حركة البلد الاجتماعية والسياسية, واحد أسلحة التغير والتطهير في المجتمع.. وهو إلى جانب ذلك الحيلة التي تجعلك تقبل مرارة الواقع بطريقة ساخرة يساعدك على التعايش من جهة وأكثر قدرة على محاولة تغييره من جهة أخرى.
  ودون شك دور الصراع مرتهن ومندمج مع متطلبات الصراع والمواجهة في كل تفاصيل الحياة اليومية وعلى كل الجبهات.

          قبل فترة قصيرة لم يكن بمقدور احد الأقلام تناول ولو كلمة نقد لأحد ومن نفس المنطلق لأنه أيضا كان يعتبر” إساءة أو إهانة ….” المهم نوعا ما – والحمد لله – تم تجاوز ذلك , ولكن لا زلنا في البداية.  الثقافة الشمولية لا تعرف شيء اسمه النقد ونقد الذات إلا في إطار كليشيات. أما في الوقع العملي يجب بل من واجب الآخرون وما عليهم إلا النفخ في بوق المديح وتجميل قبح وفواحش الأصنام الوهمية التي خلقناها في مخيلتنا ,وفقط قليلاً من الاحترام سرعان ما تتحول الأمنيات إلى مقدسات وتتحقق في الفرد الذي بدوره وبشكل آلي ينتقل إلى مرتبة القيم والمقدسات . عندها يجب عدم مسها لا من قريب ولا من بعيد.  وكما كان يقال بمجرد : رسم خط دائري حول اليزيدي تستحيل خروجه منها.

     عندها لا أن تتناولهم في لوحة كاريكاتيرية , بل لن تجرئ أمام هؤلاء الذين حاصرو أنفسهم في مأساة الدائرة . وتحولوا إلى مجرد مرود وإتباع ..  محرم ولو بإشارة إلى أخطاء ” السيد.. الزعيم..القائد..الشيخ.. الآغا..” لأنهم معصومون..بالتالي النقد إساءة للمقدسات والقيم . وان تجرأت  طبعا ختم الرد جاهز: “عميل..خائن ..مشبوه….”

        هكذا نحكم على أنفسنا الحكم المؤبد داخل دوائر تشل استقلاليتنا ونسلم امرنا وشخصيتنا التي يفعل الآخرون المستحيل للدفاع عنها.. ونتحول من “المنقذ إلى من بحاجة إلى الإنقاذ” . هنا السر وراء صرخاتنا ليل نهار ” نحن بحاجة إلى استقلالية ,إلى خطاب مستقل..إلى تجاوز الانشقاقات..” علماً نحن من نسلم وبأيدينا استقلاليتنا الشخصية وبهذه البساطة .وإذا لم تكن هناك استقلالية في الشخصية الصراخ والعويل لن تنفعا  “نريد  ونحن بحاجة و..و” لأننا أصبحنا لا نرى خارج هذه الدائرة وكأن العالم اجمع هو عالم أنفاقنا .

          هكذا موقف من فن الكاريكاتير لا زال محصور في المجتمعات ذات ثقافة الأنظمة الشمولية التي تهاب هذا النوع من الفن “الحقيقي” الذي لا يعرف الكذب, والذي يقول و بكل وضوح ودون رتوش وتجميل ولا لف ودوران وبعيدا عن ديماغوجية المصطلحات ” هذا أنت…وأنت هذا”.

          تناول الزعيم بلوحة كاريكاتيرية ليس محرم فقط وفق هكذا ثقافة بل إهانة وسخرية.. أما المجتمعات التي تخطت هكذا أنظمة وثقافة من صميم هذا النوع من الفن تناول الجميع .لان “فن الكاريكاتير” لا يقف عند حد أو خط احمر ودائماً السياسة والساسة هما المادة الأغنى بالنسبة لرسام الكاريكاتير في عالمنا اليوم.

          في كل المجتمعات المتحضرة يعتبر فن الكاريكاتير فن الضرورة الاجتماعية والموقف السياسي المعبر بصريا بتبسيط شكلي واختزال ملحوظ وبوابة مفتوحة على حروب الكلام والشعارات الكبيرة والدخول في مساحة الكوميديا السوداء النقدية لسلوك القادة والحكام والمبرر لتذمر الجماهير بآن معا.

