(احترامي سيدي).. إلى روح جومرد

لقمان شرف 

 

في ظهيرة يوم من صيف العام 2004 , رنّ هاتف منزلي : ” مرحباً أستاذ
سليمان , أنا جومرد مشو , طالب بكالوريا , أحتاج , مع أربعة من رفيقاتي , إلى دروس
خصوصية في اللغة الانكليزية … . ” 
بدأت العلاقة المعتادة بين معلم و طالب . لكنه كان في نهاية كل ساعة شاقة
من الدرس يشغلني بالأسئلة السياسية التي تشغل بال الكبار و كنت – لأدفعه إلى
الاجتهاد في دروسه –  أردّ بلهجة
صارمة  : 
  ” لا زلت صغيراً على هذه الأمور . اعتني
بدراستك و حسب . “
فيردد عين الجواب في كل مرة : ” أستاذ , عندما أعد , فاني أفي بوعدي ,
لقد قلت لك , لن أدرس غير الحقوق و سوف أنال العلامات التي تخولني للدراسة في كلية
الحقوق , و سترى .”  كان عنيداً
معتزاً بنفسه إلى حد الكبرياء , واثقاً يدافع عن أرائه المختلفة عن رؤيتي السياسية
حينها بطريقة تغيظني . 
و استطاع في فترة وجيزة إلى أن تتغير العلاقة – رغماً عني – بين معلم و
طالب إلى ندّين يتناقشان أمور السياسة و الفلسفة و … . 
في بداية العام الدراسي التالي سمعت أن جومرد قد دخل جامعة حلب – كلية
الحقوق و في أول لقاء أجمعني به إحدى أزقات بلدة كركي لكي , توجّه إلي مبتسماً
مفتخراً بعد أن مد يده لمصافحتي و لسان حاله يقول : 
” قد أصبت أنا و قد أخطأت أنت . ” و قبل أن يودّعني , خاطبني
بلهجته الواثقة عينها : 
” لك مني وعد آخر … سأنال الإجازة في الحقوق … و لن أتوقف عند حد
… سأتابع دراستي حتى نيل الدكتوراه … و سترى . ” ودّعته ضاحكاً . 
لم تنقطع به علاقتي قط كما لم تنقطع بيننا الاتصالات الهاتفية إلّا في فترة
اعتقاله على يد الأمن السياسي في حلب اثر نشاطه بمناسبة الذكرى السنوية لانتفاضة
قامشلو في 12 آذار من العام 2007 . تلك الفترة التي مرت ثقيلة عصيبة على أهله و
محبيه لاسيما والده الذي علّق على ما حدث له : ” إنّ عناده الشديد سيجلب لنا
المشاكل . ”   
تخرج جومرد من الجامعة , ثم تابع الدراسة لينال ( الدبلوم في القانون
الدولي ) . لكنه كان ممنوعاً من العمل في وظائف الدولة (لأسباب أمنية ).  ما اضطر في عام 2011 إلى الهجرة إلى الشطر الآخر
من الوطن , كوردستان العراق . و هناك , و كان قد نضج و بات شخصية مؤثرة و متزنة ,
اختار التطوع في صفوف البيشمركة . و ترقّى بعد فترة وجيزة إلى رتبة ملازم , الأمر
الذي بعث فرحة غامرة في نفسي . فاتصلت به مهنئاً و على سبيل الدعابة : 
” احترامي سيّدي الضّابط . ” 
فأسمعني رداً في غاية الصرامة : 
” إن لك فضلاً عليّ لن أنساه لأنك معلمي و لن أسمح لنفسي أن تدعوني
بكلمة سيدي و لو على سبيل الدعابة وعليك أن (تسحبها) فوراً . ” ففعلت . 
و استمرت اتصالاتنا التي تناولت مختلف القضايا الحياتية و في كل مرة أحرص ألّا
أتفوه بتلك الكلمة التي استفزّته , بينما كان يطلب مني أن أتفوه (بمسباتي) التي
لوحدها ” تشفي غليل اشتياقي و حنيني إليك . ” فأفعل . 
أما  آخر مرة أسمع فيها صوت جومرد
الجهوري فقد كان قبل تاريخ 16 / 9 / بأيام قليلة فقط.  كانت جبهات القتال في محاور شنكال , خازر ,
دجلة … مشتعلة . 
كان يتحدث بحزم و جدية لا تطاق –  دون أن يمنحني أي مجال للحديث و على غير عادته –
ملمحاً إلى أحداث يبعث الفزع في نفسي : 
” قد يوجد من يعشق الحياة و كنوزها , أما أنا فروحي تلهف لمعشوقة أخرى
… أستاذ , أحياناً نضطر إلى اتخاذ قرارات ليس أمامنا إلا خيار واحد … أنا …
أنا  لن أسمح للأعادي الذين يمنون النفس
باجتياح هولير إلا على جثتي … و إن كنت لا تصدق , فتذكّر وعودي السابقة . ” 
جومرد , أيها العنيد الذي علمتني كيف يفي الحر بما وعد . 
أيها الطالب الذي بات معلماً لمعلمك الذي بات تلميذاً , 
ليتك تدري حجم معاناة محبيك و مدى افتخارهم . أتذكر كل وعودك , واشهد انك
خير من يقترن فعله بقوله . 
يا شهيد أمتي : ” سنبقى , أنا و أنت , مع فقراء الوطن خلايا شهيدة في
حزن والدتك التي تحب.” كما ردّدها عمر حمدي . 
 أما و قد رحلت و لم يعد هناك من يرغمني
على غير ذلك , فاني أقف إجلالاً لأرفع يدي تحية لقبر الشهيد و أقولها ملئ فمي علّها
( تشفي غليل شوقي إلى  روحك الطاهر ): 
” احترامي سيدي الضابط . ”    
كركي لكي 20 – 9 – 2014  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…