إنها السابعة بتوقيت كوباني يا أبي

أمين عمر

أبي هل لديك الوقت لرسالتي هذه، لطالما كنت تقول ليس لدي وقت ، كلما أردت الحديث لك عني وعن رفاقي كنت تقول لا وقت لدي لك ولحكايا رفاقك الجُهّال ، لقد كبرت يا ابي، ولديّ اليوم رفاق جدد، إنهم ليسوا كما كنت تقول “ستتخلون عن أبوكم وعن كرديتكم بعد عشر عصي من رَجُلِ مخابرات”، رفاقي ليسوا كذلك ، إنهم مقاتلون من أجل كوباني، من أجل الحرية. أبي هل حان الوقت لبعض وقتك لي.
أنا في كوباني يا أبي، إنها بحدود السابعة مساءً ، وقد إستشهدت صبيحة اليوم بين يدينا إحدى رفيقاتنا ، لقد كانت تغني رغم نزيفها ، يقولون لا يُهدِء الآلام العظيمة إلا القرءان أو الغناء. إنها “كُلي” فتاة في غاية الروعة، لم يكن سبب إستشهادها هو التهور ابداً، بل كان السبب شجاعتها، أو ربما اشياء أخرى .
 لقد أنقذت أحد رفاقنا ، الذي أصيب بطلقة، فأصيبت هي، بإصابة خطيرة، قلت لها لمَ فعلت ذلك يا أختي، كنا سننقذه بأي طريقة ، فقالت: لقد مازحتُ رفيقتي، حبيبة رفيقنا المصاب “ديار”، يوم إلتحاقه بنا إنني سأحافظ لها على حبيبها ، فردت على مزاحي: هل هذا وعد “كُلو” . فقلت هذا وعد. ماذا كنت سأخبرها لو عدت يوماً دونه.
لقد إستشهدت كُلي وربما رحلت وهي غاضبة بعض الشيء مني، حاولت تحقيق أمنيتها لكني لا أعرف إن نجحت في ذلك أم لا. أمس عندما اطلقت رصاصة على قناصٍ داعشي وأوقعته من على إحدى الأبنية، صرخ رفاقي ، ” بجي سروك آبو” قالوا وهم يمازحونني: لِمَ لا تردد معنا الهتاف هل ندمت على قتل الداعشي، فقلت : كلا، رغم إني لا أحب القتل ولكننا هنا ندافع عن مديتنا وأنا مستعد لقتل جميع المخلوقات إن هاجمت مدينتي ، قالوا لي لماذا لا تهتف معنا إذنٍ فقلت كلاماً أعتقدت إنه أغضبها.
منذ إن التحقت بهذه المجموعة كانت “كُلي” كالأم الصغيرة لنا، أصبحنا في هذه المجموعة كرفاق، وأخوة، آباء وأمهات، بل صرنا اقرب بكثير من هم ولدوا في عائلة واحدة، الحروب تخلق علاقات جديدة لم يسمع بها أحد، عندما تحارب من أجل هدف سامٍ وتشعر انك قد تموت في أيةِ لحظة، حينها تغادر جسدك جميع الاحاسيس التي تكونت لديك على مدى حياتك ويبقى عُصارتها، يبقى شيء وحيد، تبقى انسانيتك، هذه المرة الوحيدة التي أشعر بهذه الدرجة من الصفاء والوضوح ، أشعر بمعنى الانسان . أمس كنا نتحدث عن حبيباتنا كانت “كُلي” تستمع لنا ، ولكنها لم تكن تسمعنا، لابد أنها كانت تحلم بشابٍ، يحقق لها أمانيها في بناء أسرة، ربما كانت تبحث عن شاب يساعدها ببناء وطن، أنا متأكد ان هناك شابٌ ما، كانت تخفيه وراء خجلها، عندما يكون الحديث عن العشق، الكردية العاشقة، تحمر وجنتاها حتى إن كان  زلزالٍ يضرب من حولها، كلما نتحدث عن الحب والحبيبة كنت أشعر بدقاتِ قلبها في وسط هذه الحرب، كانت دقات قلبها تشبه قرع الطبول، ربما كانت مثل القذائف، كانت تستمع لنا وتغيب عينها الى مكان أخر. سألتني “كُلي” عن أثار جرحٍ قديم  في رجلي فقلت لها إنه من معارك سابقة ، سألني الجميع عن تلك المعارك فكنت أخترع معاركٍ ما، ومن كثرة الحبكة الركيكة عن معاركي، كانوا يتبادلون نظرات الاستغراب، والإستكذاب ، فأنت تعرف يا ابي إني لم اشارك في حياتي بمعركة ما.
