فراس حج محمد/ فلسطين
تتوالى أسئلة القراء التي لا تنتهي، وفي هذه الحلقة من الأسئلة، خصصتها لعرض الأسئلة التي تمسّ الكتابة “الأيروسية”، ومدى أخلاقيتها وشرعيتها. لقد كان هذا النوع من الأسئلة مسكوتاً عنه في جميع الحوارات التي أجريت معي، على الرغم من أنها كانت أكثر أسئلة تنهال عليّ من القراء، والقارئات. كانت هذه الأسئلة “غاضبة” نوعا ما.
لعلّه لا جديد في هذه الأسئلة، لكنّ إجاباتها تقدم توضيحات شخصية على موضوع شائك، ولا ينظر إليه بترحيب كبير، على الرغم من أنه أكثر المواضيع احتلالا لمخيلة القراء وهواجسهم، وموضوعات قراءاتهم، ومشاهداتهم للفيديوهات والصور ذات العلاقة. هذا ما كنت أكتشفه خلال الحديث مع القراء، فلا يكاد يمر من تحت أيديهم مادة فضائحية إلا وعندهم منها علم ومعرفة، وساهموا في ترويجها في البَيْنِيّات التواصلية.
وعلى كثرة هذه الأسئلة، وطريقة صياغتها، إلا أنها تدور في هذه المحاور:
– من يطلع على كتاب “من قتل مدرس التاريخ؟” ويقرأ أشعارك وقصصك الأيروسية وكتاب “نسوة في المدينة” تحديداً، يجد أن هناك تناقضا في شخصيتك (نوع من الانفصام المرضي). كيف جمعت بين مسألة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والكتابة الدينية الفكرية، وبالمقابل تكتب أدباً “إباحيّاً”، تذهب فيه وراء تفاصيل العلاقات الحميمة؟
الكتابة هي الكتابة، لا تناقض فيها إطلاقاً، كما أرى، وكما أقيّم تجربتي الذاتية فيها، فأنا أكتب في كل الموضوعات، وموضوع الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء ضمن كتاب “من قتل مدرس التاريخ؟” ليس مناقضا ولا بأي حال من الأحوال للكتابة الأيروسية (الجنسية) حتى وأنا أتحدث عن تفاصيل العلاقة الجنسية وتصورها لا أرى نفسي متناقضاً. فهذان موضوعان، يشكل كل واحد منهما حقلا من حقول المعرفة الإنسانية التي من الممكن أن يكتب فيها الكتاب جميعاً بغض النظر عن أديانهم وجغرافياتهم وجنسهم. وقد كتبوا فعلا في ذلك كتابات متنوعة ومتعددة تحقق فيها سمات “الأدبية” المطلوب وجودها في أي كلام حتى يصبح أدباً.
هذا أمر، أما فكرة التناقض الشخصية فمن أين جاءت أصلا فكرة التناقض، مع أنني لا أرى أن هناك تضادا من حيث الوضع والأصل، فلا شيء يضادّ شيئا آخر، كما بينت ذلك في “كتابة سابقة”. إنما هي حالات يكتمل فيها مشهد الحياة، فالدين لا يدخل في علاقة تضاد أو تناقض مع الجنس، لأنه- وباختصار شديد- يمكن أن يكون “الجنس” موضوعا دينيا، فقهيا ووجوديا، فالأديان اتخذت من المتعة الجنسية متكأً وثيرا وممتدا في حياة أتباعها. لاحظ معي مثلا ربط الجزاء الديني بفكرة الجنس، الشهيد والسبعين حورية، وقوله تعالى: “زين للناس حب الشهوات من النساء”، وفي الحديث الشريف “وفي بُضْع أحدكم صدقة”، بل إن القوة الجنسية كانت معيار اكتمال الرجولة في الدين عند الأنبياء، محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، وكتب الحديث والتفسير زاخرة بالمرويات التي تؤكد هذا الجانب في حياتهم عليهم السلام. فالجنس محوري في الحياة الآخرة، كما هو محوري في الحياة الدنيا.
ربما ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما أقرر أن السكوت عن الحديث في الجنس مخالف لطبيعة البشر وللمنطق الإلهي في خلق الكون، ويصيب الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها بمقتل.
