محمد أوزون الهجرانُ، هو هكذا أليمٌ « Welatê xerîbiyê »

  الترجمة عن الإنكليزيّة: عبدالرحمن عفيف

أحدُ رموزِ طفولتي الذي مثل ظلِّ لازالُ يلاحقني هو جدّتي. طويلة القامة بإفراط، بملامح وجه قويّة كما يمكن أن يجدها الإنسانُ عادة في البورتريهات التاريخيّة. زيّها يقفُ شاهداً على تاريخٍ منسيٍّ، عيناها مثل ينابيع دفءٍ وصوتها ناعم كمخمل، لقد كانت من بين القلّة الذين كانت لهم دمغتهم على حياتي. كانت أمي البنت الوحيدة من بين أطفالها السبعةِ. وكما العلاقاتُ بين الأمّ وأولادها ضاجّةٌ بالحنانِ والحرارةِ في وطني، هكذا كانت العلاقاتُ أيضاً في أسرتنا. كان هناك حبٌّ ورقّة بالغان، اهتمام وحسّ بالمسؤولية والحماية، دفعٌ لانهائيٌّ من السّرور…
كانت جدّتي تعيشُ في نفس البلدةِ كما نحن، لكن في حيٍّ آخر. على الرّغم من ذلك فإنها كانت تأتي إلى بيتنا كلّما أتيحت الفرصةُ، بيتنا بحديقته الكبيرة، بأشجارِ الدرّاق والرمّانِ. كانت تمكثُ عندنا لأيّامٍ، وحتّى لأسابيع أيضاً. كانت تجلبُ هدايا بغير عدٍّ لابنتها ولي، حفيدها الأوّلِ. لقد كانت هذه الأيّام تنعشُ وجودنا الروتيني، وكانت مثل أزهارِ شجرِ الرمّانِ ملوّنةً. كانت أفضل الأطعمة تُطبخُ، ألبسةٌ جميلة ومزركشةٌ تُرتدى، كانَ يُقامُ بزياراتٍ ويتمّ استقبال الضّيوف. ووجهُ أمّي كان يشعُّ باللون المفعم بالحياةِ  لدرّاقةٍ ناضجةٍ.

***

أنا أيضاً في الجانب الآخرِ كنتُ أعشقُ اللياليَ القصيرة لهذه الأيّام التي لاتُنسى… ليالي الأساطير المطرّزة والقصص. غرفتي الصغيرة بنافذتها الواسعة لم يكن قطّ يكفيها الضّوءُ من مصابيح نيراننا الزيتيّة الصّغيرةِ، لكنّ الأساطير والقصص كانت تعبّئها بأشعّةٍ متراقصةٍ منيرةٍ. كنتُ أتمنّى أن تطول هذه الليالي، وتصير أبديّة، وكنتُ بتكرار أخبرُ جدّتي أنني لم أكن أريدُ أن أنام. لكن كنتُ أتهاوى نائماً، كانت الليالي تنتهي وتأتي نهاراتٌ جديدةٌ. عندئذ كنت أنتظرُ متلهّفاً الليلة القادمة. كانت حكمتي الطفولية تعرفُ أنّ بعض القوانين والأحكام كانت أقوى منّي، مستقلّة عن رغباتي وأمنياتي. حين كانت جدّتي عندنا، كلّ ليلة تقريباً قبل أن أذهب للنوم، كانت تأتي وتجلس بالقرب منّي وتداعب شعري بأيدٍ طويلةٍ ذات عروقٍ بارزة بحدّةٍ. كنتُ أعي الموقف في الحالِ: كانت قصّة مشوّقة، جديدة على وشكِ أنْ تقصَّ. عندئذٍ كنت أدفعُ بمخدّتي جانباً وببسمةٍ صامتةٍ كنتُُ أضع رأسي على ركبتيها. بعد هذه الترتيباتِ البارعة والصامتةِ، كانت تنطلقُ الكلمات الملحميّة للقصّة، مخلوقةً من عمق التّاريخِ. وهكذا تبدأ جدّتي تربطُ الدرر مستعملة اللهجة الزازيّة للكورديّة القديمةِ، تلك اللهجة القريبة جدّا من اللغة الزرادشتيّة… كانت تأخذني إلى عالم آخر مختلفٍ ومشعٍّ. الكلماتُ المزركشةُ والسريّة كانت توحي للأنهار، للفراتِ ودجلة أن يصبحا نابضين بالحياةِ، وكنتُ أسلم نفسي لبرودتهما الفاترةِ، وللماءِ المنعشِ. هكذا كنتُ أهدأُ مع الأمواج اللينةِ النّاعمة وأدخلُ نفقَ النّومِ…

***

كتب فالتر بنيامين ذات مرّة: “مَنْ يستطيعُ اليوم أن يجد أشخاصاً يستطيعون أن يقصّوا قصصاً جديرةً بالقصِّ؟ هل يقدرُ الميّت أن ينتجَ كلمات ذات قوّة، يمكنها أن تنتقل وتتداول مثل خاتم من جيل إلى جيل؟ أمثولةٌ ما تستطيعُ مساعدة مَنْ في يومنا هذا؟”، وحيثُ لم تستطع أسرتنا بشكل كافٍ أن تجاري التطورات والتحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة، فإنّنا لم نكن واعين لصحّة تصريحاتٍ كتلكَ. أمّا أنا، فقد كان لي  ثمّتَ مَنْ هزَّ روحَ وقلبَ طفولتي بقصص مذهلة.

***

الليالي القصيرة والمزركشة تلك، تلاحقني الوقتَ كلّهُ الآن. بغير شكٍّ فإنّ أغلبية تلك الكلمات التي كانت تضيءُ كالجمانات في الظلامِ، لم تستطعْ أن تنجو من شراسة أمواج الزّمن وهكذا ولّتْ. لكن تعبيراً ظلّ حيّاً لايُنسى كجزءٍ من مصيري: (welatê xerîbiyê) أي بلادُ الغربةِ. جدّتي التي تحوّلت مع مرور الزّمن بالنسبة لي إلى كائن خرافيٍّ من كائنات أساطيرِها وحكاياتِها وقصصها، كانت بلا انفكاكٍ تردّدُ هذه الكلماتِ: welatê xerîbiyê… welatê xerîbiy… welatê xerîbiyê….
كانت هذه الكلمات غامضة، كانت تشيرُ إلى بلادٍ لم تُرَ ولم تُزرْ: جبال القفقاس، صحاري اليمن، الجزر الإغريقيّة، المغرب… كلّ هذه الأمكنة كانت welatê xerîbiyê، أمكنة غامضة ذهب إليها الكوردُ ومنها لم يعودوا قطّ أبداً، بلاد ذات غرابةٍ ومسافة لا تُقطعُ. صارت أسماؤها جزءاً لايتجزّاُ من الأدبِ الكورديّ.

***

بالطبع، لم أكنْ أدرك آنذاك أنّ هذه البلدان، الأمكنة، الأسماء كانت جزءاً من واقع الكوردِ البائسِ. كانت بالنسبة لي فقط أراضٍ أسطوريّة يعيش فيها العمالقةُ، الأبطال الملحميّون، وتدورُ فيها رحى الحروب المهولة. كيف كان لي أن أعرف أنّ هذه الكلمات الدافئة والجميلة كانت تشرحُ الألم، التراجيديا، الشّوق اللامحتمل!؟ كنتُ أحتاجُ الوقتَ لأعي وأفهم، كنتُ أحتاجُ أن أعيش وراء العالم الساذج لطفولتي، وأمتثلَ حقائق إجتماعيّة وثقافيّة، كي أصبح واعياً لهويّتي القوميّة وشخصيّتي، وأدرسَ تاريخي الخاصَّ الذي تمَّ قمعه، ووجِهَ بالطّمس والنسيانِ. كنتُ أحتاجُ الوقتَ… دروسهُ وإرشاداته.

***

اكتشفتُ أن جبال القفقاس، صحارى اليمن، الجزر الإغريقيّة والبلدان المغربيّة كانت أمكنة نفيٍّ للكوردِ. كانوا قد أرسلوا إلى هناك، إمّا كأفرادٍ أو كعائلاتٍ أو في معظم الحالاتِ بشكلٍ جماعيٍّ. كان يتمّ قطع جذورهم من وطنهم بالقوّة، كانوا يُساقون من قبل العثمانيّين إلى بلادٍ نائيةٍ لم يكونوا قد سمعوا بها أو عرفوها سابقاً. ومنذ سنة 1923لجأتِ الجمهوريّة التركيّة الحديثةُ أيضاً باستمرارٍ لنفي الكوردِ، راغبةً في كسر نضالهم في سبيلِ الاستقلالِ وشرذمتهم واستعبادهم. موجة تلو موجة، بغير انقطاع. فعلتْ تركيّا ذلك، فصَمَتْ عُرى العائلات، الأقاربِ، العشائرِ. دمّرتْ القرى، التجمّعات البشريّةَ، في ثلجِ الشّتاءِ، في قيظِ الصّيف، بغير ما توقّفٍ.

***

خلال ليالي السّجن اللانهائيّة أدركتُ أنّ الطّريقَ إلى welatê xerîbiyê، كانت مغطّاةً بأشلاءِ الكوردِ، كانت الكهوف والممرّات محشوّة بها؛ كبرت الدّموع وصارت ينابيع؛ امتزجت الصرخات المُهرية للقلوبِ بأصواتِ النّسورِ. في ليالي الحبس هذه، استمعتُ إلى مآسي، آلام، أشواق ومعاناة هؤلاء الذين أرسلوا إلى welatê xerîbiyê، من خلال إيقاعِ أصواتِ المغنّين الكورد “Dengbêj”. استمعتُ إلى قصص أرواحٍ وقلوبٍ تعيسةٍ في الأغاني المكدرة للصدرِ والملاحم الشّعبيّة.

***

آنذاك أدركتُ المعنى الحقيقيّ لـ welatê xerîbiyê… المنفى: القطعُ من الجذور والأصولِ والوطن الأمِّ؛ الحكم على الإنسان بعيش حياة غريبة غير معروفة؛ النسيان؛ شوق لامنتهٍ ونوستالجيا. خلف هاتين الكلمتين اللتين كانت تلفظهما جدّتي بعينين ملتمعتين، وصوتٍ من القطيفةِ، كانت تكمنُ وتختبىءُ مآسٍ فظيعةٌ.