أعرف إنك الآن تتساءل وتنتظر أن أخبرك كيف وصلت لكوباني وماذا أفعل هناك، عندما اوصلتكما الى تركيا انت وأمي وأخواتي ، قبل أكثر من شهر، قررت الابتعاد عنكم ، كي لا أرى اليأس في أعينكم، فأنا لم أتعود على نظرات أبي إلا وهي قوية، قررت العمل في أيٍ كان، لأعيلكم حتى تنتهي هذه الحرب، وعند سماعي بإجتياح الهمج لكوباني، تركت المعمل الذي أعمل فيه، وتركت راتبي لشهر كامل لدى صاحب المعمل، لقد أوصيت احد زملاء في العمل ان يوصله لكم، ربما يتأخر لكنه سيوصله، لم أستطع البقاء والعمل، وهؤلاء الهمج يعبثون بمدينتي، بمدينتك يا أبي، بمدينة جارتنا “بُهار”، نعم جارتنا “بهار” التي كذبت عليكم بشأن حبي لها، فكيف لطالبٍ مثلي حينها ، شابٌ لا يملك مصروفه الجامعي، أن يرتبط بفتاةٍ، سيطلبون منه مجرد الحديث عنها بالزواج منها، فتركتها حباً ، ولكنها لازالت تسكن في قلبي رغم إنها في الطرف الآخر من الأرض، في استراليا، هل تصدق اني أحياناً كنت أقول في نفسي بما إن استراليا تقع في الطرف الأخر من الكرة الارضية، كنت أنظر إلى الارض وأقول في نفسي، ربما “بهار” الآن هنا في هذه النقطة بالضبط من الجهة الأخرى من الكرة الأرضية.
 أنا هنا يا أبي لأحافظ على البعض من بقايانا هنا ، فلكلٍ منا هنا قطعة روح عالقٌة تنتظر من يؤانس وحدتها ويحافظ عليها، أبي مجالسكم التي كنت أتهرب منها ، كانت تعلمني أيضاً، كنت أتعلم في الدقائق القليلة التي كنت أُمهّد فيها للهروب منها، حبكم لكوباني، كنتم تذكرون أسم القرى والمرتفعات والأودية والهضاب ، كنت أعلم إنها محفورة في قلوبكم كنت أتهرب من وجوهكم، ولكني كنت أقّدِّر ما في ترف له قلوبكم، وسأحافظ على مقتنيات قلوبكم تلك، من أجلكم ومن أجلي .سأبقى في كوباني، سابقى في كوباني من أجل كوباني، فلن أخون أيامها التي منحتي الحياة، منحتني اول ضحكة وأول نفس، وأول دمعة، منحتني بعدها عشرات الهزائم ، علمتني حب الحرية. 
