«مهرجان الشعر السوري الأول في الحسكة» دورة الشاعر نزيه أبو عفش.. واقع وآفاق!

محمد باقي محمد
   

     تصرّم أمس الأوّل مهرجان الشعر السوري الأول ، في دورته التي اختصّت بتكريم الشاعر نزيه أبو عفش، وذلك لدوره الهام في المشهد الشعري العربيّ، على مستوى قصيدتي التفعيلة والنثر، بل بدلالة الشعر ذاته، وذلك لكي لا نضيّع الجوهر في بحثنا عن / أو اختلافنا على الشكل، فعاشت الحسكة المنذورة للهاجرة والنسيان إيقاعاً مختلفاً عن المكرور والعاديّ على امتداد أيام خمسة، في الفترة ما بين 25 – 29 / 5 / 2009، تصرّم المهرجان إذن ، فما هي الدروس والعبر والاستخلاصات، وقبل هذا وذاك ما هي الملامح في تفاصيلها الباذخة ، وهل استطاعت التظاهرة أن تعكس اسمها ذا الطابع الاحتفالي ، الذي قُيض له – في حدود ما نزعم – أن يحتفي بالشعر في عمومه وإطلاقه.. عربياً وعالمياً، والشعر السوري منه على وجه التخصيص!؟
   والمنطقي أن يكون الجواب على السؤال الأخير متموضعاً في خانة النفي، تأسيساً لـ /  أو بالاتكاء على قاعدة أننا بشر محكومون بالنقص، ناهيك عن القصور في الرؤية والرؤيا والإمكانات، ولهذا أسبابه العديدات، منها ما يتعلق بالكيفية التي ينظر بها القائمون على هذا المهرجان إلى المشهد الشعري السوري المعاصر، ومنها ما يدخل في باب الخذلان، إذ كم من شاعر كان اسمه مندرجاً على خارطة المهرجان والقلب، لكنه اعتذر لأسباب واهية غالباً، كالتعلل بطول المسافة مثلاً، أو لأسباب تخصّ الجوهر، كغياب الجديد عند البعض – الذي يحترم اسمه – في حينه، أو لارتباطه غير القابل لفك العرى بالعمل، أو لعلة المرض والعمر المديد كما هو حال الشاعر عبد اللطيف محرز، الذي أحجمت الإدارة عن قراءة قصائد كان قد أرسلها خوف الإساءة إلى اسمه !

   أنُسرّ بالقول  الذي جاء على لسان الشاعر ياسر الأطرش ، الذي أكّد – بحسبه – أنّنا استطعنا أن نعكس حساسية المشهد الشعري السوري بنسبة 60%، فنفضح الخبيء والمسكوت عنه، زاعمين بأن استنكاف البعض عن الحضور لغير سبب، أرغمنا على استبدال حثيث، أسقط شيئاً من المعايير، ثمّ ماذا لو تحرّينا الجذور العميقة للمسألة من زاوية أخرى ، فنرى إلى تباين المشهد في تفاصيله – مبنى ومعنى.. قيمة ومعياراً – بالمعنى الواقعيّ البعيد عن الرغائب النائيات، وندّعي بأنْ هذا هو المشهد الشعريّ السوريّ في نثيله ، وعليه أنوافق الناقد الـ : د . خليل موسى بأنّه – أي الشعر السوريّ – مريض ومعافى ، ومع ذلك فهو الأكثر تميّزاً على الساحة العربيّة اليوم !؟ أم نزعم بأنّ النماذج التي تقدّمت تقف على سطر واحد، وأنّها تنتمي جميعها إلى الصف الأوّل!؟ وإذا لم يكن.. فهل ثمّة أوّل وثان وثالث، أم أنّ هناك رؤى وأنماطاً ومعان وأساليب تتباين بتباين التجربة والرؤية والرؤى!؟
