أمنيات مشروعة في الزمن الخطأ

خالد إبراهيم 

في كلِّ عامٍ عندما تغيبُ ملامحه الشاحبة، وهو يسحلُ أجمل ما تبقى من أنفاسه الأخيرة، ليقذفها وسطَ ساحات المدن بأشجارٍ مزينةٍ، أو على شبابيكِ المنازل المزركشة بالأنوار الملونة، يحاولُ الهربَ وانتحالَ شكل الموت الغيابي، كي لا نستطيع محاسبته، وتغريمهُ ثمنَ كمياتِ القهرِ والذلِ والدموعِ التي انهمرت هنا وهناك وما بين الشقوق والرتوش، لنقول: تباً له، ليذهب إلى الجحيم بذكرياتهِ المرّة، ذكرياته التي إن بقيت ستصدعُ رؤوسنا وقلوبنا، وتنفجرُ بوجهِ هذا العالم المليء بالرعبِ والخوفِ والتزييفِ والإنحلالِ والانحراف، لنقول مجدداً: أهلا بالعامِ الجديد، وكعاداتنِا السابقةِ، نتمنى شهوراً معبأة بالمفاجآتِ السعيدةِ، وأيامٍ وليالٍ عامرةٍ، وساعاتٍ مشبعةٍ بالبهجةِ والاطمئنانِ والهدوء.
عامٌ ينطحُ عاماً، بأصالتهِ وترنيمةِ فصوله، شتاؤهُ البارد، صيفهُ غير عادلٍ، ربيعهُ الجاف، خريفهُ الممّيزَ بألوانهِ المختلطةِ على أغصانِ الشجرِ ووريقاتهِ الطريةِ، وتكرّر أمامنا صورَ الأحذيةِ المغروزةِ في طينِ القرى، وبركِ المياه المتناثرة على الطرقات الترابية.
أجملُ ما فيكَ أيها العام بردُ الشتاءِ وأمطارهِ وثلوجهِ ومزاجهِ المتقلّب صباحاً ومساءً. 
في كلّ عامٍ نقعُ في فخّ الأمنياتِ المتكررةِ، الأمنياتِ المزيفةِ، المرقّعةِ، الهشَّةِ، ندحرجُ كراتٍ من الثلج الأبيضِ الدافئ، لنراها على حين غرّةٍ تتحولُ إلى صخورٍ تنهشُ وجهُ الأرضِ خراباً، بل تنفجرُ بوجه السماءِ إذلالاً للروح البشريةِ من مشرقها إلى مغربها، ونسندُ ظهورنا لجدرانٍ من الإسمنتِ، ولطالما سيوفُ أقربِ الناس اخترقت إسمنت أرواحنا وفولاذَ بقائنا، لتحزَّ غفوةَ الطفولةِ في قلوبنا التي لم تعد تتحمل النصل والاغتياب، وقلة الضمير.
في كلّ بيتٍ قصة، وفي كلّ وطنٍ جيوشٌ من العصاباتِ والكوارثِ، لابدّ لنا من الاستعداد، كي نستقبل أجيالاً، أكلها الرعب والخوف والفشل، والرشاوي، أجيالاً رأت الخطأ جواباً، أجيالاً، تعلمتُ لغةَ السكين والرصاص، وقضمِ الجماجم، أجيالاً لم تتعلم لغةُ الأحلام والأمنيات الهادئة، أجيالاً لم تعش طفولتها، ولا تعلم عن مستقبلها شيئاً، سوى سفك الدم والطعن والإشهاربأقدسِ المقدسات، بحيث صارت منتهكة.
أجيالٌ لم تستمع لرشيد صوفي ولا لمحمد شيخو ولا آرام ولا شفان، ولا تعلمُ ما هو الفلكلورُ ومن هو ياس خضر ولا سعدون جابر ولا سعد الحليّ ولا صباح فخري ولا حتى نعمة النسيان.
جيلٌ سيهتم بسروالِ هيفاء وهبي وتدويرةِ صدرِ موظفة البنك الرشيقة، وثقلِ مؤخرة إحداهن، وكيفية تعلم السباحة بين فخذي الشعوب المضطهدة وعلى أكتافهم السيوف والبنادق وحبوب الفياكرا، والمخدرات العابرة للحدود.
جيلٌ ناكرٌ للمعروف، يجيد السباحة في دماء الضحية الإنسان، فنانٌ بتقطيع الأوصال، وجزَّ الاعناق وبتر الأنوف وصلم الأذان وبقر البطون، جيلٌ لايشبههُ جيل آخر على مرّ التواريخ.