إنها السابعة بتوقيت كوباني يا أبي، نعم توقيت كوباني ، فدائماً كنا نقيس الزمن بتوقيتنا ، كنت دائماً تقول وأنت صائم هاتوا الفطور ، لقد حان الإفطار وما علاقة آذان كوباني بآذان الشام، هناك يفطرون بأوامر النظام ، لا بأوامر الله. إنها الآن حان المغرب بتوقيت الله في كوباني، ولكن لا أصوات للمآذن، حتى “مسجد سيدان لم يرفع فيه الآذان”، لم أر أغبى من هذه المخلوقات المتوحشة، يُكبِّرون عندما يقصفون المساجد، كي لا يكُبر في المساجد بعدها قط، كي لا يرفع فيها أسم الله بعدها، لماذا يكرهون الله، صحيحٌ إنني لم أكن من مرتادي المساجد ولكني عندما كنت أخرج من كوباني مسافةٍ قصيرة، إنتظر رفع الآذان من جوامعها، كنت أتوقف عن أيةِ حركة ،إستمع حتى ينتهي إحدى أجمل طقوس كوباني، كنت أعلم حينها إن كوباني سعيدة وهي بخير.
 بعد قليل سيحل الظلام، وقد نتمكن بعدها من النجاة، فيما مضى وفي مثل هذه اﻻوقات تماماً، كنا نأتي للبيت بعد الإفراغ من اللعب وبعد أن أنهكنا التعب، كانت هناك في سماء كوباني خفافيش وطيور سوداء، كنا نسميها طيور الأبابيل، حيث كانت لها مخالب طويلة ورفيعة وقوية، وكنا نتوقع بإنها طالت وقويت من كثرة الأحجار التي القتها على فيلة أبرهة الحبشي، كانت طيور سوداء لكنها لم تكن قط طيور شؤم، كانت تخرج كمن تتنزه في نهاية النهار قبل أن يحل الظلام، كانت تزين الطقس الأخير من نهارات كوباني، كمن تستفقد طرقاتها وتعُد بيوتها، كنا نرميها بآخر أحجار نهاية النهار، ليس لغاية قتلها وصيدها، فقط كان إلتزاماً منا بالتمرد الذي يسكن داخلنا. هذه اﻷمسية تكاد تكون نسخة من تلك الأمسيات إﻻ إن ﻻ خفافيش وﻻ طيور أبابيل في السماء، هل تفهم الطيور أيضاً ما معنى الحرب وما أوقاتها، ما يضيئ هذا المساء هي طلقات المدافع، وقذائف الهاون، إنها السابعة وهو اليوم الثاني من دون طعام وإمدادات، ما يُبشّر هو الرصاص الذي بحوزة مجموعتنا ، يكفينا لأيام عديدة ، في الحقيقة كانت هذه المجموعة تحمل صناديق الرصاص لإمداد المقاتلين به، ولا أعرف ان كان يجوز أن نسمي ما نأخذه من حصة رفاقنا ونطلقه على الدواعش بالسرقة، ولكنه في كل الأحوال يُطلق على داعش. لقد كنت وصلت للتو لبيتنا، عندما إنهال على البيت بوابل الرصاص، كان قريباً وكإنه يُطلق في أذناي، إحترت فيما أفعله، ومباشرة دخلت مجموعة من المقاتلين الكرد، كان أعلام ” ي ب ك” في يدِ أحدهم وأعلام أخرى صغيرة على أكتافهم، كادوا يطلقون النار علي، وما نطقوا داعشي، حتى قلت أنا كردي، أنا صاحبُ البيت، فأمروني أن أستلقي على الأرض ، أستلقينا جميعاً، قالوا بإننا شبه محاصرون، وقد تركوا بمكانٍ قريب صندوقين كبيرين من الرصاص وراء ما يشبه خندق خلفه ركام بيتٍ الخالة “هدية” ، زحفت الى الجهة الأخرى من المنزل كان هناك خارج البيت بمقربة الباب الخلفي، جثة داعشي عليها بارودة روسية، كتلك التي حملناها في سنوات في الجيش دون أن نطلق منها إلا رصاصات خلبية أثناء التدريب، أخذت البارودة والطلقات، ورجعت لأؤكد للمقاتلين بأننا محاصرون من الطرف الأخر ايضاً، وهكذا وجدت نفسي مقاتلاً، وطلبت البقاء معهم والإنضمام إليهم، بقينا الليل كله نتبادل النار مع الدواعش، وحيناً نتبادل الأحاديث عندما يخف وطئ الرصاص، أصبحت أعرفهم جميعاً ، في الحرب لا يكذب المقاتلون الذين يحاربون من أجل الحق، وإن أطلق أحدهم كذبة ما فهي لتظهر الحقيقة أجمل، حكيت لهم عن محطات من حياتي، كانت “كُلي” ترمي لنا بسكاكر في حقيبة بحوزتها، تقول هاهي : “عيديتكم” . أه لو أستطيع اسماعك الأغنية التي كانت “كُلي” تغنيها لنا في فواصل إنقطاع اصوات الرصاص، كلما كانت تتوقف عن الغناء ، يقول  ديار : “كُلو” أسمعينا شيئاً من أغانيك فنحن “على لحم بطنا” منذ أمس ولم نأكل شيء، فتغني “كُلي”: 
كوباني يا أبتاه
كوباني يا أماه
كوباني  تعشق الأمطار
لكنها لا تعرف البكاء
 كوباني تعشق الغناء
لكنها لا تعرف الرياح
كوباني يا كوباني
يا ضياء الشمس
يا بريق اللُجين 
يا خطوة الحرية
يا شقيقة الحنين 
كوباني يا كوباني
كوباني يا أبتاه
كوباني يا أماه
كوباني لبوة جريحة 
لكنها تخجل الأنين
لكنها تكابرعلى الزئير. 
وعندما يشتد إطلاق الرصاص يقول ديار :”كإنه يوم عرس أمهآتنا، قال لي أبي في عرس أمي ، أطلق أهل كوباني الرصاص حتى اعتقدنا ان كوباني تخوض الحرب”.
أبي لقد قتلت ليلة أمس عدداً من الدواعش ربما خمسة أو سبعة، كانت صرخاتهم وصيحاتهم تصل عنان السماء ، ثم تغيب فجأة للأبد فكنا ندرك أننا أصبنا الهدف، في هذا الصباح قتلت ذاك القناص الذي اخبرتك عنه في أول الرسالة، وأنقذت حياة أحد رفاقي ، لم أعد أخاف من الموت، ولكن تعلمت ان نحافظ على حياتنا، ففيها الحفاظ على حياة الآخرين ، أراد رفيقنا أن يغامر علّه يخفف الضغط عنا كي نلوذ بالخندق حيث الرصاص، كدت أن أموت ، رأيت الموت بالقرب مني وكإنه يقول لي ليس دورك الآن، فالرصاصة لمستني دون ان تسكن في رأسي، كمن تحذرني بإنني سأسكن في رأسك المرة القادمة.
 أبي لم يبق هناك شيء من هذا الذي كنا نسميه بيتنا، مكانك المفضل الذي كنت تجلس فيه، أصبح حفرة عميقة، والحيطان التي كنت تضربنا كي لا نرسم عليها باقلامنا أصبحت ثقوباً تستطيع القطط والفئران الدخول والخروج منها، لكن رائحة بيتنا لم يتغير، رغم روائح البارود لم يتغير، الروائح تحمل نوعاً من الوفاء لا تغادر بغمضة عين، لا تغادر بمجرد وصول أمواج البارود، الروائح كالذاكرة إن غابت ،تغيب تدريجياً.