     اليوم الأول جاء على أنماط التشكيل الشعري السابق على قصيدة النثر، فقصيدة الشطرين ” العمود” كانت حاضرة بلسان الشاعر رضا رجب ، وهذا كان حال التفعيلة مع الشعراء عبد القادر الحصني وفادية غيبور والضيفين الأردني سعد الله شاهين والعراقي محمد مظلوم ، وإذا كان صوت الـ ” رضا ” قد ارتفع لطبيعة في العمودي ،  وحضرت قصيدة الغرض الواحد ، الذي يتموضع جديدها في خانة الوطني ، أي في المضامين ، ناهيك عن الهجاء لأخلاقيات درجت ، تقوم على الازدواجية والنفاق والرياء ، ربّما لأنّ الحديث عن جديدها في الشكل إشكاليّ ، إلاّ أنّه راق وصفا مع ” غيبور”، فجاء على الهامس الخجول، المشغول بدلالة الحبّ ، بيد أنّ خصوصيّة الـ ” غيبور” تجلّت في مُفارقتها للخطاب الأنثوي التقليديّ، الذي قد يندرج في شعبوية من نوع ما ، تقوم على التشكي من ظلم الآخر ، ظلم الشريك والحبيب والزوج والأخ والأب ، لتذهب إلى التماهيّ ، أي إلى الإنسانيّ بمعناه العميق والشامل ، وتلجلج مع ” شاهين” ربّما لأنّ جرح غزة كان حاضراً في المرئي صوتاً وصورة، حاداً كحرف سكين يمور في الجوف ويؤلم ، فحضر الوطنّي بعيداً عن الشعاراتيّ، ذلك أنّه لم يُفارق – ما أسماه الناقد الـ : د . ” سعد الدين الكليب” – النموذج العذابيّ، المُتموضع في خانة ردّ الفعل إزاء انكسارت وطنيّة حادة ومُتجدّدة ، لكنّه مع ” محمد مظلوم ” ارتقى إلى مرتبة النبوة, ونحن نذهب هنا جهات المعنى خارج المصطلح الديني ، أي بمعنى الاشتغال على مطلب أزفت ساعته في الذات الشاعرة ، فالـ ” مظلوم ” أشار إلى سنة النشر في العام / 2002 / ، وهو العام الذي سبق الاحتلال الأمريكي للعراق ، هنا حضر العراق قبيل احتلاله ، ومع ذلك راح ” المظلوم” يتأمّل ، يستشفّ ويُنذر من غير أن يدخل مقام ردّة الفعل ، ليأتي على تفاصيل تحققت على نحو ما ، إذْ أخذ القادة الجدد ينفضون الغبار عن الخرائط ، و راح الأمريكان يسرقون الأوابد الحضارية ، من غير أن يوفّر السراق والعيارون تمثال ” عبد الله السعدون  ” في بغداد ، ما يُذكرّنا بمقولة ” كوكتو” ، التي يرى فيها بأنّ الشعر ضرورة , ولكن من غير أن يستطيع الإتيان على الأسباب التي جعلته كذلك ، تلك المقولة التي صدّر بها ” أرنست فيشر” كتابه الهام ” ضرورة الفن ” ! ومع ” الحصني” رقّ الشعريّ وشفّ ، حتى حاكى منابت الضعف البشريّ في تشوّفه وحنينه إلى الإنسانيّ الدافىء ، وكان اللعب باللغة وعلى اللغة وللغة حاضراً بقوة ونجاح في ارتسامه على القصيدة كما في مقام الأغنية ، لكنْ ليست المشدودة إلى فخّ الشكلانية فقط ، بل الذاهبة عميقاً في اكتناه الماهيات، وذلك عبر حضور باذخ لثنائيّة الرجل والمرأة بما هما قطبا الوجود ، وهي ليست المرّة الأولى التي يتألق فيها ” الحصني” كشاعر مُجيد ، ذلك أنّ الحياتيّ في تفاصيله اجتمع على نحو ما ، حتى لكأنّ عشرات الشعراء اشتركوا في كتابة القصيدة ، ناهيك عن الجمهور ! فيما جاء صوت الشاعر الشاب ” خلدون إبراهيم” مُؤثراً وبهياً، على قصر تجربته، فاتلق وعلّمَ في الوجدان واعداً بالكثير الكثير!