***

الطّرقُ التي كانت تؤدّي إلى welatê xerîbiyê، فُتحتْ لي أيضاً. في صيف 1977 انضممتُ إلى قافلة المنفى ذات القرنين من الزمن في طولها. في ليلةِ صيفٍ قائظة، في ظلام دامسٍ، اجتزتُ الحدودَ، وخطوتُ الخطوة الأولى لي إلى كآبةِ welatê xerîbiyê. كان رأسي مليئاً بالأحلامِ والخيالاتِ. جاهلاً مصيري ومستقبلي، أمضيتُ صيف 1977 في دمشق، العاصمة السوريّة التي كانت ذات مرّة مركزَ الكثيرِ من المدنيّات الشرقيّة والعربيّة. إلى جانب كونها نقطة التقاء الشرق والغربِ، ومنبعاً لاندماج ثقافاتٍ مختلفةٍ وحضاراتٍ، فإنّ دمشق كانت أيضاً مكان نفيًّ للكوردِ. تاريخٌ ممتلىء من welatê xerîbiyê، مطمورٌ في هذه المدينةِ. قبرُ صلاح الدّين الأيّوبيّ، قائد المسلمين ذو الأصلِ الكورديّ، ذاك الذي حاربَ الصليبيين والذي كان صديقا وعدوّا لريتشارد الأسد، هناك، إنّه في دمشق. الكثيرُ من قوّادِ الكوردِ، المثقّفين، الكتّاب، ومن الشخصيّات البارزة سياسيّا أيضاً مدفونةٌ هناكَ. تلك الترانيم الجنائزيّة من الحزن والوحدةِ، من النسيانِ، من الإبعادِ، التي لايمكن بعدُ أنْ تغنّى، إنّها مدفونةٌ في خرائبِ أحياء دمشق الشعبيّةِ. كلماتُ الكاتبِ البولونيّ “ويتولد غومبروفيتش”، ذاك الذي أمضى معظم حياته منفيّاً، تنطبقُ على الكوردِ المنفيّين في دمشق: “المنفى مقبرةٌ”. مقبرة البلدة الكوردية بأكواخها كمثل رقعة ثوب تتكوّم على بعضها البعض فوق التلّ خارج دمشق، إنّها مقبرةُ المنفى. الأميرُ الكورديّ الأخيرُ، “بدرخان بك”، الذي أبعِدَ في البدايةِ إلى استنبول، ثمّ إلى كريت، وأخيراً، بعد تمرّدٍ في سنة 1844 إلى دمشق، يرقدُ هناك في قبرٍ رائعٍ. حفيدُهُ، الكاتبُ واللّغويُّ جلادت بدرخان، الذي صرفَ معظم حياته في المنفى، والذي كان مؤسّس وناشر مجلّة ثقافيّة ذات أهميّة عُظمى للكوردِ، يرقدُ مباشرةً إلى جانبِهِ. الشاعر قدري جان، الذي ألّف المراثيَ التي لاتُنسى عن مدينة ولادته، طفولته ولغتهِ الأمّ… هذه الأشياء التي أضاعها الواحدةَ بعد الأخرى… ينامُ هو أيضاً هناك في قبرٍ متواضعٍ بالقرب من بدرخان. النّاشرُ والمفكّرُ ممدوح سليم، بطلُ روايتي الثّالثة، متنوّرٌ، متفائل، رومانسي حتّى العظم، المنفي في سنة 1923 والذي لم يعد أبداً، إلى أن مات في سنة 1976، يرتاحُ هناك بهدوءٍ كعادتهِ… هكذا كثيرون، هكذا كثيرون هناك…

***

في ذلك الصّيف في دمشق، في الساعاتِ الأولى من شروقِ الشّمسِ، حيثُ لم يكن بعد أحدٌ في الجوارِ، كنتُ أصعدُ التّلالَ لأذهبَ إلى تلك المقبرةِ لأنظرَ إلى الشّواهدِ السّاكتةِ، وأصلّي لهم ليجدوا ألسنتهم.

***

بالقربِ من المقبرةِ، هناك جامع مسمى باسم منفيٍّ كورديٍّ آخر وهو مولانا خالد. شاعرٌ ومفكّرٌ ومؤسّسُ الطّريقة النقشبنديّة. قدرُ مولانا خالد لم يكن يختلفُ عن قدر البدرخانيّين. وكما تتقاسمُ قبورهم الآن نفس المكان، فإنّه كان لهم نفسُ الحنين ونفسُ الحياة المؤلمةِ. على النفي مرغماً. حافظَ مولانا خالد على ذكرياتِ وطنهِ كوردستان حيّة في قصائده وذكريات بلدته الجميلة السليمانيّة. وأرسلَ هذه المنظوماتِ إلى أرضهِ عن طريقِ القمرِ، الشّمس والرّيح. في هذا العالم الفاني، في هذا العالمِ الظّالم، حيثُ، كما في كلماتِ المنفيّ المشهورِ أوفيد: “الإنسانُ للإنسان ذئبٌ”، عقد مولانا خالد صداقاتٍ مع الشّمس والقمرِ والنّجومِ والرّياح. هل من الممكن إذاً، أن لايسمعَ المرءُ الإشتياقَ والمعاناةَ في هذه الأبياتِ؟:
“القلبُ يذرفُ من الدّمِ حسراتٍ، فتعالَ أيّها الصّباحُ أترجّاكَ… آه، اذهب وزرْ مدينة شهرزورعوضاً عنّي، فالقلبُ مستورٌ بضبابِ الضّنى كجبلِ غودرون.
أيّتها المآقي، فلتعُدْ بكِ دموعُ الفراقِ إلى سَرجنار”.