لكن هذا لا يعني بالتأكيد أن تتحول الكتابة إلى دافع لممارسة الجنس الحيواني، وانهيار الأخلاق، وإشاعة “الفاحشة في الذين آمنوا”، وإنما أن تأخذ الكتابة وضعها الطبيعي في كتابة الكتاب كما كانت موجودة في كتب التراث الأدبية والفقهية وكتب التفسير، وكتب الصوفية دون أن يعترض على وجودها أحد.
لذا فإنني أرى أنني لست متناقضاً أو مصابا بالانفصام، بل إن كل كتاباتي الموصوفة بالجنسية مرتبطة بأفكار عامة إنسانية وبشرية ودينية وثقافية، وتدعو إلى التفكير بها وما وراءها من أفكار تساعد الآخرين على نبشها والتحدث فيها. إنما الانفصام فمصاب به القراء الذين لا يفهمون بعمق الطبيعة البشرية التي خلقها الله.
– لماذا لا تراعي مشاعر قرائك وأنت تنشر في الصفحات العامة، والكل باستطاعته أن يدخل صفحتك على الفيسبوك حتى بناتك وزوجتك وأخواتك والمقربين منك؟ ألا يشكل هذا الجانب هاجساً عندك؟
أنا أتفهم هذا تماما، وأدرك أن العلاقة مع القراء صعبة وهلامية وغير مستقرة، يقدحون فيك بألف عيب لمقال كتبته آثار حفيظتهم، لكنهم يمرون مرور الكرام عن المقالات والموضوعات الأخرى. كأنهم فقط يبحثون عما يستفزهم ليتحولوا إلى شياطين وسيّئي أخلاق وقليلي أدب. يؤسفني ذللك حقاً، لكن هذا ما يحدث.
لا يفهم القراء أحيانا أن هذه هي أفكارك، وعلى القارئ ألا يكون ملزما بالقراءة والنقاش حولها إذا لم يكن لديه ما يقوله فيها، فهؤلاء عادة جاهلون بالمحتوى الدقيق للكتابة وبمراميها البعيدة. يأخذون السطحي فيتندرون ويتنمرون. وبالمقابل على الكاتب أن يتحمل سفاهة بعض القراء أحياناً. إنه مجبر على ذلك، وإلا فعليه أن يكف لسانه ويده ويكسّر أقلامه ويصمت. لا حلّ ثالث، وعلى الكاتب ألا يتصارع مع القراء كلما لم يعجبهم موضوع. فليتركهم لعلهم ينضجون يوما ما ويصيرون أفضل مما هم عليه اليوم.
عندما أكتب لا أنظر إلى نوع القراء، ومن سيكونون بالنسبة لي. أولادي وزوجتي والمقربون مني في عائلتي الصغيرة عادة لا يقرؤون لي كثيراً، بل نادرا ما تعجبهم موضوعاتي وطريقتي في الكتابة، لا يلتفتون إليّ، ولهم اهتماماتهم. لكن لو كانوا ذوي اهتمام بالقراءة، فهل سيشكلون مصدر قلق لي؟ أبدا، لن يشكلوا لي أي مصدر قلق على الإطلاق؛ لأنني أومن أنه لا بد من أن يتعرف أبنائي- كما القراء جميعاً- على هذه الأفكار وعلى وجهة نظري، فأنا لا أفرق بين القراء إن كانوا ضمن دائرة اهتمامي، فالقارئ في أبعد نقطة عني في الجغرافيا وفي النسب كالقارئ الذي هو من صُلبي. المسألة لا تقاس بهذه الطريقة الساذجة، إن أنا داريت عن أبنائي مجموعة من الكتابات، كأنني أقول إنها عيب، بمعنى أنها “جريمة”، وعليهم ألا يطلعوا عليها، لكن لا بأس لو اطلع عليها القراء الآخرون. هنا الخلل الاخلاقي الذي قد أعاني منه، وكأن هذا العيب وهذه الجريمة أبثها وأحقن بها القراء – أبنائي الآخرين وزوجاتهم وأخواتهم هنا تكمن مشكلة الكتّابة، فالقراء عندي سواء لا فرق بين بعيد وقريب.