   أمّا اليوم الثاني, فلقد جاء على قراءات شتى, أضافت إلى المشهد اكتماله, إذ جاءت قصيدة النثر على لسان الشاعر ” فاتح كلثوم”, لتحتفي باليوميّ الأليف –  اليوميّ الذي يُشكّل الموضوع الأثير عند شعراء قصيدة النثر – ولكن بعد أن ارتفعت به إلى مقام الشعر، التفاصيل الصغيرة التي  نمر بها يومياً – إذن، ولانأبه لها ، لخلوّها من المُفارق – هي التي حضرت ، غير أن عين الشاعر الثاقبة مرّت عليها ، لترفعها من مقام العاديّ المكرور إلى مراقي الشعر ، فيما اشتغل الشاعر ” ياسر الأطرش” على قصيدة الشطرين ” العمود” باقتدار، فأعاد لها ألقاً أضحى مثار جدل ، راح يطال مشروعيّتها ككلّ , ثمّ عرّج جهات التفعيلة , وفي إلقاء ساحر سرق ” الكاميرا ” – هذا إذا استعرنا المقال من فنّ السينما- ربّما لأنّ لواعج النفس البشرية إذ تعتمل حضرت ، لتتأبّد بعيداً عن الآيديولوجي أو السياسي المُرتهن بظروفه ولمصلحة تلك الظروف ، وبصوت رخيم جاء الشاعر ” طالب هماش” على الخاص المُعمّم , فتوهّجت قصيدته – التي تنتمي إلى رهط التفعيلة – بحزنها النبيل والجليل , حتى لكأنّها ترثي الإنسان المعاصر , حلّق ” الهماش ” بقامته عالياً في فضاءات الشعر،  فأشجى وأمتع ثمّ جاء الدور على الشاعرة ” لينا حمدان”، لتجمع النثر إلى التفعيلة ,على تفاوت في المبنى , لكنّها من كلّ بدّ كانت مُتحصلة على خصوصية في صوتها وتجربتها أيضاً ، أمّا لماذا غاب الـ : د . محمد فؤاد !؟ وهو صوت مقتدر في قصيدة النثر كما نزعم وخاص ، ولماذا لم يُقيّض لنا أن نتصّل به ، فقد تدخل المسألة في جملة الظروف المُعيقة ، التي لم نلق لها حلاً ! ثمّ جاء الدور على الشاعرة ” انتصار سليمان”، التي استعانت بيديها ، وتعابير وجهها إذ راح يتلون ، وتدرّجات صوتها في علوّه وخفوته ، لتتغلّب على تلجلج المعنى ، وارتباك اللحظة الشعرية أو تلعثمها، منتصرة للإنساني الدافىء ، عبر تجليه الأبهى عند الأنثى ، مرتحلة جهات القلب والروح في بحثهما الدؤوب والمُضني عن المعنى المتموضع في الحبّ بحسبها !