            وهو الواجهة المناسبة للتعبير, ووظيفة تحريضية تعمل على رصد الأحداث والموقف وتعريها بعين الفنان الناقدة وانعكاسا طبيعيا معبرا بشكل أو بآخر عن هموم الشعب ومتطلباته وأحلامه وتجسيدها في حلول شكلية بصرية مفهومة الخطوط والمكونات والكلمات.ويكون بذلك قيمة بصرية لنبش ذاكرة الناس ومواقفهم من الحدث ويعكس حقيقة التوجه السياسي والأيديولوجي.

             الهم الوطني والخصوصية الكردية المحلية لا تزال بعيدة وإنها من متطلبات وآمال ورغبات. عندها فلا بد نحن بحاجة إلى ابتكار أدوات ومواضيع تعبيرية من صميم حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تمكننا لتحقيق مكانة وعدم اجترار المواضيع المطروقة والنقل الغير مبرر لمضمون رسوم وثقافة من مساحة واقع الآخرين.

           مع الأسف لا نزال مقيدين وكأننا استسلمنا لأمر الواقع ,لا نخرج و لن نسمح لأحد اختراق الدوائر التي خنقا أنفسنا داخلها. ونفرض رقابة مصغرة وفق عقلية أنظمة شمولية على مواضيع وأساليب  الفنانين والكتاب عن المساحة الأيديولوجية الممنوحة وفق هيئة التحرير وسياسة المجلة أو الجريدة أو الموقع..

             متى وأين..تناول اللوحة الكاريكاتير لأية شخصية كانت محلية أو عالمية مجرد سخرية..؟!! وبأية أشكال كمضمون أو شكل؟

         علينا أن ندرك ونتعرف على الأمور بشكلها الصحيح  ,لم يكن ولم يعني في أية يوم أو أية مكان فن الكاريكاتير مجرد استهزاء, بقدر ما هو اعتبار وقيمة ودور للشخصية  التي يتم تناولها ومهما كان مكانتها بدءا من المواطن البسيط .. الفلاح .. المناضل ..السياسي ..المثقف….

            لماذا كل هذا التحسس من إخوتنا ..؟! ومع الأسف على رأسهم الذين يعتبرون النخبة المثقفة في مجتمعنا الكردي ودون أية مبررات يقولون وبالحرف: يجب أن لا تنشر على صفحاتنا مثل هكذا لوحات تتناول مسئولين وقيادات كردية والنقد اعتباره – إساءة…و تسبب حساسيات

             لماذا..؟ لمجرد تناولنا شخصيات سياسية كردية “محلية”!!.

         واسأل بدوري: هل هذه الشخصيات مقدسة وعظيمة أعظم من زعماء دول تتزعم العالم .؟ عندما يتناولهم فنانو الكاريكاتير في لوحاتهم وبكل الأشكال وأنواع النقد إلى درجة السخرية ,مع ذلك تنشر لوحاتهم وعلى اكبر صفحات وسائل الإعلام الداخلية والخارجية. والطريف تسر هؤلاء المثقفين أيضاً حتى يسرعون نسخها ونشرها على صفحاتهم على الرغم البعض منها لا تعنينا بشيء ..؟
هل لمجرد تزين صفحات مواقعنا ونشراتنا ..؟

          إذاً.. بدلاً من ذلك لماذا لا نسعى ليكون لدينا أيضاً رموزنا.. أدواتنا.. وسائلنا ..؟ علما إن فن الكاريكاتير هو جزء من ما نصبو إليه ” خطاب كردي.. مرجعية كردية….الخ.

           ما الذي ينقصنا لكي نسعى لنكون كالآخرين ..؟ لماذا لا نسعى بشكل صحيح لتفعيل خصوصياتنا الثقافية..؟ وان حاول احد نهاجمه ونحاول سد الأبواب أمامه بهذه الحدة وعدم المسئولية..؟!  وإلا فكيف سيكون لدينا حالة ثقافية تخصنا ككرد وكيف سننهض بخصوصيتنا الثقافية أمام هذا الكم الهائل ,ما نسميه الثورة الثقافية..؟ والكل بدؤوا هكذا بإمكانيات متواضعة .على الأقل لنسعى بشكل صحيح لخلق أرضية سليمة.

