صبري رسـول
حدثَ هذا قبل ما ينيف عن عشرين سنة، كنَّا مجموعة صغيرة من الطلبة الكرد في جامعة دمشق، مقارنة مع الأعداد الهائلة اليوم، أكثرنا يعيش حاجة العوز والفَقْر، ننحدر من بيئات متقاربة اجتماعياً، واقتصادياً، نعيش عالة على عائلاتنا، التي بذلت ما بوسعها لنكون رسلاً لها، عشْنَا في غُرفٍ رطبةٍ، متكدّسين فيها كجنودٍ محاربين، حيث كانت الحالة العامة لنا جميعاً. منهم منْ ابتلعَتْهُ الحياة المعاصرة بلا شفقة، ومنهم تخرّجَ في الجامعة وهامَ بحثاً عن حياةٍ بلا ملامح، ومنهم مَنْ تأبَّطَ الصبرَ والعزيمة بحثاً رسم ملامح للحياة.
فرزنده أحد هؤلاء الذين تعرفتُ إليه في المعسكرات الشتوية، في جامعة دمشق؛ بنظراتٍ متوقّدة، وملامح هادئة كان يحدِّثُ أقرانَه، ويستمعُ إلى محدِّثه بكلّ جوارحه، ملتقطاً ما يطرحه الآخر، وهذه من سمات العالم، والباحث عن المعرفة بكلِّ أشكالها.
فيما بعد ازداد تواصلنا وازداد معه همّنا المشترك كشخصين ينحدران من ريفٍ عائمٍ على الفقرِ المعيشي، والمعرفي، تسوده مفاهيم أسطورية ومعتقداتٌ تُستغَلّ دينياً، وفي جلساتنا المشترك تميّزَ فرزنده بمهارته الفائقة على الإصغاء إلى الآخر، كما تميّزَ بمهاراتٍ أكثر على تكثيف إجاباته، وصياغتها بدقّة، وهذه من سمات الباحثين الكبار؛ وكانَ باحثُنا هذا نهماً في القراءات المتعدّدة، حيث تزخر ثقافته الواسعة بآراء المختلفين حول نقطة واحدة، أو مفهومٍ واحد، فنهمُهُ وظمؤه المعرفي وحبّ الاطلاع جعلته يتعمّق في الفكرة التي يبحث عنها، مركّزاً في الوقت نفسه على احتمال الخطأ لكلّ فكرة، وهذه سمة أخرى للباحث عن الفكر الفلسفي؛ وإذا كنْتَ مخالفاً معه في موقفٍ ما، أو مفهومٍ معين فلا يجعلُ اختلافَكَ معه خلافاً معك، بل يأخذُ الأمر على جوانبه المتعدّدة، فالاختلاف لا يفسد للودِّ قضية، وكأنَّ به لا يرى أشياء مطلقة في الحياة، وهذه سمة أخرى من سمات الباحثين عن الحقيقة في الفكر البشري. ولا ننسى أنّه يُعيل أسرةً، ومسؤولياتها ليست أمراً يسراً، بل تتطلَّبُ العمل المتواصل، وهذا ما جعله يعمل في السلك التعليمي، إلى جانب بحثه، ورغم ذلك لم يكن يبثّ الشكوى إلى أحد من هذا الأمر، وكان يعرفُ كيف يُديرُ الوقت، موزّعاً إياه بين العمل والأسرة والواجبات الاجتماعية والبحث العلمي، ولم يشكُ لأحدٍ من ضيق الوقت، وهذه سمة إضافية للباحثين الكبار. هكذا كان فرزنده، لذا نأمل منه الكثير.
أما ما يتعلق بشريحتنا- الطلبة- التائهة بين الدّراسة، والفَقْر،والبحث عن الذَات، والوجود، وإثبات (الأنا) الهائمة في اللاشيء، حاول أفرادها رسمَ ملامحٍ لهم في مجتمعٍ بغير ملامح، فكان الكثيرون من تلك الشريحة حازوا على مراتب علمية واجتماعية عالية، كالدّراسات العليا وشهادات الدّبلوم، والماجستير، والدكتوراه أو ساهموا في مجالاتٍ أدبية (من شعرٍ وقصةّ ونقد) ورفدوا السّاحة الثقافية بنتاجاتٍ إبداعية عديدة، كجنكو إبراهيم، وخالد حسين، وسربست نبي، وعمر كوجري، وولات محمد، وفريد سعدون، وجعفر إبراهيم، والمرحوم صبحي الطّعان، وكاتب هذه الأسطر.
الجميل في الأمر استطاعَ كثيرٌ من هؤلاء أنْ يشقّوا طريقهم في مواجه الصعوبات، ورغم انتمائهم إلى جيلٍ بلا ملامح – وأقصدُ أنّ سفينتنا لم تمتلك بوصلة الاتجاهات- رسموا في مجتمعهم ملامحَ ثقافية واعدة، تكون أساساً لبناءٍ أكثر علوّاً للقادمين.
وأنت يا فرزنده ها قد أضفتَ صرحاً معرفياً شامخاً، يحقُّ لنا الافتخار به وبكَ، ويحقّ لك أنْ تُشارَ بالبنان، وتنتظركَ ساحاتنا الثقافية والفكرية، حيثُ الظمأ المعرفي لأرضٍ عطشى.