   وعلى نحو ما بدت كوكبة شعراء اليوم الثالث مُتألقين ، هذا كان حال عارف حمزة ، شاعر قصيدة النثر التي تخلت عن الأسلحة التي تتدجّج بها قصيدة العمود أو التفعيلة عادة ، من وزن وإيقاع وموسيقى وقافية ، فبدت كامرأة عارية ، لا يشفع لها إلاّ اكتمال الأنوثة في تناغمها الذاهب بعيداً في التثني والرقة والهَيَف والدلال ، حيث لا أدوات زينة تستر الندوب ، ولا أثواب تخفي العورات القبيحة ، فهل جاء ” حمزة ” على الهامس في ائتلافه أو اختلافه مع الحلقي والمُرخّم أوالمُفخّم، للاشتغال على جرس، قد لا يتأتى له أن يحل محل الموسيقى، لكنّه يتسم بالفعالية !؟ وهل حضر الفيض الغنائيّ الدراميّ ، أو التكثيق في حدودة القصوى ، ناهيك عن توليد الغريب والفريد والجديد من الصور، وأنسنة الأشياء المُهملة ، كما جئنا عليها في حديثنا عن اليوميّ ، إضافة إلى الاهتمام بالقضايا الكبرى بدلالة الذات الشاعرة، وموقفه منا ، أو تقريبها منه !؟ بعدها جاء الدور على قصيدة التفعيلة فأطربت وألهبت الأكف على لسان الشاعر ” منير خلف “، ومرة أخرى أحالنا الـ ” خلف” إلى الإنساني في سموّه واتضاعه ليخلده ويخلد به ! بوابل من الصور الرشيقة المُفارقة أمطرنا ” خلف ” في فهم صحيح للشعر على أنّه صورة وتخييل ، أمّا على مُستوى المضامين ، فلا شكّ في أنّه أثار الأسئلة ، أنْ أليس الشاعر هو نبي العصر ، بمعنى أنّه الفنّان الموكل إليه أن يصوغ حساسيتنا لعصرنا ، وأن ينتصر للحياة في ائتلافها أو اختلافها ، لأنّها مُؤسّسَة على تناقض من نوع ما ، ليُحيلنا – من ثمّ – إلى موقف من الحياة والكون ! وعلى النحو ذاته بدا صوت الشاعر ” عبد الناصر حداد ” مُؤسياً ، منشغلاً بالهواجس عينها ، ولكن على خصوصيّة واضحة  في الأسلوب والأدوات ، فبدا بهيّاً بحزنه الشفيف ، ثمّ أعادنا الشاعر ” جاك صبري شماس” إلى الوطني عبر جرح غزة النازف ، وإلى الإنساني عبر التغنّي بالمرأة زوجة وحبيبة ورفيقة درب وعمل وأختاً أو أماً  ومواطنة، وكانت أداته في التعبير قصيدة الشطرين،  الشاعر ” محمد إبراهيم حمدان”، هو الآخر استبقانا طويلاً مع القصيدة العمودية، واستحضر الوطني بدلالة الأماني الماضيات ، ما يدفعنا إلى التساؤل عن جديد هذا الضرب من الشعر، لا لعلة في الـ ” حمدان” كشاعر مُجيد أو في ” الشماس” ، ولا على سبيل إنكار الجيد من نماذج الشطرين ، بل للتذكير بالعروة الوثقى بين الشكل والمضمون ، ما سيُحيل بصاحبها جهات التقليديّ من الرؤى ، إن اقتصرت التجربة في عمومها على قصيدة العمود لوحدها، على ألاّ ننسى بأنّها – أي قصيدة العمود – هي الأساس في تشكيل ذائقتنا الشعرية على امتداد أكثر من ألف وخمسمائة عام ، وأنّها في تجربة أيّ شاعر، ينبغي أن تحتل الأسّ ، مُستعيرين مثالنا التوضيحيّ من التشكيل ، إذ من غير المعقول أن نقف بتجربة فنان يدّعي التكعيبية ، وهو يجهل أنّ الرسم خطوط منكسرة ومستقيمة ، أو ألاّ يكون على صلة بالظلّ والنور و بالمنظور ، أمّا الشاعر ” آصف عبدالله ” أحد مُمثّلي قصيدة النثر ، فجمع بين العذابيّ والحيويّ ، ذلك أنّ أنموذجه أومأ من بعيد إلى الانكسار العام في إبهامه ، ليُلخّص إضماراً انزياح هذا الانكسار على الخاص في إنتاج الخوف، الخوف من الغد، من الذات والآخر، ما يشي بنجاحه في الاشتغال على تفاصيل إنسانيّة تذهب إلى الانكسار الإنسانيّ في انغلاق الآفاق أو إغلاقها ، ثمّة حلم آثم – بحسب الآخر المُتسلط – ومُنكسر، لقد بدا أنموذجه مُتقصّفاً ضعيفاً في مُواجهة ريح عاتية صرصر ، فتثلّمَ الحيويّ – أي الحياتي – في تفاصيله الباذخة في إملاقها وبؤسها! أمّا الشاعرة ” سمر علوش ” فلقد جاء صوتها حيياً كخطابها الأنثويّ، مُؤكّداً على أنّ المجتمعات الذكوريّة، إذْ تؤسّس لسلطة الرجل ، لا تنجح في محضه السعادة ، فيعيش الطرفان تعاستهما على نحو متباين في التفاصيل ، مًحّد في الجذر العميق للمعضلة!