الطيور والعصافير التي كأنت تلوذ باشجارنا وسمائنا، قد غادرت، الطيور تستطيع الطيران والفرار، لكنها لا تصمد مثلنا، الروائح  طردت طيور مدينتنا الى مدن أخرى، فكل السماوات تصلح بيوتاً للطيور ، الطيور لا تشبهنا، فكل الأراضي لا تصلح لنا، أرضنا وحدها تستقبلنا بغبطة وإن ظهرنا كموتى في وجهها، أراضي الأخرين تحب الأخرين فقط ، لقد مررت ببيت حجي يوسف لقد مسحوه عن الوجود، يبدو الأوراق التي كان يزرعها “الحجي” في ثقوب بيته كي يحفظه من عيون الحساد، لم تفعل له شيء، بيت سيدو كان فارغاً وابوابه مفتوحة لم يسبق لي وأنا هأبلغ الخامسة والعشرون أن رأيت باب بيته مفتوحاً، بيت العم حميدو تبقى نصفه، سمعته مرات عديدة يقول للجيران الذي يقترب للبناء قرب سور بيتي متراً واحداً سابيده مع عائلته، الأهبل “محو دينو” الوحيد الذي رأيته في أحد الشوراع، يبدو إن المجانين أكثر وفاءً من العقلاء، صرخت فيه أن يختبئ، لكنه رمقني بنظراته وقال: كلكم تركتم كوباني كالمجانين.
 كوباني جريحة يا أبي لكنها لا تبكي مثلنا نحن البشر، كبريائها وشموخها لا يسمحان لها، هي تموت يا أبي لكنها لا تصرخ.
 إن نجوت ونجت مدينتنا، فسأصبح انساناً آخر، لن أقوم من مجلسك يا أبي، لن اقوم منه بمجرد قدوم أصدقائك، لن أراقبهم بنظراتي التي كانت تقول لهم على الدوام ، متى ستنهون هذه الجلسة ، لن أبعث اخواني الصغار ليستفقدوكم هل ذهبوا أم لا ، سأجلس معكم و قلبي يستمع لكم، وسأغير قنوات التلفاز كما يطلبها اصدقاؤك وسأكون حريصاً أن أتابع احاديثكم وأمدح أعمالكم التي كنت أضحك منها في داخلي عندما كانوا يتحدثون بها ، سأحترم المهربين الذين يعيشون على حدود كوباني، ليس لإنهم تطوعوا لإيصال الناس الى الحدود من دون مقابل، بل  لإنهم الكشافة وعلماء جغرافية كوباني، وعرفوا طرق الحياة خارج كوباني، المهربون كانوا قسماً منا، أختاروا طريقاً آخر للحياة ، لإن حياتنا لم تكن تعجبهم ، ربما كانوا هم الصح ، ربما كنا المخطئون، كان الأجدر بنا إحترامهم لا مقاطعتهم. كوباني وهي جريحة علمتني الكثير، علمتني كيف أكون انساناً كاملاً، إن نجوت وكوباني، سأصحو باكراً كما كنت ترغب ، وساقوم ببعض الأعمال قبل الفطور كما كنت تحب، سأغير عاداتي تلك، كهجومي على المطبخ وتفقد أحوالها قبل كل شي، حتى قبل ان افتح عيناي، ساقوم على صلوات الصبح كل يوم، لن أؤخِر واحدة لبعد الشروق، لن أفطر عشرات الايام من رمضان كل سنة، حتى لو مُتتُ من الجوع، سأحضر أعراس جميع الأهل لن أغيب عنها حتى لو ارتفع غبار دبكاتها الى عنان السماء، لن أستهزئ بالآخرين بعد الآن إنهم جيراننا واهالي مدينتنا، ومن المعقول جداً لو انهم هنا كانوا سيقاتلون معنا وكانوا سيفدوننا بأرواحهم،  فليكذب بعضهم كذبات صغيرة ، فنحن لسنا ملائكة، ولن يُهدم الكون بمجرد كذبة صغيرة من أحدهم وهو يحاول أن ينقذ نفسه من موقفٍ محرج، لن أنظر بعد اليوم إلا لما هو مفيد. أبي في يوم واحد من الحرب يتعلم المرء وبالعذر منك من هذه الجملة، يتعلم أكثر مما يلقنه له أباه خلال عشرين عاماً، الحرب لا تعلمنا القتل فقط ، الحرب العادلة والدفاع يعلمنا معنى الحياة . إنه اليوم الثاني، الجوع يكاد ينال منا، ولا أذكر أخر مرة شعرت بالجوع كما اليوم ، كنت تقول لي دائماً، أنت لا تعرف أباك عندما تجوع، وأمي تعرف دون الأخرين كيف كنت أتسلل الى المطبخ وأفطر أكثر من نص أيام شهر رمضان، لذا كانت تقول لي دائماً ، إن قامت المجاعة في بلدنا فسيكون الإعلان من بيتنا هذا وبسببك تحديداً ، أنا اليوم يا أبي أخفف عن المقاتلين الذين معي ، لست أكبرهم ولكنني أحاول ان أكون إيجابياً .