***

شهرزور، جبلُ غودرون، سرجنار، هي البلادُ التي أمضى فيها مولانا خالد طفولته، أضحت في شعرهِ تذكّراتٍ تتغلّبُ على الزّمان والمكان. ممنوعاً عليه من الغرباءِ أن يعود إلى وطنهِ، ومحكوماً عليه بحياةٍ منفيّةٍ، كان عليه أن يجد طرقاً ليعيشَ ويحيا؛ ولمقاومةِ ذلك فإنّه صان الألوان، الحيوات، الطعومَ، الهواء وروائح بلادهِ؛ سرمدَ تذكّراتِ طفولته، وثوّر حدودَ الخلقِ الثقافيّ والأدبيّ. الثقل اللامحتمل للمنفى وألم الإشتياقِ إلى الوطنِ جعلاهُ شاعرأً وشخصيّة كورديّة خالدة وفذّةً. ثمنُ هذا الخلود كان تحوّل حياته إلى كابوسٍ من الأسى العميق والنوستالجيا، من الاحساس الدائم بالموتِ والوحدةِ.
هل كان هذا الشاعر الكورديّ الخالد في القرن التاسع عشر، هو الوحيد الذي دفع هذا الثّمن؟.
بينما أكتبُ هذه السّطورَ التي لاأستطيعُ بأيةّ حالٍ من الأحوالِ الإحاطةَ باشتياق وابداع مولانا خالد، فإنّي أفكّر في كاتبٍ منفيٍّ آخر وهو أوفيد. شاعر الامبراطوريّة الرّومانيّة هذا يملأُ دراستي المتواضعة هذه بعظمتهِ. قبل مدّة قصيرةٍ قرأتُ “العالم الأخير”، هذه الروايةَ الممتازة للكاتب الاستراليّ “كريستوف رانسمير” الذي ينتمي إلى تقاليد أدبِ أوربّا المركزيّة، والذي هو من تلامذةِ بروخ وموزيل. هذا العمل الذي يمكنه أيضاً أن يحمل عنوان “نهايةُ العالم الأخرى”، يقصّ حكاية أوفيد، هذا الكاتب المنغمس في الشّهواتِ والمعلم في الحبّ والفنّ. تصفُ الروايةُ تعاستهُ وحنينه وجهده في سبيل الابداعِ. إنّها تندبُ المنفى كمثل جرح نازفٍ للإنسانيّة. أوفيد الذي كان منفيّاً إلى شاطىءِ البحرِ الأسودِ – “النّهايةُ الأخرى للعالم” – من قبل الامبراطورِ الرّومانيّ، أوغستوس، كان متروكاً للعزلة القصوى. كان الامبراطور يراهن أنّ الصّمت والموتَ البطيء سيقضيان على هذا الصّوتِ الذي هزأَ بكلّ أشكالِ السّلطة والأنظمة الشّموليّة. فهل حقّق الامبراطورُ مبتغاهُ؟.
اليوم وبعد ألفي سنةٍ من طرح هذا السؤالِ، لم يزلِ الجوابُ هو هو: لا. أوفيد، مولانا خالد، وكلّ الفنّانين المنفيّين ماكانَ بالإمكانِ إسكاتهم أو طمسهم. على العكسِ من ذلك، فالمنفى جعلهم خالدين، لايُمكنُ نسيانُهم. صوتُ الشّاعر أوفيد امتزجَ بالماءِ العاصفِ للبحرِ الأسودِ، ليصلِ إلى زمننا الحاضرِ. أنهى الشّاعر عملهُ “التحوّلات”، بهذا السّطرِ: “لقد أبدعتُ عملاً يمكنه مجابهة النّارِ، الحديد، غضب الآلهةِ وسطوة الزّمنِ… بسببه سأتجوّلُ فوق الأنجمِ وأحيا إلى الأبدِ… ومادامتِ الامبراطويّة الرّومانيّة قائمة، فالنّاسُ في كلّ حدٍّ وصوبٍ سيتحدّثونَ عنّي”.

***

المنفى فصمٌ وقطعٌ وضنى. إنّه لاإنسانيٌّ، عقابٌ ثقيل. إنّه يفرض عليك أن تعيش خلفَ الجزء المتذكّر من حياتك. بغير إرادتهما، بالقوّةِ… أوفيد ومولانا خالد عاشا في ظلالِ تذكّراتهما. لم يعيشا في زمن حاضرٍ، لكن في الماضي، في الزّمن الذي تركاهُ خلفهما. ومردّداً عنوان عمل مارسيل بروست الشّهير، فإنّهما ذهبا باحثين عن الزّمن الضّائعِ. كان مايحدثُ في الحاضرِ سيّان لهما، لايباليان بالحاضرِ بعدُ، لكن، كان اهتمامهما منصبّاً وعالقاً بالماضي. إنّه لهذه الأسبابِ أنّ أوفيد، دانتي، مولانا خالد، جيمس جويس بطريقةٍ فاتنةٍ أعادوا إبداعَ تذكّرات روما، فلورنسا، شهرزور، دبلين، أمكنتهم الأصلية، في انتاجهم. عن طريقِ إعادة خلق الماضي فإنّهم صنعوا لأنفسهم أسماء مستقبل خالدةً.

***

الحالةُ النفسيّةُ هذه، أعتقدُ  أنّها مصيرٌ متقاسمٌ: مستقبل الإنسان الذي طُردَ بعيداً عن وطنه وعن الناس الذين يحبّهم أنّه يظلّ في الماضي بشكل دائم ووجهاً لوجهٍ معهُ. الرّوح والقلبُ يدندنان أغاني الماضي. العيون تبحثُ عن الذين تُركوا هناك في الوطنِ. محاطين بستارةٍ من عزلةٍ فظيعةٍ، تصيرُ الليالي معجّجةً برؤى الماضي. هذه الظّاهرةُ من الممكن تلخيصُها بالمثل الذي يقول: “الماضي يساوي الكون!”.