لكن قد تسبب هذه الكتابات إزعاجا لأبنائي والمقربين مني عموما بفعل مضايقات الآخرين وربما تحول الأمر إلى نوع من التنمر. هنا – صراحة – أقف وأفكر مليا وأراجع نفسي ليس من أجل القراءة والكتابة وإنما من أجل مجموعة من القراء السفهاء الذين يستخدمون الكتابة موضوعا للتنمر، وهذه مشكلة كبرى ومرض اجتماعي وثقافي أرى أنه المعيق الحقيقي لي في الكتابة.
– ألا تعتقد أن الكتابة الأيروسية فيها نوع من فضيحة العلاقات التي يمكن أن تكون سرية؟ تحاول أحيانا أن تكون شهوانيا جدا؛ وخاصة في رسائلك إلى المرأة التي تكتب لها تلك الرسائل. هل هذا يحرجها؟ ألا ترسم هذه الكتابة صورة سلبية للكاتب الذي يجب أن يحافظ على حميمية العلاقة مع من يحب؟ ألا يبتذلها بهذه الطريقة؟ إنك تطلبها أمام الملأ لتنام معك في السرير. أليس هذا جنوناً؟
في كتابة الرسائل أحاول دائما أن أكشف طبيعة الحب، كيف يمكن أن يكون، مقتنع تمام القناعة أن ممارسة الجنس بين المحبين عامل قوة وتهذيب وتهدئة. عندما تُفقد هذه الإمكانية واقعياً، لا بد من أن تنفجر في الكتابة. ربما شكلت هذه الكتابة نوعا من الفضيحة الممكنة أو الواقعية للكاتب وللطرف المقابل. لكن لماذا يهتم الآخرون بهذه الفضيحة؟ حتى لفظ “فضيحة” لا يطلق إلا عند إدانة الفعل، الفعل ليس مدانا عندي، تتدخل وجهات نظر الآخرين فيه فتسميه فضيحة، هو فعل حب، فهذا أمر يجب ألا يهم الآخرين إن حدث أو لم يحدث. الكاتب يكتب لحبيبته تشوقاته وطلباته، لعلها تستجيب له يوما إن سنحت الظروف بذلك. هذا أمر خاص بينهما، إنما كتابته فلأجل أن يعرف القراء بين المحبين فيه هذا التشوق وهذه الشهوة وهذا الطلب. مثل هذا كتبه أنسي الحاج لغادة السمان، وغيره كتبه لغيرها بطريقة فجة وعارية تماما من الأدبية. وهكذا لا تخلو رسائل الحب الحقيقية من هذا الطلب، وفي تصوري لا حب دونه، فلماذا يحب الإنسان الإنسان (المرأة والرجل) ويتبادلان الحب والرغبة إذا لم يكن من أجل هذا الهدف الإنساني والاحتياج الحسي والروحي معاً؟
هذا أمر، أما الأمر الأكثر أهمية هو أن رسائلي أنا شخصيا هي نوع من الكتابة العلنية وإن كانت موجهة لامرأة ما بالفعل إلا أنها تختلف عن رسائل الآخرين في أن معظمها نشرته أولا بأول، وربما قرأها القراء العاديون قبل تلك المرأة، على العكس من رسائل الأدباء الذين نشرت بعد موت أحد طرفي العلاقة أو كليهما، هل كنت أجرأ منهم أم أقل احتراما للمرأة التي كتبت لها ذلك؟ وهل كان الأدباء وحبيباتهم على علم أن رسائلهم ستنشر يوما ما؟ بغض النظر عن إجابة هذين السؤالين فإنني في رسائلي كتبت مثل ما يكتب حبيب لحبيبته، ولم أخف شيئا عن القراء. هذا كان اقتراحا جماليا ومشروعا كتابيا أيضا. يمكن لهذا المشروع أن يكتمل عندما أنشر هذه الرسائل مع الردود التي كتبتْها على تلك الرسائل، مع أنها لم تكتب أي رسالة مسهبة وطويلة، كانت ردودا متعجلة وغير معتنى بها في الغالب (في قسم من الرسائل). هنا سأكون عملت معروفا ثقافيا كبيرا في أنني كتبت في كل الموضوعات علانية وأخبرت القراء بذلك، وجعلت هذا المشروع متكاملا، فمشاريع رسائل الأدباء العرب نادرا ما كانت متكاملة من الطرفين، أنا سأعمل على ذلك قريبا جدا، وسبق لي أن فعلت ذلك في كتاب “الإصحاح الأول لحرف الفاء- أسعدت صباحا يا سيدتي”، إذ نشرت في آخر الكتاب مجموعة رسائل لامرأة كتبتْها ردا على بعض ما كنت أكتبه لها في حينه (2013). ومن الغريب أنها تبرأت من تلك الرسائل وتنصلت منها، وتنكر أنها كتبتها لي. لقد أصابت هذا المشروع بالشلل النصفي عندما فعلت ذلك.