     وفي الندوة النقديّة التي تعنونت بـ ” قراءة في المشهد الشعري السوريّ المعاصر”، جاء الـ : د . ” خليل موسى” على تخلقّ المشهد عبر أنماط ثلاثة، وسمها بالتقدّم، فيما وسم النقد بالتأخر، بل بالغياب ، وأشار إلى أنّ الدراسات الشعرية غالباً ما تذهب إلى تقسيمه إلى عمود وتفعيلة ونثر ، واقعة في الشكلانيّ ، شكلانيّ قد يُضيّع سؤال الشعر ذاته ، بل أنّ قصيدة التفعيلة أو النثر – بحسبه – قد تكون عموديّة أكثر من قصيدة العامود ، كأن تتصدّى لموضوعة تقليديّة مثل الرثاء، ومَثّلَ لذلك بقصيدة النثر التي جاءت لتتخفّف من الإلقاء والخطابة وغير ذلك ، فإذا بها تغرق في تلك السمات، فلم تقدّم نماذج جيدة كتلك التي جاء عليها ” أنسي الحاج” إلاّ في ما ندر! ثمّ انعطف نحو تقسيم آخر يقول بالتقسيم إلى غنائيّ ودراميّ وسرديّ ،  داعياً إلى تصنيف النصّ الشعريّ المعاصر من خلال المؤسّسة النصيّة، ذلك أنّ النصّ القديم كان – بحسبه – نصّ النوع الواحد، إن في التفعيلة أو الغنائيّ أو الملحميّ ، في حين أنّ الشعر تجاوَزَ هذه الحالة، ليؤسّس لالتقاء روافد عدة داخل القصيدة الواحدة ، ولنجد – من ثمّ – تمازج العناصر مجتمعة حتى لكأنّها إنتاج العشرات من الشعراء ” نزيه أبو عفش – مثالاً”! وليخلص إلى أنّ المشهد الشعريّ في سورية ليس واحداً، حاله في ذلك حال كل عصر ، إذ ينضوي على شعراء وناظمين ، ومع ذلك فإنّ اللوحة الشعرية في القطر أفضل حالاً من باقي الأقطار العربيّة ، أمّا الـ : د . سعد الدين كليب فانطلق من سمة التحوّل كسمة أهم لازمت الحداثة الشعرية العربية ، وذلك على المستوى الجمالي الفنّي أو الأسلوبي أو الدلالي ، ربّما لأنّها أحلت التجربة محلّ التقاليد، والحرية محلّ الأنظمة النافذة ، والحيوية محل النمطية ، وهذا ما جعلها –  أي الحداثة  الشعرية – محكومة بالتحوّل ، أي بالتجاوز المستمرّ للأنماط التعبيريّة ، والمواقف الفنية نحو فضاءات جمالية لا تُحدّ ، لكنها – على ذلك ، وكأي حركة فنية – احتكمت إلى نواظم أو أسس، مُؤكّداً على المرجعيات ، أن هل تحتكم إلى التجربة الجمالية الحيّة ،أم إلى النصّ الموروث شعرياً أو نقدياً !؟ ثمّ جاء على شيء من تلك التحولات كما في بنية الصورة الفنية ، في صيرورتها من مفهوم المقاربة بين العناصر إلى مفهوم المفارقة بينها ، وهذا ما أسّس للمُغايرة في الصورة الفنيّة عنها في مألوف الشعر العربيّ القديم ، لتتسم بالغموض، وتوقف ” الكليب ” عند النموذج الجمالي الذي فرضته الحداثة في سوريا ، ليدرجها في مراحل ثلاث، البطولي الذي هيمن على الخطاب الشعري السوري في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ربّما بتأثير الاستقلال عن المُستعمر الغربيّ ، والأحلام الكبيرة في مُجتمع