رحيل الكاتب «الكردي» غ. غ. ماركيز

 ابراهيم محمود

 بالطريقة هذه أقدّم الكاتب الكولومبي العظيم، المتعدد في مواهبه غ. غ. ماركيز، وله من العمر ” الخطَّاء ” سبعة وثمانون عاماً” يوم الخميس17 نيسان 2014″، وله من معاناة داء السرطان ” اللمفوي ” خمسة عشر عاماً، إنما وله من الكتب: العشرات روايات وقصصاً وتحقيقات وريبورتاجات وكتابات فنية وسياسية ومسرحية وغيرها، إنما وله من الجنسيات الكثير، طالما أنه أصبح عالمياً، كما لو أن كولومبيته كانت مجرد انطلاقة ” جينية ” . وبالطريقة هذه أعزّي الكلمة الأدبية وهواتها بكل اللغات التي عرَف بها ووصل إليها باسمه مقروءاً رحيل هذا الإنسان في جمعه الأثير إلى ذاكرة الخلود، ولعله عزاء موجه ” إلينا ” نحن الذين حاولنا أن نقرأه حين سمعنا باسمه في سبعينيات القرن الماضي، ونحن الذين حاولنا أن نقرأه في كل ما تمكنا من بلوغه في ثمانينيات القرن الماضي، وقد تنوبل” نال جائزة نوبل للآداب سنة 1982″،
 ونحن الذين تابعناه شغوفين ربما حتى في تسعينيات القرن الآفل، بدءاً من الأثر الملحمي” مائة عام من العزلة ” والأثر التاريخي القائم ” خريف البطريرك ” وجملة الكواكب الأدبية السيارة في الرواية والقصة: الأوراق الذابلة، ليس للكولونيل من يكاتبه، في ساعة شؤم، الحب في زمن الكوليرا، عن الحب وشياطين أخرى..الخ. مات الرجل ولم يمت، عاش الرجل وسيعيش أثراً، أخذ الكثير مما يستحق، وسيبقى قطب أدب وكتابة ومواقف مختلفة. ولد في شغف إلى الحياة ” كما تقتضي عضويته “، وترعرع في شغف إلى الانتشار ” كما تقتضي إرادته الإبداعية “، وكبُر في شغف إلى ما وراء الحدود القارية واسبانيتها، وهي لغة كتابته بداهةً ” كما تقتضي ملَكته الإنسانية “، ومات دون شغف ” كما تقتضي رغبته في أن يبقى في الحياة، وكما تقول وصيته التي سترد لاحقاً “، وسيكبر رجل إنسان كهذا دون أن يشيخ لمن يعرفون أبدية الإبداع . ربما أسيء إليه، إلى اسمه، وهويته ونسبه وأنا أصفه بالكردي، ولكنني استخدمت الفارزتين تمييزاً، وعظمة ما نحب ونقدّر هي في التعريف بمن نحب ونقدر في اسمه الكامل وجنسه ونوعه، لتكون الصفة حباً وتقديراً من نوع آخر، أي حين يقرَأ ماركيز مبدع الرواية العجائبية ” السحرية”، رغم صعوبة جلية في كتابات مختلفة له ” خريف البطريرك، خصوصاً “، ولكنها صعوبة شفافة، تحفّز على البحث والتحري ومعرفة طيات الكتابة، حيث التنابلة وحدهم يصرّون على لزوم أن يأتي كل شيء على ” سفرة جاهزة “، يقرَأ ماركيز كما لو أنه معايش بيئات، دون نسيان أنه كولومبي، ولا أخالني مبالغاً أو واهماً أن كثيرين تأثروا بماركيز كردياً عبر وسيط كتابي لا يرون الأدب إلا من خلاله، وليس من داع لتسمية أسماء طبعاً، وفي كردية بائسة. ربما أمكن للذين يقرؤون ماركيز عن قرب أن يكتشفوا إلى أي درجة يحضر الكردي بأوهامه وأحلامه، بخرافاته وخزعبلاته وتصوراته عن نفسه، ببطولاته المتخيلة وغير الدقيقة وسعيه إلى العالمية دون بذل الجهد المطلوب، بإمكاناته المتواضعة جداً، وقلقه على نفسه، وما يتهدده من بني جلته بالذات كثيراً،بغرابة أطواره وهواجسه وادعاءاته وقدرته السريعة على تصديق الكثير مما يقوله عن نفسه، وعجزه عن فهمها، وهو يكن العداء لصورته الفعلية كثيراً. ربما كانت ” ماكوندو ” المكان المختلَق ماركيزياً في أدبه ” مائة عام من العزلة نموذجاً “، تستحضر ” كردستان ” بأكثر من معنى، أي حين نقرأ ماكوندو وكأنها تشير إلى حقيقة واقعة جرّاء هذا الإيقاع المدهش في التعبير عنها وتوصيفها، وحين نعيش كردستان تاريخاً وجغرافيا وكأنها لم تتأهل بعد لأن تكون كما هي كردستان الاسم والواقع