هي الحربُ التي من شأنها قتل المناهض، وبثّ الغلَّ وروحِ الانتقامِ وتسمينِ الضمائرِ، التي لم تكن يوماً على سويةِ هذه الحياة، تسمين الضمائر بشعير الوقت وماء العيون، زمن اللازمن، ووقت للقتل أكثر.
في كل عامٍ: 
نمشي على جسورِ من الوقت ولا نشعرُ بخطط التهديد، نسقط ونزحف، نقف مجدداُ ونمشي على جمرة أحقاد الملايين، وتلتهمنا الأفكار والأقاويل، وتُسلخُ أجسادنا بالزيتِ المحروق والألسن الملعونة الملساء كوجه الضفادع.
سنرحل نحن جيلُ الخسارات، جيل الخسارات المطلية بطين الجزر المطلة على فهرس الكتب، التي تمنينا قراءتها ولم نفعل، جيلُ الوقت الضائع، جيلٌ قد بلغنا الفيسبوك والتيكتوك، ونسينا أجملَ الأشياء التي تحملها أرواحنا، وتسندُ حائطها الذي صار يميل كثيراً.
في كلّ عامٍ نصنعُ لأنفسنا ساحاتٍ من السلام، والقببَ العاليةَ، لتهدأ عليها الصقورُ والنسورُ والعصافيرُ والحمائم العائدةُ من ضفافِ دجلة والفرات، نشيّدُ الممرات بالورود وسنابلِ القمح حاملين ضحكاتِ قلوبنا الناضجة بين أضلعنا المكسّرةِ، لنرى في كلّ شارعٍ قبرَ شهيد وجدائلَ أمّ ثكلى، وطفلةً تبكي وهي تحبو نحو صورةِ والدها المُغيب.
نقفُ مذهولين وكأننا في ساحة إعدام مؤقت، وهناكَ من يسحلُ أرواحنا أمام أعيننا ويقذفها على تخوم مخصّصةٍ للرقصِ مع ملايين الجثثِ، بِلا حِراكٍ نبقى لساعاتٍ وأيامٍ وشهورٍ، وكأننا بلا أطرافٍ وبأجساد مليئةٍ بالثقوب وقد تسرّبت منها الدماءُ وسالت إلى أفواه الملاعين وأرصفةِ الطرقات، ويولدُ طفلٌ من ضلعِ الجحيم، يرى القبورَ المنتشرة على الإسفلت وتراب الأرواح، ليقول في سره:” أين أنا”، ويتذكر حين كان في رحم أمه، قد زرع على تلةٍ حرفاً من اسمه، ولونٌ من ألوان علمه، وسطراً من نشيده الوطني، وأمنيةً ما زالت تهذي في داخله:” كردستان”.
من تلة شرمولا، إلى تلّةِ طرطب، إلى تلةِ كوكب، إلى جبلِ عبدالعزيز، إلى سنجار وجودي وآرارات، وتتراقصُ جموعُ الحصى على ضفاف دجلة والفرات والخابور كلما غنى الشهيد، وكلّما انطفأت نجمةٌ في سماء القرى.
في كلّ عامٍ نقول:” غداً سيكون الأجمل”
وكيف سيأتي الجمال وأفواهنا محشوة بالنار والبارود والشعوذة؟
هناكَ من يقتلُ الأرواح جوعاً وعطشاً وبرداً وإرهاباً، إذا، الهواءُ ملوثٌ، المكانٌ ملوث، الوجوهُ ملوثةٌ، الحدودُ باتت كالسجونِ والمنافي، ويدُ الغزاةِ في الدقيقِ وترابِنا المقدسُ
إذاً لنحملَ اللغة وصلادة التعبيربين ضلع تلكَ الأرواح المُتعبة، حيث لا مجال سوى الكتابة، نستفرغُ من قاماتنا شهاداتِ الزورِ المهشّمة على فأس الفكر الجليد، الجليد المتسلقِ شظايا البللور السماوي المرقّع على جناحِ ذبابة.
لنشيّد السكك الحديد، وأنفاق المترو تحت وزرِ الأرضِ الهشّة، قارعين الطبولَ، حاملين توابيتَ الصمت على كواهلنا، لعلَّ نصلُ البلاد التي لا بلادَ لها، ونزرعها بالحبّ الصافي بدلاً من السجون والأفيون الحقيقي والمجازي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…