أخوال الوادي

  عبدالرحمن عفيف

يحلّ الظّلام أسرع مما في بقيّة أحياء القامشلي. فأتى خال أمّي بمصباح على الكاز والمازوت بذبالة وأشعله ووضعه أمامنا. كان يملك أيضا فروة ويكون لنفسه على التلّ حين يشاء وهو حليم ولطيف على الدّوامِ. بيته المبنيّ من الحجارةِ المطلّ على شواهد القبور. في الهلاليّة التي يرتفع تحتها هلال مسجد وانحناءة ريحانٍ ذي رائحة كرائحة السجّاد المسجدي. ورائحة اللّيل والأذان للمؤذّن المسكين الذي يشعر بالعزلة واللاجدوى، كلّ هذا في صوته المتحشرج، الباهت، المتكسّر، الرّفيع كشعور بضياع في أفق سرمدي مختفق. وأشجار في الهلاليّة متشابكة قليلا هي أشجار صنوبر تصبح داكنة وتتداخل مع صوت المؤذّن. وتريد أن تختفي من وجودك مطلقا.
ويصيح” داوي”: ” أين أنت سِلْتي؟” ثمّ سلتاني وسلتاني وجدّتي ماتت، وشجرة التّوت والإرجوحة والعنزات الثّلاث والجدي الأبيض الذي كان يقفز على جدار الجيران وعلى الأطفالِ. المغزل اليدويّ والتريفيلاّ التي جلبها خالي من حلب. والسّاحة أمام بيتها، تلك السّاحة بترابها الأحمر الذي صنعت منه خبز التنانير. العنزات الأربع شربت الماء، العصفور أكلتُ لحمه الأسود وعلّقتُ ريشة على طرف فمي. وأحسست بذوق القريةِ حين رأيت الأباريق الفضيّة من التنك السّميك التي يتوضأ بها” داوي” وزوجة “داوي” على اسمنتِ البئر. حين رأيت قصب وشيفون المخدّات الاستبرقيّة والألحفة والدوشكات الصوفيّة والشبّان الذين يرتدون الفرو المسمّى بالكورك ويتمشّون على القرية ويقفزون على جليد الوادي.
بقيت الأفعى يوما كاملا في غرفة أخي، جالت في الزّويا وزحفت على الكتبِ واختبأت تحت المنضدة والخزانة ولامست بألوانها وذيلها كلّ بقعة وكلّ شبر من الغرفة وكأنّها مقدّسة تطوف بالكعبة. في الكيس كانت تملك ريشها، مريّشة بالذهبيّ والشّجاعة والقداسة، أفعى أقربائنا ذوي الأنف الكبير والمتانة على غبار القرى والآبار.
دوّى صوت ” داوي” في الشّارعِ وكانت جدّتي قد ماتت: ” سِلْتي، ها سلتاني، أين أنت؟” يأتي من قريته” سيمتك” إلى عامودا وكان واقعا في حبّ جدّتنا. يصيح من مسافة طويلة، لا ينتظر أن يصل إلى بابنا الأخضر. وبابنا يرفرف بتنكه الرّقيق وأمامه الأحجار الثّلاثة تنتصب وتشعّ بأبيض وبنيّ. صار صوت “داوي” المدوّي مثار تعليق أخي وعبثه:” لماذا يصيح عمّك، يا أمّي، من شوارع قاصية، ألا ينتظر؟” وعرفنا أنّ ” داوي” قادم من “سيمتك”، على وادي سميتك البيوتُ القرويّة القليلةُ ومعظم السكان أهلٌ لعشيرة ” داوي”. ابنه الأكبر وابنه الآخر الذي يحبّه ويفضّله في المزاح خالنا الشّيخ” مدني”. مزاحات يخترعها ويجدها مضحكة وهي قرويّة ويحسبها خالنا مدني مدنيّة. في سيمتك المخدّات الممتلئة بالصّوف الأجود، مقصّبة الحافّات والخيطان الدانتيليّة على خدودها وأطلسها المستبرق أحيانا يشع شعور الموتِ فينا. ثمّ تزوّج ابن داوي الأكبر” عبدالرحمن داوي” وزيّن وجهه فأصبح كشمعة في بدلة بنيّة مع كرافيت. وتمهّل في الكلامِ وأصبح محترما وأظنّ كان الرّجل محترما في حياته سوى أنّ خالنا مدني كان يداعبهم، فنحسب الأمر بقليل من الاحترامِ. عبدالرحمن داوي هو ابن خالة خالنا مدني، حيث زوجة داوي هي أخت جدّتنا. في القرية قطعان الأغنان والماعزِ وعلى ناحية منها كروم عنبٍ. الوادي الذي يتوسّط القرية واد وحوض كبير يأخذ كلّ مساحة القرية تقريبا والبيوتُ على الوادي وتحت الوادي والوادي جامد في الشتاء وفي الصّيف تأكل وتشرب منه الأغنام. حين تزوّج عبدالرحمن داوي كنت هناك وذهبت مع بعض الأطفال، اصطاد الولد معي عصفورا بنيّ الرّيش وغرز فيه مسمارا بصدأ ثمّ شواه على نار صغيرة وأكلتُ اللّحم الذي كان بطعم ذرق الدّجاج والدّيكة. ودارت سيّارات العرسِ حول القريةِ ثمّ دارت ثانية وسيّارة العروس كانت بيضاء وتثير الغبار على ورود الزّينة وطاقات الأربطة المزركشة. ما ميّز”داوي” هو صوته المرنّ في الصّباح سائلا عن جدّتي؛ المشترك بينهما هو التّبغ الذي يدخّنانه وأيضا جدّتي بتنقّلها في القرى، تذهب إلى بناتها المتزوّجات، إلى خالصه، سريّا، هاجيره، تركيا ولطفيا. تذهب إلى أخوتها حجّي محمود والآخرين. أخوها الآخر الذي عاش على تلّ الهلاليّة. بيتٌ يطلّ على مقبرة الهلاليّة في حواليّ القامشلي. اتّهم أخي أقرباء أمّي بأنّهم قرويّون وبعضهم كانوا في قوّة ومتانة الرّيف، شكلا ووجها ولهم أنوف كبيرة بارزة وورثناها منهم، من أقربائنا القرويّين، ورثنا أيضا المشيخة والعباءة وميلا إلى البساطة الطبيعيّة مع ميل إلى الجنّ والعفاريت والنّار. وهم غضبوا من أخي لوصفه المستديم لهم بالقرويّة وأيضا بالتخلّف. فجاء ابن عمّتي ” شُكريّا” لأخي بهديّة في كيس. الهديّة تتحرّك في الكيس وهي ملتفّة على أنحائها وهذا وعد من ابن عمّتنا عبدالكريم لأخي أن يجلب له هديّة ذات يوم ليختبر رجولته. في الكيس دجاجة كبيرة الحجمِ صامتة، اعتقدت في البداية، أو ديك ذو عرف كبير أحمر أو ديك روميّ أو ربّما نعجة ذات شعر أحمر على بنيّ على ذهبيّ. نعجة صغيرة أو ديك كبير أو نسرٌ وصقر كان يطير في أجواء قرية”توبز”ربّما. لا، إنّه صقرٌ ذو أنياب يغرزها في ابن خالي المدنيّ وأعرف شجاعته، ثمّ أخذ الكيس والصّقر الذي فيه والدّجاجة البريّة التي كانت تلتفّ على أنحائها بأنيابها السّامّة ودخل غرفة أخي. أفعى كبيرة امتدّت وامتدّت وامتدّت خارجة مع خشخشة الكيس وهرولنا وهرول أخي وضحك عبدالكريم، تعالوا، سأحرّم على ابن خالي أن يدخل غرفته، لقد اقتلعنا الأنياب، الشّيخ أخي اقتلعها وقرأ عليها الفاتحة. يدلّل خالي مدني ابنه” حجّي”، يضعه على ساقيه ويأرجحه حينما كان”حجّي” هوالأصغر من بنيه. نكح ” حجّي” الحمارة، نعم، يقول “حجّي”، حمارة من؟ يسأل خالي مدني، حمارة ” داوي”، يقول “حجّي”. أين؟ يسأل خالي ” مدني”، في الوادي، يجيب ابنه”حجّي”.

