وساوس
1
بغيّهِ، يلملمُ أفلاكَ الغمام، مبدداً جُعَبَ السَّراب، طارحاً أقاويل الهوى بغيّه.
ينغِّصُ عينَ الحكايةِ بما يُساورُ اللَّفظَ من كظيمِ المعنى، ماحياً تواشيحَ البدء.
لا يبارحُ كراريسَ الموتى مُشكِّكاً على أنَّهمُ الموتى.
لا يفارقُ فراديسَ الأحياءِ مفنِّداً بأنَّهم أحياء.
من شيَمِهِ العدمُ، إذا استوى البقاءُ على مكاييله.
ممازحاً البحرَ…
يقصقصُ الخريفُ صورَ اسطنبول، وينثرها على أوثانِ الأغاني.
الرِّيحُ تعاند، والبحرُ مرتاب.
والقلقُ ينهشُ مطارحي، غازياً.
3
كنتُ أريدُ أن ألتقطَ لعينيها صورة فتوغرافيَّة، فتعطَّلتِ الآلة.
كانتْ تريدُ التقاطي، فتعطَّلتُ.
غادرتها كسحابةٍ كئيبة، فغادرتني كخنجرٍ لاهب.
4
في حي تاكسيم، سيولٌ من الغزلان، تجرفُ مثاقيلَ الأفئدة والعقول.
الطفل عازفاً على الكمان، متسوِّلاً.
وأنا عازفٌ على آلامي، متسوِّلاً نفحةَ أمان.
مسكوناً بالذكرياتِ والأوجاع، جائباً حنايا الخيبةِ، ألازمُ الوحشة.
ينقضي اليومُ، ولا ينقضي القلق.
بينَ فيضِ الجمال هاهنا، استوحش أصدقائي الذين فارقتهم.
ينتابونني وساوساً كلسعِ النِّحل.
فيذريني البوح، ويعطِّلني الكلام.
5
كهالةٍ من عزائمِ الوجود، يشدُّ أزري من بعيد، ذلك الصديق.
يشتهي مكاتبتي، فتخونه المعاني.
يشتهي مكالمتي، فتخونه اللحظات.
يشتهي الارتماء في حضني باكياً، فيخوننا الوطن، وتتقاذفنا الأصقاع.
6
أرسمهُ بالوحل على نواصي الليل، حين كان يكيد للكلاب جزَّاراً.
أرسمهُ على ويحِ الغربةِ غنيمةً للفناء.
أرسمهُ بعصائرِ الحجرِ وخمائرِ الأبد، أُحجيةً تنتهكُ قداسةَ الضلال.
أرسمهُ بأقاويل العنب طلسماً أودعهُ بيني نهدي امرأة من رائحة القهوة ونبيذٍ فائح.
يا جبالي…
ذلكم صديقي الذي أوصاني أن أرسمه على جسدِ أوِّلِ امرأةٍ تقاسمني ليلَ الغربةِ.
ذلكم صديقي.. ذَكَرُ الخيبةِ، وجِهةٌ أنهكها هبوبُ القلق.
7
في خلودهِ فناءُ الأوطان.
في فنائهِ يخلدُ تراثُ الوحلِ والبراري.
مُحتشدٌ بالقُرى وآلامِ البسطاء.
عُراهُ والضَّادُّ في تخاصمٍ حميم.
إنَّهُ صديقي… الذي يُذكِّرُ دمشقَ بيَّ، ويُذكِّرني بأنني لا زلت أحيى وأتلَّم.
اسطنبول / حي أسنلَر 29/9/2009
مرايا آمد
_1_
من هدي الجنون، كلُّ هذا العراءِ المكتنزِ بالقيامةِ، يلهمُ أسوارَ آمد، ويلثمها بالحبور، مُبتلعاً صحواتِ الأبد، ناسخاً نكوث الأزل، على حيفه.
كحوريَّةٍ تتلوَّى من فرطِ الحُسن، أيقظها صياحُ الديك، آناءَ الفجر، كي تسقي قتلاها من بتالةِ فتنتها موتاً آخر…
كعُرِسٍ خالطهُ جبروتُ الصيف، تُلهبُ الأفئدةَ بضراوةِ إبهارها…
كعبيرِ حكاياتٍ حمراءَ، أضناها السَّهوّ وأقرانه…
كانغماس المتصوِّفةِ في تبيانِ متاهاتِ عشقهم، هكذا بدت لي آمد.