لقد أنقذت رفيقي ولكني صفعته بعد إنقاذه، فالحياة ليست رخيصة إلا من أجل كوباني وعلينا أن نحافظ عليها من أجل كوباني، إنها بحاجة الى ارواحنا جميعاً كي ندندن بعد النصر قرب عينيها، أغنية الحرية، عندما تتحرر كوباني سأزور عينيها ” عين العرب”، و”عين مرشد” لأقبلهما ولأمسح دموعهما كي نكحلهما جميعاً باشواقنا.
إستطعنا اليوم صباحاً ان نلوذ بالخندق القريب حيث صندوقا الطلقات، اليوم صباحاً ، حاول “ديار” تغير مكانه رغم تحذيرنا له، رغم إن “كُلي” قالت له سأخبر حبيبتك إنك “لعبت بزيلك” في المعركة، فنحن تحت الانظار وأي حركة قد نفقد حياتنا، لكنه فعلها وأثناء المحاولة أصيب بطلقة ، ففي كل حركة هنا تأتينا مئات الطلقات، لا أحد  يعرف من أين أتى كل هؤلاء الدواعش الى كوباني، إنهم كالجراد، بقي “ديار” عالقاً، مصاباً، وراء بعض الركام بين بيتنا وبين الخندق، وأية حركة منه سيُـقتل، وفي غفلة منا ركضت “كُلي” وأنقذته، لكنها أصيبت أيضاً، أعتقدنا إن “ديار” ذهب ليحضر حقيبة صغيرة سقطت من كُلي فيها أدوية وأوراق وخرائط المدينة، لكنه كان ذاهبٌ لإحضار قلادة عليها صورة أمه من جهة وصورة حبيبته في الجهة المقابلة، جرحه بسيط لكنه ينزف قليلاً، لكن “كُلي” جرحها خطير، إقتربت من كُلي قلت لها هل لازلت غاضبةٌ مني فقالت فأومأت براسها، لا، قلت لها لا تموت أرجوكِ، من أجل ذاك الذي كنتِ تبتسمين، وتحلمين، اثناء حديثنا عن العشاق، لا تموتِ أرجوكِ، لقد كانت غاضبة مني قليلاً، هي وباقي المجموعة، عندما قتلت القناص الداعش هذا الصباح وقالوا لي لم تهتف معنا بحياة “السروك”، قلت لهم: أنا من قتل الداعشي وليس السروك! عندها إبتعدت قليلاً ,ادركت إن جوابي لم يعجبهم جميعاً ، لكنهم أطلقوا بعض الرصاص صوب الدواعش، وكأنهم لم يسمعوا الجواب وعادت الأمور طبيعية. كانت “كلُي” تودع عالمنا ببطء وضعت رأسها على ركبتي، قلت لها ” بجي سروك آبو” لا تغضبي مني ” بجي سروك آبو”. أبتسمت كانت إبتسامة الوداع الأخيرة. وضعنا جثتها الطاهرة الملونة بلون البطولة، الحمراء، في مكانٍ أكثر أمناً من أمكنتنا نحن الأحياء، كنا حريصون عليها كي لا تصيب بأي طلقة أو أي همسة، لابد إنها ترانا وتشعر بنا وتصفق لنا.