أما بالنسبة لسؤال: إن كان هذا يحرجها؟ بالتأكيد كانت محرجة جدا وخائفة ومرعوبة، فالمسألة ليست سهلة، لكن ما كان يجعل الأمر مقبولا- نوعا ما- هو أن القراء لا يعرفون تلك المرأة، وهنا أعترف بوجود خلل في هذا المشروع الثقافي. فكل رسائل الأدباء كان الطرفان معروفين، أما هنا فالطرف الآخر مغيب بحكم أن العلاقة كانت سرية جدا، مغيب كهوية معروفة وإن كان موجودا حكما ولازما لصنعة الكتابة، كان لهذا آثاره السلبية على الكتابة بشكل عام، إذ نحت منحى الإنشائية الزائدة، وجعلت الكتابة معلقة في الفراغ، ما أفقدها جزءا من مصداقيتها كرسائل حقيقية وليست فقط مشروعا ثقافيا.
لاحظ مثلا كإشارة إلى موضوع الحرج، أن تلك المرأة ذات العلاقة في رسائلي المكتوبة مؤخرا امتنعت على كتابة ردودها عندما علمت أنني أعمل على تحرير تلك الردود لتنشر مع الرسائل. هذه الردود كانت مقتضبة، لكنها مهمة وحقيقية وكثيفة المعنى، امتنعت عن الرد، واكتفت بالقراءة أو بالاتصال الهاتفي. هنا خسرت الكتابة أيضا شيئا من ظروف ولادتها الطبيعية. وهذا أمر لا يمكن تعويضه ولا بأي طريقة من الطرق.
– أين تركزت كتابتك الأيروسية في كتبك ومشاريعك المنجزة والقادمة؟
لقد جاء كتاب “نسوة في المدينة” زاخرا بالقصص الأيروسية الحقيقية والمتخيلة، وثمة قصائد كثيرة في دواوين الشعر؛ في ديوان “وأنت وحدك أغنية”، وديوان “وشيء من سرد قليل”، وكتبت تنظيرا حول هذه الكتابة في فصل خاص في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”، وناقشت بعض الأعمال السردية ذات الإيحاء الأيروسي في كتاب “ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية”، ومقالا توضيحيا حول هذا النوع من الكتابة.
وفي الجعبة للنشر في قادم الأيام والشهور ديوان شعر أيروتيكي صاخب بعنوان “تنهيدةٌ… تنهيدة ثم المطر”، ويحتوي هذا الديوان على مجموعة “أغنيات لسمو نهدك”، ومجموعة جديدة من “القصص والسرد” تحت عنوان “متلازمة ديسمبر”، ووجد نصوص ذات طابع إيحائي وصفي أيروسي في ديواني المنتظر “هي جملة اسمية”، وفي ديواني المعد للنشر “على حافة الشعر، ثمة عشق وثمة موت”.
وعلى أية حال، فإن الكتابة الأيروسية بالنسبة لي كتابة طبيعية يمكن أن توجد في أي سياق من سياقات الكتابة، فنحن البشر لا يحركنا إلا عاملان قويان: الفكر والغريزة، وهذه هي الفطرة السليمة، والكتابة السليمة الجيدة هي كل كتابة تتماثل وتعبر عن هذه الفطرة السليمة، بغض النظر عما يهرف به بعض القراء الذين لا يعرفون الكثير في هذا الموضوع الذي جعلوه شائكا وإشكالياً، وأثاروا حول الكتّاب الكثيرين من الزوبعات عديمة الجدوى.
أنا بالفعل أشعر بالشفقة حيال هؤلاء القراء الذين يصفونني ويصفون غيري بصفات القبح، لأنهم بالفعل سطحيون وجهلة، وإن كانوا من ذوي الشهادات العليا، ويتسترون وراء مقولات دينية وتربوية وأخلاقية، لا يفهمون مراميها.