أمَّا أنا…
سارحاً، أشكي أوجاعي لحجارةِ سورها، وأرمي قطوفَ ذاكرتي من فوق أبراجها لقَتَلَتي.
اشتكي من لوعةِ فتنتها، وما مِن ناجٍ، يرشدني إلى النجاة من ابتلاع مراياها.
_2_
الليلُ يُضني الأرصفة، وبريقُ حجارةِ سورِ آمد، يروي حكاياتِ البراري الدامية، على مسامعِ قاطني الغيم.
العجوزُ الأعمى، يردِّد قصائد مديح المولِد النَّبوي، بلكنةِ كَبدِ آمد، سانداً ظهرهُ للسُّور، فاركاً سبحته، سائلاً المارَّةَ أن يجودوا عليهِ بما جادَ عليهم الدَّهر.
لم يكن في جيبي، سوى دمعتي أمُّي، منحتهُ واحدةَ، وأبقيتُ الأخرى للفجر.
_3_
بفورةِ القادة…
كأنَّه في لحظةِ الجذب آناء انعقاد حلقاتِ الدروشة…
كأنَّه، صريعُ الغزلان، منتفضاً…
كأنَّه، برقٌ عاجلَ المطرَ، قاطعاً على الرِّيحِ تهيُّؤاتها…
كأنَّه أنا، حين أئنُّ…
صرخَ المجنونُ في وجهي، آناءَ مروري بهِ.
قال: إنَّهُ فاتحُ القسطنطينيَّة، سليلُ الوباءِ الآبد.
قال: إنَّه من ضحايا الأنهارِ المخمورة، والكيِّ بالورد.
قال: إنَّهُ عربيٌّ، لا يعرف لماذا بارحتهُ الدروب، واستوى الخسرانُ على كاهلهِ، وبايعتهُ النَّوائب؟.
قال: إنَّه منذُ دهر، في انتظارِ الباخرة، يمتحنُ المارَّةَ، بالفزع.
قال: إنَّه يعرفني؛ كيفَ استرقُ السَّمعَ لتأوُّهاتِ النَّحل.
ولم يقل: أنَّهُ كان يقضم ظلَّه، ويبصقُ في ظلالِ العابرين.
وضعتُ في يدهِ قطعةَ نقد، فوضع في قلبي قطعةَ جمر.
_4_
وأنا أعتلي أبراج آمد، بدت لي دمشق، غامقةَ البؤسِ، عابقةَ اليأس، خانقةَ الحزن، راقدةً.
بدت لي بيروتُ، وأنا أسير على رصيفِ الروشة، يجاورني صديقي الشاعر، نتبادلُ أطرفَ الحزنِ وانكساراتِ العشَّاق.
حالاً، خابرتُ صديقي الشاعر، هاتفاً في أذنهِ:
ها أنا ذا هنا…
لوحدي… اشتهي صلاةً على هذه الأبراج.
اشتهي الارتماءَ في حضنِ غزالة، وبعدئذ، فلتلهمني الذئاب.
_5_
مروراً بسجن آمد، احتشدتِ الأنجم، مردِّدةً: “المقاومةُ حياة، والحياةُ مقاومة”.
عينا مظلوم دوغان، كانتا تبرقان من خلفِ القضبان، والليلُ كليلُ الهيبة، خاشعاً.
من عيني مظلوم، فاضت أسرابُ القُبَّراتِ والأقاحي.
في عينيه، تباهت الجبالُ، وعليهما، توافدت المدن.
أمَّا هو…
حملَ عودَ ثقاب، مضرماً النَّارَ بنفسه وزنزانتهِ، مُقدِّماً قلبهُ نوروزاً لآذارات عشَّاقِ الحريَّة.
في ذلك الليل، غالبني الهمُّ، وأنا مارٌّ بالسجن.
وما أنْ غفوتُ على زندِ اللحظةِ المارقةِ، تفتَّقت محاجري على ظنونِ النِّهاية، وتناهبتني مخالب الهوسِ بالكلام، وأضرمتني الوساوس.
آمد/ دياربكر 20/8/2009