        لكي لا نذهب إلى البعيد ,على الأقل لنتعلم من خصوصيات بعض قادتنا على سبيل المثال ومنهم الرئيس جلال الطالباني مثلاً . زوروا موقعه وستجدون كيف بأنه شخصياً  يقول نكت وطرائف كاريكاتيرية عن نفسه ويرددها بكل رحابة صدر حتى في حواراته السياسية الجادة  ..إذاً هل يسخر من نفسه..؟ وهل شخصياتنا المتواضعة أعظم وأقدس “التي لا وجود لها بعد “أصلاً”على الخارطة السياسية لا إقليماً ولا دولياً “.. مجرد شخصيات محلية نسعى جميعاً لنفض الغبار عنها لتأخذ مكانتها اللائقة أسوة بالآخرين تليق كممثلين لقضية شعب وأمه .

           إذاً لماذا مجرد تناولنا هذه الشخصيات “المحلية” نسميه إساءة..؟ وهذه الكلمة -إساءة – أليست من مصطلحات النظام الأمني الشمولي الذي خلق هالة من المقدسات والقيم الزائفة حول الشخصيات التي تمثل النظام؟..أم مجرد وراء الأمر محسوبية وثقافة ضيقة الأفق ..؟ وكأن تناول الكردي كاريكاتيرياً هو إهانة ومس المقدسات, وفنان الكاريكاتير يحط من قيمنا..؟

           تناول مثل هذه الشخصيات من قبل فناني الكاريكاتير من خلال بعض اللوحات الكاريكاتيرية برأي ما هو إلا إعطاءهم اعتبار ومكانة أما المضمون فبديهي الاسم على مسمى –كاريكاتير- أي نقد.  أما إذا كنا نفتقد إلى ثقافة فن الكاريكاتير , لا بد أن نعود ونرى في ثقافتنا , هناك المئات بل الآلاف من القصص والنكت “الكاريكاتيرية” ولم تكن تعني في يوم من الأيام تلك القصص والرسوم مجرد سخرية أو إساءة بل تمثل صميم حضارتنا ووجودنا.

          يعتبر ولادة فن الكاريكاتير مع ولادة الإنسان و يمكن العثور على رسومات كوميدية في آثار تعود حتى لحضارات وفنون ما قبل التاريخ أي له جذوره القديمة الضاربة في أعماق التاريخ.

               الكاريكاتير كالنكتة كما عند الشعوب توظيفاتها عدة , فقد ساهمت في التخفيف من حدة الاحتقان والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في أقسى الفترات التي مرت على الشعب والأمة الكردية وعلينا قبول الأمر بان الكاريكاتير هو احد أهم أنواع النكتة وأكثرها بلاغة وتعبيرا ويأتي أهميته نظرا لقدرته على تلخيص قضايا المجتمع ومشكلاته في جمل بسيطة تعززها رسوم لديها القدرة على لفت أنظار المثقفين ومحدودي الثقافة على حد سواء وهي تساهم في رفع مستوى الوعي الشعبي بمشاكل وقضايا المجتمع, ومن الناحية السياسية, التحريض على انتقاد الواقع السياسي ومفارقات يومية مابين مختلف الطبقات والفئات ومواقفهم ودورهم في هذه المفارقات ,ودون شك تعكس روحية وأسلوب كل فنان محمول بخصوصية البحث والتجريب والتأليف ومساحة أفكاره وحريته.

             وهو رسم اختصار للزمن والموقف وخلفيات الأفراد والشخصيات وكشف رمزيا لتبعيتهم وميولهم السياسية الحزبية والطبقية الوطنية أو القومية أو العلمية.

         ولا بد أن نقول أيضا الصحافة بكل أنماطها المكتوبة والمرئية هي مجال فن الكاريكاتير … ولا حياة وانتشار وفعالية لفن الكاريكاتير خارج أبوابها وِصفحاتها .

         إذا متى وأين….كان فن الكاريكاتير مجرد سخرية…؟؟!!َِِ
 
15– 8 – 2009

yahiasalo@yahoo.de

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…