*** 

 قبل مدّة، حين كنتُ أرأسُ جلسةً عن المنفى والكتّاب المنفيّين تحت يافطةِ “الأدبُ ماوراء الحواجزِ”، في المركز الثّقافي في ستوكهولم، طرحتُ السؤالَ التالي على حوالي أربعين كاتباً من بلدان وثقافاتٍ متعدّدةٍ: “هل حلمتم حلماً عن بلدكم المضيف خلال السنوات الخمس الأولى من المنفى؟” لا أحدَ منهم كان قد حلم هذا الحلم. كلّ أحلامهم كانت عن البلدان التي تركوها خلفهم وعن معايشاتهم وتجاربهم هناكَ.
تجربتي أيضاً هي كذلك. بعد مغادرتي لسوريّا، أتيتُ إلى أوربّا، الوجهة الأساسيّة للمنفيّين في عصرنا. حين كنتُ أنتظرُ لأقدّم اللجوءَ لدى مكتبِ الهجرةِ في مطارِ ستوكهولم، طار قلبي وذهني، كحمامتين بيضاوين، عائدين إلى بلادي: إلى الأحبّاء الذين تركتُهم؛ إلى قبر جدّتي الذي لن أزورهُ ثانيةً؛ وإلى صديقي القديم العم خليل، شاهد التاريخ الكورديّ الحديث الذي التقيتُه في السّجنِ في السبعيناتِ. في بلدي الجديد، تمسكتُ بغيرةٍ بالتذكّراتِ المزركشةِ والمعايشاتِ الأليمةِ لحياتي السّابقةِ، بالوجوهِ التي شكّلت شخصيّتي، بكلّ شيءٍ من الماضي الذي كان قد ولّى بعيداً. ومدركاً أنني أعيشُ حياتي الجديدة في ظلالِ الذكرياتِ، حاولتُ أن أجعل الظّلالَ مرئيّةً. وخلال السّنوات الخمس الأولى لم أحلم قطّ ببلدي المضيف أو بحياتي الجديدةِ. على الأغلبِ كانت أحلامي تذكارات طفولتي؛ جدّتي التي قصّت عليّ قصص welatê xerîbiyê؛ وجدّي الذي كان يجلبُ لي دائماً الحلوى. البقية كانت كوابيس عن البوليس، الحبسِ، التعذيبِ واستعمالِ العنف ضدّي. بعد ذاك خصّصتُ كل هذه الأشياءِ لأجلِ بطلِ روايتي الثّالثةِ، “ممدوح سليم”، الذي توفي بعد ثلاث وخمسين سنة من المنفى. هو أيضاً من المؤكد أنّه حلم هذه الأحلامَ وهذه الكوابيس خلال الليالي التي بغيرعدٍّ، بعيداً عن بلاده الأصليّةِ.

***

كما يقولُ الكاتبُ الروسيُّ جوزف برودسكي المنفيُّ الذي يعيشُ الآن في نيويورك: “الكاتبُ والمثقف المنفيّ، هو ذلك الكائنُ المتعلّق بشدّة بالماضي، الذي يسيطرُ المنفى على حياته”.
طوّرتُ نفس الرأي حين حاولتُ نفخَ الحياة في أيّام ممدوح سليم المنقضية. ماالذي للقلبِ المهيضِ الذي أُجبرَ أن يهجرَ بلادهُ لكونه يطمحُ إلى حياةٍ سعيدة وحرّة، ماالذي لقلب كهذا سوى ليالٍ محكومة بألوانٍ متألّقةٍ من الجنّة وشعل حمراء من الجحيم؟.

***

أسوأُ نكبةٍ تحلّ بالإنسانِ هي أن تُقطع جذوره من بلاده كعقاب له. الكاتبُ السّويديّ “أولوف لاغركرانتس” الذي أنتجَ عملاً مؤثّراً عن دانتي “من الجحيم إلى الجنّة”، يقول كما التالي: “من معايشات دانتي الأكثر إيلاماً في المنفى، كان رميه بافتراءات متواصلة؛ لم يكن هناك من يحميه ضدّ التشويهات لعملهِ والتفسيراتِ السلبيّة له في  في بلادهِ”.