الوحدة والحريّة والاشتراكية ، وهو نموذج استثنائيّ ذو طبيعة أسطوريّة وثورية في الوقت ذاته ، يتبدّى في الفرد المتمرّد المنتمي حيناً ، واللامنتمي في حين آخر ، كما في ” مهيار الدمشقي” لـ ” أدونيس”، أمّا الثاني فتمثّل في العذابيّ، الذي تبدّى في أواخر الستينات والسبعينات، أي في أعقاب الانكسارات الفكريّة والسياسيّة التي تعرضّت لها المنطقة ” هزيمة حزيران –  مثالاً “، ولهذا انشطر إلى إدانة الواقع في جانب منه ، وإلى الانفعال والسوداويّة الحادة على الصعيد الذاتيّ ، كما عند ” نزيه أبو عفش” أو ” فايز خضور” في الجانب الآخر ، فيما تجلى الثالث في النموذج الحيويّ ، الذي طلّق البطولة الاستثنائيّة، أو التغيير الثوريّ الشامل ، ولم يعد يتلذّذ بعذاباته ، ويتحطم على صخرة رغباته المكبوتة ، ليتسيّد خطابه عقدي الثمانينات والتسعينات ، وقد يكون الغائب الحاضر الـ : د . ” محمد فؤاد” أو الشاعر ” صقر عليشي ” أمثلة واضحة عنه ، على سبيل التمثيل لا الحصر!
     وفي ختام الندوة ركّز الـ : د . ” أحمد الدريس ” على التلازم بين المشهد الشعريّ والواقع العربيّ في أبعاده السياسيّة والاجتماعية والثقافية ، ليشم التراجع الأول بسبب من تراجع الثاني ، إذْ تراجع دور الشعر والشاعر  لسيطرة النزوع الاستهلاكيّ ، وغياب البعد المعرفيّ كرافعة موضوعيّة قد تنتشل هذا الواقع من تردّيه!
   لكنّ ” الدريس” لم ينس أن يلمح إلى تفوّق المشهد السوري على مثيله العربيّ بحدود ، لجهة الريادة ورسوخ  قيم الإبداع في بلاد الشام والعراق!
    رافضاً مفهوم المُجايلة إذن ، ومُعللاً المسألة بتداخل الأشكال – حتى –  في تجربة الشاعر الواحد ، حيث تتجاور بحور الخليل مع قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر ، فضّل الباحث تقسيم المشهد استناداً إلى البنى الإيقاعيّة لكلّ نمط ، ثمّ تأطير كلّ نمط على أساس طبيعة خطابه ، تقريرياً مباشراً كان ، أم رمزياً أو سريالياً ،، إلخ !
    وأسهب ” الدريس ” في دور النقد في تراجع المشهد الشعريّ ، لميله إلى التراكميّ ، واجترار الحديث المكرور عن الأعلام ، بدل التحرّي في التجارب الجديدة المُميّزة ، من غير أن يسهو عن شللية بغيضة في النقد ، سواء أكان مرّدها إلى التخندق الآيديولوجيّ ، مُبيّناً ضرر انزياح الآيديولوجي على الشعريّ ، ليُنتج شعارات سياسيّة، بينها وبين الشعر بون شاسع ،  كما حَمّلَ ” الدريس ” النقد الصحفيّ ، الذي يتسم بالسرعة والتسطيح جريرة في تراجع المشهد الشعريّ ، ليخلص إلى دور النقد في سؤال الجوهر ، سؤال الشعر، حتى لايضيع في زحام المساجلات حول الأشكال الإيقاعيّة في القصيدة الشعريّة ، وأكّد – في المُجتبى – على كثرة الشعراء، لكنّه غمز من قناته إلى قلة الشعر!