فتحنا صناديق الرصاص ، وبدئنا من جديد، وكإننا كنا في فترة إستراحة طويلة، إستمرينا لساعتين دون أن نرفع أصابعنا عن الزناد، “ديار” كان ينزف ببطء إلا إن جرحه ليس بالخطير، تذكرتُ “كُلي” التي لم تغب عن مخيلتي ثانية واحدة، وما فعلته كي تحافظ على “ديار” من أجل حبيبته، لم أجد نفسي إلا وأنا أركض حيناً وأزحف حيناً الى بيتنا ، حملت الحقيبة، حيث الأدوية، وقبل أن أصل الخندق أحسست بوخزة كإنها لسعة كهرباء، تماماً مثل تلك التي كانت تصيبني، عندما كنت أعبث بأسلاك الكهرباء في البيت، أحسست بعرقٍ دافئٍ يسيل من جسمي حاولت مسحه إذا بلونه أحمر ، أدركت إني أصبت، الأدوية التي جلبتها من أجل “ديار” صرت بحاجة إليها أكثر منه، ضمدنا جروحنا وتابعنا حربنا، أتعرق أحياناً ، فيأتي أحد رفاقي يمسح الجرح ويغيره ونتابع حربنا ، في أحد المرات عرقت كثيراً، ألتفوا حولي بقي أحدهم يشغل الدواعش، وألتف الآخرون حولي، أعتقدوا إنني سأموت، أقتربوا مني قلت لهم، حقيقةً أنا لم أخض معارك قط في حياتي، وذاك الجرح القديم الذي في قدمي، الذي سألتموني عنه أمس، لم يكن جراء المعارك قط، عندما شاركت في مظاهرة ضد النظام ، في بداية الثورة، أمسكني الأسايش، وعذبوني، حاولت مراراً أن أقول لهم إنني لست من الإرهابيين ولا من الأردوغانيين، أنا ضد النظام، فكانوا يصرخون في وجهي أنتم يا كلاب يا اردوغانيين ستأتون بالارهابيين والجيش الحر الى مناطقنا، بقيت لديهم أسبوعاً وأطلقوا سراحي، بعدما تركوا لي هذا الجرح، صدقوني لم أحقد عليهم يوماً، نحن إخوة لكنهم ينكرون الجميع، لست منتسباً لأي حزب، ولم أنتسب في حياتي لأي حزب، ولم أهتف لأي قائدٍ، حتى البرزاني، كنت دائماً معجبٌ بالبرزاني، و بما قام به البرزاني، لكني لم أهتف له، الدكتاتور حافظ الأسد عندما كانوا يهتفون بحياته، كنت أحرك فمي واتمتم بكلمات لا اعرف ما هي، كي أتهرب من الهتاف له. حينها إقترب مني ديار وقال بجي سروك برزاني، ردد بعده الآخرون بجي سروك برزاني … بجي سروك آبو.
وضعي ليس بالخطير يا أبي وها أنا أكتب لك، أكتب لك فقط كي لا تضيع هذه الأيام العظيمة من حياتي إن قُـتلت، لقد أوصيت رفاقي، في حال إستشهدت، أن يوصلوا هذه الرسالة لك، وإن بقيت حياً فسأقص لك بنفسي ما رأيت في كوباني قبل السابعة من هذا المساء، إن كنت تقرأ هذه الرسالة فأعلم إن رفاقي قد إنتصروا وإلا ما استطاعوا أن يوصلوا لك الرسالة، إن أستلمت الرسالة أقرأها لأمي وأخوتي، وعودا جميعاً لكوباني، هي تنتظر قدومكم على أحرٍّ مني.
إن عُدت لكوباني يا أبي، وكان لديك بعض الوقت لي، فأزرع في باحة دارنا ثلاث زيتونات، واحدة بإسمي وواحدة باسم جارتنا ” بُهار”، وواحدة بإسم “كُلي” كي تغني لنا في الأمسيات.
—————————————————————–    
* “مسجد سيدان لم يرفع فيه الآذان”. هذه العبارة مأخوذة من صفحة الروائي جان دوست

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…