إنّه الشعور بالمرارة هذه التي تمنعُ الماضي من أن يصبحَ ماضياً والتي تحافظُ عليه حيّاً طوال الوقتِ. الفرق بين سكوت فيتزغرالد وأرنست همنغوي من جانب، وبين هرمان بروخ ووليم سارويان، ناظم حكمت وفايز أحمد فايز من جانب آخر، يكمن هنا. فيتزغرالد وهمينغوي، هذان الكاتبان العظيمان، اختارا المنفى، أمّا الآخرون، فقد أُرغموا عليه. لأجل الأوّليْن كان المنفى مغامرةً، كان منبع الهام، نافورة إثارة وحياة متحمّسةٍ. كان بمستطاعمها أن يعودا إلى وطنهما متى شاءا. لم يكن المنفى لهما نتيجة عقاب ومحاولة طمس، لكن الطّريق إلى الشّهرة والجماهيريّة والغبطةِ. لبروخ، المعلّم الأكبر في اللغة الألمانيّة، فارّاً من إرهابِ النازيّة؛ للكاتب الأرمني الأمريكي سارويان، الذي نجا من الإبادة الجماعية للعثمانيّين؛ لناظم حكمت الذي أُبعد من بلادهِ بعد سنوات طويلة من الحبسِ؛ لفايز، كاتب لغة الأوردو الكبير، الذي نجا من الارهاب الوحشيّ للديكتاتور ضياءُ الحقّ، لهؤلاءِ كان المنفى هو الثّمن الذي كان ينبغي عليهم أن يدفعوهُ، لكي يظلّوا أحياءَ، كان إلزاميّا، رحلة ذات اتّجاهٍ وحيدٍ. لأجلِ هذا السّببِ لانستطيعُ أن نجد  لدى بروخ، سارويان، حكمت وفايز الحسّ نفسه من اللهو واللعب كما هو بادٍ في أعمالِ فيتزغرالد وهمينغوي. في أعمالِ السّابقين نجد إلحاح الأسى، الشّوق إلى الوطنِ، نجدُ أحزانَ الذين يُرمونَ بوحشيّة إلى الموتِ، ووخزَ الضّميرعند الذين لم يكن لهم أن يتبعوا مَثَلهم.

***

الشّاعرُ الكورديّ عرب شمّو المشهورُ بثلاثيّته الروائيّة الواقعيّة، هو واحدٌ من الكتّابِ الذين قرأتُهم بغبطةٍ بالغةٍ. هذا الكاتبُ الذي فرّ من الإبادة الجماعيّة العثمانيّة، واستقرّ في القفقاس فقط، ليُنفى إلى سيبيريا خلال العهد الستالينيّ، كتب بشكلٍ شخصيّ جداً عن الثيماتِ التاليةِ: الخجل من كونه أجبر على حياة تعيسةٍ؛ هجره للذين خلّفهم وراءهُ؛ الإرغام أن يوصل ما بين قيم حياته الحاضرة والماضية، والاضطرار أن يعرض للعيانِ أنّه لازال هناك وأنّه لازال ذا وجود وكفاءة. في معسكرات الموت الستالينيّة، هذه الثّيماتُ صارت لبّ عمله الأدبي.
لقد أشارَ عرب شمّو باستمرار في رواياته إلى الأشياء المضيّعة والمكتسبة في المنفى، والمنفى مشروط بهاتين الكلمتين عنده. مثل عرب شمّو، أنا أيضاً مررتُ بمرحلة من الفقدان والخسارةِ في بلدي الجديد. قبل كلّ شيء خسرتُ لغتي الأمّ، بلادي الأمّ، كما يعبّر ألبير كامو عن اللغة، ممتلكي الأكثر قدسيّةً. لغتي الأم صارت فجأة غير ذات أهميّة، بغير معنى، وثقلا. كفّت عن حمايتي؛ كفّت عن اعطائي معنى من معاني الأمانِ والقوّةِ. ماعدتُ قادراً أنْ أعبّر عن نفسي. مسلوباً من لغتي الأمّ، فقدتُ هويّتي وشخصيّتي. صرتُ شخصاً مختلفاً بغير تحديد وغريباً “محتاجاً”. أصبحتُ عضواً من فئة الأجانبِ، من رهطٍ وجماعةٍ خارجيّة مابحثتُ عنها، وكانت هي بنفسها غريبةً عنّي. حياتي، معايشاتي وأفكاري فقدت كلّ معنى وقيمة. كلّ تلك المثل التي في سبيلها خضتُ المخاطرَ وفي الواقعِ عوقبت بالسجن، بدتْ بغير ماوزن ونتيجة. وجدتُ أنّه كان من الصّعب عليّ أنْ أفهم لماذا سُجنتُ. كنتُ خجلاً أنْ أشرحَ أسباب مجيئي إلى هذا البلد المضيف. كل قيمي ومبادئي التي كانت هكذا طبيعيّة، وغير قابلة للشكّ ضاعت. وجدتُ أنّها غير ملائمة لبلدي الجديد. فقدتُ مهنتي وجنسيّتي، فقدتُ حقوقي أن أعودَ بحريّتي وأنشرَ في بلدي. أضعتُ الحب، الدّعم، وتشجيعَ أصدقائي ومحيطي. خسرتُ لونَ براعم أشجار الرمّانِ في حديقتنا، طعم الدرّاقِ، وصوتَ السّنونو الذي كانَ يزورنا كلّ ربيعٍ.