30.12.2007

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

الهرمنيوطيقا وما بعد الهرمنيوطيقا هما مفهومان مركزيان في الفلسفة والعلوم الإنسانية يتناولان فهم وتفسير النصوص والمعاني والظواهر الثقافية. وفيما يلي السمات والخصائص والاختلافات بين هذين المنهجين:

 

الهرمنيوطيقا. الخصائص والمميزات:

التعريف:

الهرمنيوطيقا هي فن وعلم التفسير، لا سيما للنصوص واللغة والمصنوعات الثقافية. تعود جذوره إلى الفلسفة القديمة وتم تطويره في القرنين التاسع عشر والعشرين.

 

الجذور التاريخية: للهرمينوطيقا جذور تاريخية…

الشيخ صبحي نابو

 

الإيزيدية هي مجموعة عرقية ودينية قديمة . وهي ديانة توحيدية غير تبشيرية، تعتمد على مفاهيم روحانية خاصة بها، حيث تؤمن بوجود إله وأحد خالق للكون، وتقدس الملائكة السبعة النورانين و أحترام جميع الأديان والمعتقدات.

تتميز الإيزيدية بعاداتها وتقاليدها الفريدة التي تتوارثها الأجيال، مما يجعلها من الديانات الغنية بالتراث والثقافة التي تدل على تاريخها الممتد…

جمال البرواري

 

صدر من مكتبة كازي بوك كتاب ” فرحة السلام – من الشعر الكلاسيكي الكوردي للشاعر عصمت شاهين الدوسكي تصميم الغلاف الفنان الكبير نزار البزاز الطبعة الأولى رقم الايداع في المكتبة العامة في دهوك 25/2525 156″ صفحة ” حجم متوسط ..يستهل الكتاب بشكر للأستاذ الكبير دلخواز موسى محمد مدير الثقافة والفنون في زاخو لمساهمته مشكورا…

رياض عبد الواحد| العراق

يمكن أن نلج إلى هذه المجموعة من منافذ عديدة، أولها ثريا المجموعة/ أقدحُ شررَ الكلام، تحليل الجملة “أقدح شرر الكلام” يمكن تقسيمه إلى ثلاثة مستويات: فونيمي (صوتي)، ودلالي (معنوي)، ونحوي (تركيبي).

التحليل الفونيمي (الصوتي):

الكلمة: “أقدح”

الأصوات الصامتة: (همزة)، (قاف)، (دال)، (حاء).

الأصوات الصائتة: (فتحة قصيرة).

البنية الصوتية: همزة قطع في البداية، يتبعها صوت قاف انفجاري…