ورسالتك العلمية في الفكر الفلسفي قد تفي بالحاجة، فهموم المجتمع تنتظرُ أن يتسلَّلَ إليه نور الفلسفة، ننتظركَ لتجدّلَ ضفائرَ الضّوء في ظلام أيامنا، وتُحلّقَنا إلى آفاقٍ لا نحلم به إلا في الخيال، ولمَ لا ؟ وقد اقترنتْ السّمات الأخلاقية لديك بعلوِّ الفكر وتوقّد الذهن. وكلّ ما أخشاه أنْ يبتلعك التّيه كما ابتلع غيرك ممّن سبقَكَ في الطّريق.
فيما بعد ازداد تواصلنا وازداد معه همّنا المشترك كشخصين ينحدران من ريفٍ عائمٍ على الفقرِ المعيشي، والمعرفي، تسوده مفاهيم أسطورية ومعتقداتٌ تُستغَلّ دينياً، وفي جلساتنا المشترك تميّزَ فرزنده بمهارته الفائقة على الإصغاء إلى الآخر، كما تميّزَ بمهاراتٍ أكثر على تكثيف إجاباته، وصياغتها بدقّة، وهذه من سمات الباحثين الكبار؛ وكانَ باحثُنا هذا نهماً في القراءات المتعدّدة، حيث تزخر ثقافته الواسعة بآراء المختلفين حول نقطة واحدة، أو مفهومٍ واحد، فنهمُهُ وظمؤه المعرفي وحبّ الاطلاع جعلته يتعمّق في الفكرة التي يبحث عنها، مركّزاً في الوقت نفسه على احتمال الخطأ لكلّ فكرة، وهذه سمة أخرى للباحث عن الفكر الفلسفي؛ وإذا كنْتَ مخالفاً معه في موقفٍ ما، أو مفهومٍ معين فلا يجعلُ اختلافَكَ معه خلافاً معك، بل يأخذُ الأمر على جوانبه المتعدّدة، فالاختلاف لا يفسد للودِّ قضية، وكأنَّ به لا يرى أشياء مطلقة في الحياة، وهذه سمة أخرى من سمات الباحثين عن الحقيقة في الفكر البشري. ولا ننسى أنّه يُعيل أسرةً، ومسؤولياتها ليست أمراً يسراً، بل تتطلَّبُ العمل المتواصل، وهذا ما جعله يعمل في السلك التعليمي، إلى جانب بحثه، ورغم ذلك لم يكن يبثّ الشكوى إلى أحد من هذا الأمر، وكان يعرفُ كيف يُديرُ الوقت، موزّعاً إياه بين العمل والأسرة والواجبات الاجتماعية والبحث العلمي، ولم يشكُ لأحدٍ من ضيق الوقت، وهذه سمة إضافية للباحثين الكبار. هكذا كان فرزنده، لذا نأمل منه الكثير.
أما ما يتعلق بشريحتنا- الطلبة- التائهة بين الدّراسة، والفَقْر،والبحث عن الذَات، والوجود، وإثبات (الأنا) الهائمة في اللاشيء، حاول أفرادها رسمَ ملامحٍ لهم في مجتمعٍ بغير ملامح، فكان الكثيرون من تلك الشريحة حازوا على مراتب علمية واجتماعية عالية، كالدّراسات العليا وشهادات الدّبلوم، والماجستير، والدكتوراه أو ساهموا في مجالاتٍ أدبية (من شعرٍ وقصةّ ونقد) ورفدوا السّاحة الثقافية بنتاجاتٍ إبداعية عديدة، كجنكو إبراهيم، وخالد حسين، وسربست نبي، وعمر كوجري، وولات محمد، وفريد سعدون، وجعفر إبراهيم، والمرحوم صبحي الطّعان، وكاتب هذه الأسطر.
الجميل في الأمر استطاعَ كثيرٌ من هؤلاء أنْ يشقّوا طريقهم في مواجه الصعوبات، ورغم انتمائهم إلى جيلٍ بلا ملامح – وأقصدُ أنّ سفينتنا لم تمتلك بوصلة الاتجاهات- رسموا في مجتمعهم ملامحَ ثقافية واعدة، تكون أساساً لبناءٍ أكثر علوّاً للقادمين.
وأنت يا فرزنده ها قد أضفتَ صرحاً معرفياً شامخاً، يحقُّ لنا الافتخار به وبكَ، ويحقّ لك أنْ تُشارَ بالبنان، وتنتظركَ ساحاتنا الثقافية والفكرية، حيثُ الظمأ المعرفي لأرضٍ عطشى.
ورسالتك العلمية في الفكر الفلسفي قد تفي بالحاجة، فهموم المجتمع تنتظرُ أن يتسلَّلَ إليه نور الفلسفة، ننتظركَ لتجدّلَ ضفائرَ الضّوء في ظلام أيامنا، وتُحلّقَنا إلى آفاقٍ لا نحلم به إلا في الخيال، ولمَ لا ؟ وقد اقترنتْ السّمات الأخلاقية لديك بعلوِّ الفكر وتوقّد الذهن. وكلّ ما أخشاه أنْ يبتلعك التّيه كما ابتلع غيرك ممّن سبقَكَ في الطّريق.
درجة الدكتوراه في فكر فروم (فلسفة إيريك فروم – دراسة في مشكلة الإنسان) مفخرة كبيرة للجميع، هنيئاً لنا جميعاً، هنيئاًً لك ولمحبيك، ولمستقبلك المشرق.