***

“كما تعلم”، كتبَ غومبروفيتش، في بداية الستيناتِ، في رسالتهِ للكاتبِ والناشرِ موريس نادو، الذي كان يبذلُ جهوداً كبيرةً ليقدّم الكتّاب المنفيين للجمهور الفرنسيّ والعالميّ: “حياتي الأدبيّة مرهقةٌ. أنا منفيٌّ وحيدٌ وبلا معينٍ، كفاحي شاقٌ جدّاً”. أنا أيضاً منفيّاً ووحيداً دخلتُ في نفق من الهلاك، وفي سبيل أن أخرج منه متحوّلاً ومتجدّداً…فقد كان عليّ أن أكافح بشدّةٍ.
إن كان عليّ أن أصفّ مكاسبي ببساطةٍ مثل عرب شمّو، فسأبداُ بالقولِ إنّني اكتسبتُ لغةً جديدة؛ لغة تمكنني أن أعبّر عن نفسي بطريقة مختلفةٍ وأتمتّع بفرصٍ جديدة دون أن أواجهَ بالألمِ، بالقيودِ، ومعاداةِ لغتي الأمّ. بمساعدتها أحرزتُ بلداً جديداً، ثقافة وأدباً. بمساعدةِ بلدي الجديد اطّلعتُ على بقيّة اسكندنافيا. نلتُ باباً إلى العالم قاطبةً، إلى ناس العالم وتقاليدهِ. حصّلتُ حريّة الاختيارِ. أدركتُ أنّ ورائي ووراء أناسي، ومشاكلنا عالماً شاسعاً، أننا لسنا مركز كلّ شيءٍ، أنّ البشر الآخرين أيضاً لهم أهميّة وقيمة مثلنا. أدركتُ، لعجبي، أنّه كانت لي نفس التجاربِ كما لعربيّ، للتوانيّ، لتشيكيّ، لأوروغوائيّ، لبولونيّ، لصينيّ، لكونغوليّ. أدركتُ أنّ كلّ الدكتاتوريات شبيهة ببعضها البعضِ، أنّ كلّ شيءٍ ينبغي الحكم عليه من خلال القيم والمبادىء الإنسانيّةِ. تعلّمتُ الاعتدال والتواضع. تعلّمتُ كيف لاأكونُ بطلاً، بل أن أعترف بالعجز والضّعفِ. طوّرتُ في داخلي فضولاً بغير حدّ وشوقاً متلهّفاً للمعرفةِ. حصّلتُ حسّاً بالعالمِ ككلٍّ، هويّة مواطن عالميٍّ. قبضتُ على زمام الأدب العالمي، الثراء الذي لسوف إلى الأبدِ يُغْني قلبي ويعزّي روحي. تعلّمت فنّ التجوّلِ بين اللغاتِ والثّقافاتِ والتمييز بكفاءةٍ أكبر بين ظلالِ الألوانِ. وكم كانت دهشتي كبيرة حين وعيتُ أنّ كلّ شيءٍ على وجهِ البسيطةِ مرتبطٌ بحقيقة غير معقّدة ألا وهي الإنسانيّة…
هل حقّا حصّلتُ كلّ ذلك؟ هل يستطيع شخصٌ سافر خلال أنفاق الفرص، التحوّلاتِ والتغيّرات أن يقول ذلك، متأكّد ممّا يقولُ؟ لستُ متأكّدا مئة في المئةِ؛ إنّي فقط أفترضُ أنّي فعلتُ وحصّلتُ.
مع هذه المُحرزاتِ، اكتشفتُ ثانية لغتي الأمّ. تعلّمتُ ثانيةً لغتي الممنوعة، فهمتُها أفضل، واحتضنتُها بحبّ ودفءٍ أعمقينِ. عدتُ إلى ثقافتي الممنوعة، تاريخي الذي تمّ تشويهه، جذوري المسلوبة المهملة، هويّتي التي تم محاولة تذويبها. في البدايةِ اعتبرتُ وطني المجزّأ كوجودٍ مزركشٍ بألوانٍ. أسّست معهُ فوق ووراء الرطانات السياسيّة والايديولوجيّة الباردة والفظة، أسّست وأقمتُ معهُ علاقةً إنسانيّةً. زخرفتُ الصفحاتِ التي كتبتها في برودة ليالي الشتاءِ في ستوكهولم بظلالها اللامرئيّة. حاولتُ أن أكتب هذه الصّفحاتِ كمواطنٍ عالميٍّ وكورديّ وبالتالي أنْ أمدّ جسراً ما بين لغتي والعالم. كرّستُ رواياتي لأولادِ العالمِ الأعزّاءِ. وقعتُ في حبّ العالم ثانية…

***

الشيءُ الذي أحاولُ قولهُ عن طريق إضافة تجربتي القليلة المتواضعة إلى هذه التجارب المكدّسة منذ أكثر من ألفي سنةٍ هو هذا: أسى الفراق يمكنه أن يكون ثراءً، إعادة إحياءٍ. من الممكن أن يكون مصدراً لا ينفدُ للخلقِ، فرصة لجمع الناس، الثقافات واللغات إلى بعضها البعضِ،  من الممكن أن يكون منشّطاً للناس، ليساهم كلُّ شخصٍٍ بتقاليده، نكهتِهِ وألوانهِ.

***

كما يقولُ ريلكه، الفراقُ هو الّذبول، والازهرارُ هو النسيانُ والسرمدُ، تراجيديا واستعراض مزخرف للإنسانيّة حيثُ يضمحلُّ الزّمانُ والمكانُ. في تضاعيفه تلتقي الثّقافات، وتتضافرُ التقاليدُ، وملحمةٌ بغير نهاية واصفة تاريخَ ومستقبلَ الإنسانيّة تنبسطُ وتمتدّ،ُ البارحةَ، اليوم وغداً.
التقاءُ اللغات المختلفة والثقافات، تبادل التجارب بين ناس من تقاليد مختلفة من الممكن أن يكون مصدرَ ثراءٍ للإبداعِ. أليس معظم الكتّاب الذين نحبّ ونقرأُ أعضاءً من “موكب الإنسانيّة المزركش”؟. جوزف كونراد البولونيّ المولد الذي كتبَ بالإنكليزيّة؛ الإيرلندي صامويل بيكيت البارع في اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة؛ عبقريّ اللغة اليديشيّة سينغر؛ المغاربة، صادق هيدايت الذي انتحرَ في المنفى في باريس في بدايةِ الخمسينات؛ نيبول الهندي من ترينيداد الذي يكتبُ بالإنكليزيّة؛ الشّاعرُ العربيّ أدونيس في المنفى في باريس؛ التشيكي ميلان كونديرا… وآخرون لايُحصونَ…