     ومع حفل الختام أطلّ علينا كلّ من الشاعرين ” أديب حسن محمد ” و ” محمد المطرود ” ، في تجربة طريفة ، إذْ ألقيا قصيدة مُشتركة ، فتماهيا معاً في تناغم وَحّدَ المناخ العام ، وجاءت تجلياً لما قال به  الـ : د . ” سعد الدين الكليب ” عن النموذج الحيويّ ، ذلك أنّ الحياة في انكسارها واحتدامها.. في جموح الحلم والاشتراط البشريّ المُؤطّر لتلك الأحلام أو الوائد لها.. في تشوّف النفس البشريّة وتوقها إلى الإفلات من قيدها الإنسانيّ ، الذي يرسم هوة بين الواقع الذي تصلب إليه والحلم الذي تصبو إليه ، فهلّت الطفولة بعالمها البهيّ المورق ، الذي ينتمي  إلى أقمار وشموس مُلوّنة ، ثمّ مرّا على التفاصيل الحياتية، فحضر مقام الأسى والوجد والحلم والدنف والتوحّد ، وبدت القصيدة في غير جزء منها كأوراد المتصوّفة ومواجيدهم ، إلاّ أنّ ظلاّ من الإطالة وشمها على حساب اللحظة الشعرية المبثوثة هنا وهناك ، ليختتم الشاعر المُكرّم ” نزيه أبو عفش ” بألقه المعهود مهرجانه بقصيدتين تُلخصان عالمه الذي اختصره الشاعر ” رفائيل ألبرتي ” ببيته الشهير ” أنت في وحدتك مدينة مزدحمة ” ، حقاً ” نزيه ” ” ما أكثرهم وما أقلك ” ، غاضباً بدا الشاعر كعادته وحزيناً ، مُنكسراً لكنّه كالأشجار كان واقفاً في موته أو مواته المعنوي ، المعنويّ المنتمي إلى مقام الشجب !
    وكعادته اشتطّ الجمهور في آرائه بزاوية مئة وثمانين درجة ، فانتصر بعضه لقصيدة العمود ، وأخرج بقية الأشكال والأنماط من جنة الشعر ، مُتمسّكاً بالأصالة أو بوهمها ، فيما تموضع آخرون في خانة الحداثوي ، داعين إلى القطيعة مع التراث ، ما يعكس رؤى آيديولوجيّة تعيش انكسارها الراهن ، وتوكئه إلى الموروث ، ليمسك طرف ثالث بالعصا من وسطها فيدعوا إلى الأخذ بهذا وذاك ، ولكن بعد عملية غربلة صارمة ، ولا تخلو المسألة من ظل للتلفيق أو التوفيق بين متنافرَيْن !
    أمّا الوقوف بالصورة الفنيّة ، ومن ثمّ آليات الاشتغال ، ثمّ الرؤى الفنيّة ، وما أنتجته من حلول في المُمارسّة الشعرية ، والتي جاء عليها في الصلب جزئياً ، وفي تحليل عميق الـ : د . ” سعد الدين كليب ، وذلك على عكس ما جاء في مقال زميلنا إسماعيل الطه – على تسرّع – من أنّ ” كليباً ” كان يُغرّد خارج السرب ! أما هذه الجوانب ، فلها مقام آخر ، فهل جاءت القراءة على المشهد الشعريّ السوريّ كما تمثلَ  في قصائد المهرجان، ليتمّ تدارك المثالب والهنات في دورته القادمة، التي ستحتفي بالشاعر ” فايز خضور “!؟

    بقي أن نُشير إلى غياب لافت للقيادة السياسية وراعي التظاهرة ، جاء على لسان أكثر من طرف في النشرة الإخبارية اليومية الصادرة عن اللجنة الإعلاميّة للمهرجان ، تاركين موقف الاتحاد رئاسة ومكتب فرع وأعضاء لحوار داخليّ، له أن يُرتّب البيت الداخلي للاتحاد!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…