الكرديان من خلال المعنيين بها مباشرة، وإنما التشرذم والتلغيم، كما هي كردستان ما دون ماكوندو التي أخذت بلب ماركيز. كردستان: مائة عام من العزلة، عزلة الكردي الذي لم يكتشف نفسه بعد، واستيهاماته، وقدرته العجيبة على النيل من قريبه، وحتى من قريبته وسفاح قرباه بمعنى آخر. كردستان ” خريف البطريرك ” حيث الرجل الغريب الأطوار داخل التاريخ وخارجه، وهو يتحكم بكل شيء، ولديه جغرافيا مرقمة يلونها كما تريدها أهواؤه المتقلبة والمكلفة والمودية به في النهاية ” لو قرئ ماركيز من منظور البدليسي صاحب الشرفنامه لاكتشِف هذا الجانب كثيراً “، كردستان ” في ساعة شؤم “، وبؤس المعاش وغيبة الناس في بعضهم بعضاً، وعجزهم عن التعرف إلى ما يجري حولهم. ربما لو أمكن للمعني ” الحصيف ” أن يقرأ ماركيز أن يستقرىء الكثير مما هو قائم وغائم وعائم كردستانياً. ربما لو أمكن للمعني اللطيف أن يقرأ ماركيز أن يصافح في نفسه كرديَّه ” العفيف والشفيف والمأهول بالحياة أيضاً “، لمضى بنفسه إلى ما وراء ” قصة موت معلن ” ! ربما لو أن فكرنا كردياً في ماركيز لأمكننا أن نعزّز في روحنا الكثير من الأمل القادم باعتبارنا أهل حياة، وفي كل منا ما يشده إلى الحياة خارج أوهام هذا البطريرك الصغير أو نصفه أو ربعه أو ثانيته البائسة والباهظة الثمن بالتأكيد، وتجاوزنا عبر حمولة اكتشافية ” ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” و” الحب في زمن الكوليرا ” ربما جاز لي أن أنهي هذه الكتابة المأخوذة بظلال ماركيز أن أورد النص الكامل لوصيته التي ذاع صيتها بلغات كثيرة، كما لو أنها دعوة إلى مصالحة الروح المختلفة في كل منا، إلى الأمل الذي يغطي الحياة، إلى الحب الذي يشغل العمر كاملاً، إلى الجنسين معاً وليس بتراتبية فظيعة، إلى الكردي فينا لأن يأخذ حقه من الحياة، وأن يعطى حقه في حب الحياة والاستمرار في الحياة دون وصاية تقزّمه أو تحرمه من كرديته التي لا يعكر صفوها هوس من يحيل الحياة كاملة إليه، كردياً كان قبل كل شي وخلافه. كل ماركيز وأنتم أهل حياة ! دهوك، فجر18نيسان2014 .   وصية ماركيز: لو شاء الله أن ينسى أنني دمية، وأن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام. 
لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، ليس فقط عاري الجسد وإنما عاري الروح أيضاً. سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفـل سـوف أعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلّم التحليق وحده. وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان. لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر… تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه. تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن، قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضب في حقيبتي أكون أودع الحياة. قل دائماً ما تشعر به، وافعل ما تفكّر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعيّ ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها ، لقلت ” أحبك” ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبداً. لأن الغد ليس مضموناً لا للشاب ولا للمسن. 
ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم . فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على مَنْ تحب، اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتني بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك”.
.” نقلاً عن موقع: الحوار المتمدن “
   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…