***

أعتقدُ أن أفكاراً جديدة، مُثُلاً، وصيغاً جديدةً تنشأُ وتنوجدُ عن طريق الهجرةِ، كنتاج لتصادمات واحتكاكات مع ثقافات جديدة ولغات، مع ثوراتٍ روحيّة واجتماعيّة، مع اختلافات ثقافيّة وتبدّلاتٍ. إنّه بسبب من هذه المصادمات أنّ الطّموحَ إلى مواطنيّة العالم يزهرُ. الكاتب البولوني الأمريكي تشِسلاف ميلوش يقولُ: “واجبُ الأدبِ والشّعر هو أن يذكّرنا أنّنا كائنات بشريّة”.  بالطبع معه حقٌّ في ذلك. لكن الذي يُحتاجُ إليه هو الطّموح إلى أن يكون الشّخصُ مواطنا عالميّاً، وتقبّل المسؤوليّة التي يفرضها هذا الأمرُ. رغبةٌ كهذه، مسؤوليةٌ كهذه تنبثقُ وتتطورُ من التحّول، الابداعِ والاتّصالاتِ الثّقافيّةِ، إنّها أسسٌ لأجل وجودٍ إنسانيّ متعدّدٍ وديمقراطيٍّ. بمقدور قيم كهذه أنْ تجابه وتغيّر الوقائع الشموليّة والاستبداديّة – التي ماهي إلا مجرّد تعابيرعن رتاباتٍ مظلمة وخانقة – إلى أخرى ديمقراطيّة ومتعدّدة.

***

هنا أريدُ أن أستشهد بغومبروفيتش ثانيةً: “المنفى لحدٌ”. إن لم يتمّ تحقيق الرغبة والإرادة في التحوّل إلى مواطنٍ عالميٍّ في البلد المضيفِ وفي جوّه الثقافيّ، عندئذ، فالمنفى يصبحُ حقّا مقبرةً. بدون فهم أنّ المنفى فرصةٌ، بمعزل عن الاختلافات في ذلك، سيكون من الصّعوبةِ أن يكون الإنسانُ خلآّقاً، وأن يمنحَ حياةً جديدةً إلى الماضي. المنفى يبدأُ في التحوّل إلى مقبرة حقيقيّة حين يكون الإنسانُ منعزلاً عن المجتمعِ وسجيناً خلف حواجز الغيتوهات. العيشُ بتواصلٍ في الماضي ليس أبداً كمثل خلقه دائماً من جديدٍ. هناك فرقٌ شاسعٌ بين نوستالجيا شديدة وخيال خلاّقٍ. العيشُ مع ظلال الذكرياتِ في سبيل التنبؤ وصياغة المستقبلِِ، يختلف عن ملاحقة عنيدة لنمطٍ من الحياة تمّ تجاوزهُ. تضييع الوقتِ في مراكز المنفى المغلقة في ضواحي المدن الكبرى، في تذكّرِ أعاجيبِ وأمجادِ الماضي لاعلاقة له البتّةَ بالإبداعِ. في مقالة لفلاديمير نابوكوف عن الكاتبِ المنفيّ دانيلو كيش يصف الكاتبُ المنفيّين الروس إلى أوربّا بعد ثورة 1917 البلشفيّة كالتالي: “حيواتٌ مرّة ومعزولةٌ، معبّأة بالتناقضات الداخليّة والصّراعات؛ مليئة بالحقدِ والضغينة المجلوبةِ من الماضي، وبعيدة كل البعد من أن تتلائم وتندمج مع المجتمع الجديد والعالم، مبعدة إلى ضواحي برلين وباريس”. لهؤلاءِ الأرستقراطيين، العلماءِ، المثقفين، الكتّاب، العمّال، الطلآّب، العصيّين على التغيير والميّيتين ببطءٍ، فإنّ المنفى يعني الهزيمة والتدمير… مقبرة مسكونة بالأحياءِ.

***

سأنهي كتابتي هذه بتذكّرِ جدّتي ثانيةً. إنّ welatê xerîbiyê، التي كانت تتحدّثُ عنها جدّتي، تُعتبرُ لنا ـ نحن الكورد ـ بؤرة ثقافتنا وعملنا الفكريّ، إنّها أرضٌ أمّ. قرننا الحالي زمنٌ تراجيديٌّ مليءٌ بالإنجازاتِ، بالإباداتِ الجماعيّة، بالتحوّلاتِ، بالتهديم والهجراتِ. أما لنا نحن الكورد، فهذه الآلامُ أكثرُ جلاء وتشخيصاً وإيلاماً. لهذا فقد تمّ إبداع أهم انتاجنا الثقافي والفكري في المنفى. كمثل اليهودِ والأرمن، عاش الكورد welatê xerîbiyê، كفرصةٍ، كمكان فيه يمكنُ للغتهم، أدبهم، فنّهم وثقافتهم لها أن تُصان وتتطوّر. كابنٍ لأناسٍ طبعوا جرائدهم الأولى، مجلاّتهم، وكتبهم في المنفى، وأسّسوا معاهدهم العصريّة أيضاً في المنفى، أريدُ أن أنهي هذه المقالةَ بقولي: ـ إنّني أنا أيضاً عشتُ في welatê xerîbiyê، تجربة أعطتني الأسى والقدسيّة كلتيهما. 

 ——

حجلنامه، العدد (9)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…