ابراهيم محمود
لا أكثر حضوراً من الكلب، كحيوان، جهة الاستخدام في الأمثال والتعابير اليومية، وفي الدلالات والرموز القديمة والحديثة، ولا أكثر من الأدوار التي يؤدّيها الكلب، أو الحركات التي يتمثّلها وتعنيه أساساً، فهو الجامع بين البرّي باعتباره وحشياً، والأهلي بوصفه مروَّضاً، فهو يمتلك أسراراً من عالمين: عالم البشر وعالم الحيوانات الأخرى، وهو سريع التحول، سريع الانقياد، لهذا لا أحد يقبل التشبيه به علانية.
لكن عدم التشبه به، لا يعني عدم وجوده، فكَم قيل وتردد عن الذين يقلّدونه في عالم البداوة، وفي عهدة أهل الخيام، حيث الكلب حارسهم الليلي، وهم بغية استدراج من يتعرضون للتيه، أو خشيته، أو لنهبهم وإيذائهم، يتمثلونه، إذ يقصدون عواء كلبياً، هو بشري المصدر، وقد تم إتقانه، ولكم اعتمِد الكلب في أداء مهام ارتضاها بشر، للنيل من الآخرين، كونهم تكيفوا معه طباعاً سلبية، أو في العواء باسم أحدهم، أو خلافه، أو لنيل حظوة ” عظمة ” أو سواها، طالما أن ذلك يتجاوب مع رغبة مشتركة أو فردية في مواجهة الآخر.
الاستدراج الكلبي، أو الاستنباح، أو الاستعواء، له عراقة تاريخية، وقد ترافقت، ولم تزل قائمة، ويجري تعديلها وتنويعها حتى اللحظة، استناداً إلى صلاحية هذا الحيوان المحمّل بما يعني مروّضه أو مسخره البشري، في مدينتنا المعلومة، ولا بد أن التنوع في المهام، وتوسع عالمنا، واستحداث الوظائف…الخ، حفّز في المعنيين بالشأن الكلبي هذا، والمأهولون به، إلى أن يطلبوا المزيد من الكلب حركة أو نباحاً أو عواء، فلا يبقى الكلب مجرد كلب، ولا العواء عواءه أو النباح نباحه، وإنما ما يجعل الأمر ملتبساً أحياناً على من يتعرض لهذه الحالة، أو يعاينها هنا وهناك، وتصل الحالة أحياناً إلى استحالة الخروج عن التقمص الكلبي.
الكلب بطبيعته، وتبعاً لغرائزه الكلبية ومؤثرات الوسط، قد يصبح ” شرساً ” أو ” عاضاً “، أو مجرد نبّاح، عوّاء، ولكنه، قد يظهِر حركات وفي الواجهة يتابع نباحاً وعواء، للفت النظر، وبلبلة الآخر، بذاته أو بتكليف: بالتدريب، وما أكثر ما يُرى كلب ينبح أو يعوي، ويتم إسكاته بالتلويح بعصا صغيرة، أو حجرة، أو بنهره سريعاً..الخ، وهذا ما يضمن له ، ربما ، بعضاً من الراحة الكلبية وقد أشغل الآخر.
الكلب، وبوصفه كلباً، ينتمي إلى عالم الحيوانات أولاً وأخيراً، حتى ونحن نشاهده في أمكنة مختلفة، وخاصة في العالم الذي بات له موقع فيه، لأسباب اجتماعية ونفسية وثقافية ” أوربا، أميركا “، وهذا يضفي عليه ألقاباً تقرّبه من بني البشر ومن المهتمين به جهة الأغذية الكلبية المصنّعة له، أو الأطباء، أو حتى علماء الحيوان ، جرّاء هذا الانتشار.. سوى أن عالمنا وقد تداخلت فيه القيم، بات المستكلب مزاحماً للكلب، ومنافساً إياه في طبيعته الكلبية، ولو أن الكلب المبتلي بمستكلبه تمكّن من الكلام ولو بجملة واحدة، لقال” أنا لست كلباً ” جرّاء ” التكالب “، أو الطلب الاستكلابي، وقد جرى استعواؤه واستنباحه، كما لو أن الذين فشلوا في تأكيد كيانهم النفسي والاجتماعي، ويئسوا من بلوغ ما اجتهدوا من أجله كثيراً، لم يجدوا بداً من البحث عن سبل أخرى لتعزيز موقع، تلمَّسوا فيه ما يحقق راحة نفسية لهم، إزاء نجاحات لآخرين أخلصوا لإنسيتهم ومجتمعيتهم، وهو ما بتنا نشهد له انتشاراً في عالمنا أنّى التفتنا.
بالتأكيد، لا يمكن تصريف فعل الاستنباح أو الاستعواء بالمزيد من التعابير وفيض الدلالات، طالما أن ذلك يفقِد أصل الموضوع مغزى الكتابة عنه، إنما الذي يُتحفَّز للنظر فيه ملياً، وعدم نسيانه، وفي هذا ” التكالب ” الجائح والمشهود له، هو التنافس الملحوظ بين الذين لا يكفّون عن تطوير هذا الدور المقبوس، ومن يشكّلون قدوة استكلابية في هذا المضمار، لخلق المزيد من البلبلة، وإشغال من يعيشون إنسيتهم بالانتباه إليهم، رغبة نافذة مميتة، وهي حسرتهم المزمنة، أن يجدوا هؤلاء ولو مرة واحدة يستنبحون أو يستعوون مثلهم، على الأقل ليكون في مقدورهم الاطمئنان إلى أن شيئاً ما تحقق لهم، حتى لو أن الكلب الضال نفسه يستهجن فعلتهم ” الدخيلة ” !
دهوك
13-3-2015