الحبُّ «يمشي كنهر دونما ضفاف» للشاعر عمر شبانة

كمال جمال بك
حفلت تجربةُ الشاعر الفلسطيني الأُردنيّ عمر شبانة بتحولاتٍ ومغامراتٍ حياتيَّة وإبداعيَّة غنيَّة في مساراتها الحسيّة والروحية. وعلى هديها انسابت قصائدُ مجموعتِهِ ” يمشي كنهر دونما ضفاف” الصادرة في عمّان 2018. وفيها يُوثّث  للأمكنةِ المعاشة والمُستعادة بسُررٍ تفوح منها أَطايبُ الزُّهور والورود، وتحلّق في فضاءاتها فراشاتُ الأَغاني.
وإِذ تسجّلُ “الأنا” حضوراً رئيسيَّاً ممتدّا، كما لو أَنَّها الشخصيةُ المحوريَّةُ في سيرةٍ سرديَّة، إلَّا أَنَّها في تدفّق شلَّالاتها تكشفُ مع كلّ نبضةٍ عن جوهرها المستقلّ في الوجود، وعن واحديَّتها وثنائيَّتها في الحبّ، وعن ذاكرتها الجمعيَّة أَهلاً وأَوطانا.  وهنا يجود علينا طفل المراعي وفتاها في الغُور بعَذْب الغناء:
” في البَدءِ كنتُ أنا/ وكان الغُورُ لي/ بيتاً بدائيّاً ومأوى/ في البَدءِ كان الحبُّ أُغنيةً على نهر الشَّريعةْ/ في البَدءِ كانت جنّتي وصعدتُ فيها، في روابيها أُسرّح ماعزاً بين الحقولِ، وأَشربُ الماءَ العذوبَ من العيونِ/ ومن سواقيها ومن غدرانها، وأَشمُّ أَزهاراً وأَصطادُ الطيورْ/ ثمَّ انزلقتُ إِلى جحيم الغُورْ”
ملء جوارحه المسكونة بالتفاصيل ينسكبُ الشاعرُ إِلى الطبيعةِ احتفاليَّاً تارةً، وفجائعيَّاً تارة أُخرى، وبينهما حقولُهُ المُفَارِقَة؛ الموز، البطاطا، القمح، الباذنجان، الزيتون، الصبَّار، اللَّوز، شقائق النعمان/ الحنّون، وحقل الفراشات الندي. ومع كل منهل أوساقية أوفرع أَومنعطف نهريّ تطالعنا لازمةُ بَدءٍ جديد، في مبتداها بذرةُ تكوين، وفي منتهى سيرتها عَودٌ إلى بداءتها الأولى ” في البدء كان الكلمة”.
في البَدءِ كنتُ أنا/ وكانتْ فاطمةْ/ طفلين كنَّا في الشَّقاءِ، بلا زمانٍ أو مكانٍ، حين نغرق في الأَغاني الحالمةْ/ في البَدء كنَّا واحداً/ والآن نحنُ اثنان/ نحن ثلاثة، ألف، ونحن ظلامنا المفتوح للتّيهِ المقدّسْ”.
إِنَّه الحبُّ إِذاً والطفولة النبعان اللذان لا يجفُّ ماؤهما، وبهما يبلّل الشاعرُ روحَهُ بعدما غبَّرتها رياحُ المدن وعتَّمت دروبها. ومن هنا تولد الرغبةُ الجامحة لا للارتواء فحسب، بل للخروج من هذه الأرض، وخلق أرضٍ جديدة ” فالأرضُ ليستْ على ما يرام، وليس عليها سوى الظلمات، وليس على الأرض ما يستحق الحياة” وهذه المعارضة مع درويش ليست اليتيمةَ، بل هناك أُخريات، بينها تجارب صوفيَّة. وفي ذلك إشارتان واحدة إلى حبّ من يهوى، والثانية إِلى تشرّب ماء وجدهم بكأسه. ذلك أن الشاعر الذي لا يطرح نفسَه بشكلٍ مباشر ضمن هذا المعطى التراثي أَوذاك، ولا يلتزم بتيَّار فنيّ له كلاسيكياته، تقطر أَنفاسُهُ عسلاً وخمراً صافيين من جِرارِ قصيدة التفعيلة. 
“في البَدءِ كان النَّهرُ أُغنيةَ الحياة/ في البَدء، في بَدءِ الطُّفولةِ، للطفولة رقصةٌ ريفيَّةٌ بين الحقولِ، ورقصةٌ صوفيَّةٌ بين الدراويشِ الكبارِ، ورقصةٌ ثوريَّةٌ بين الفدائيين، يالطفولةٍ منسيةَّ في غربتين”  
عندما تنفتَّح الأنا على من تُحبّ، تتورَّد المساماتُ، وتتَّسع الدوائرُعلى جسد النهر، لا من حصاة، بل من أَثرِ سباحةٍ ماهرة، في ثقبِ قلبِ صاحبها حكايةُ طفلٍ غريق عادت عنزتُهُ وحيدةً إلى البيت ذاتَ مرعى. ومن الطّفل إِلى الجدّ نرى دائرةً يقيمُ فيها من لهم أَثرعميق في تشكيل معالم الشَّخصيةِ واحتضانها(الجدَّة وبيتها- الجدّ الذي يورث الغناء- والأم…)، وفي دائرةٍ قريبةٍ تغيمُ فيها صورُ نسائها تارةً، وتشفُّ ضياءَ أَقمار تارةً أُخرى، وفي دائرةٍ شقيَّةٍ تشملُ الجيرانَ والأصدقاء، وفي دائرةٍ ترتسمُ ملامحُ أَريافٍ ومدن(عمّان- الغور- مخيم الكرامة- جبال يرقا- السلط- فلسطين الحاضرة الغائبة- والشام…).   
    
في التشكيل الشعريّ تضمنت المجموعةُ سبعَ عشرةَ قصيدة، بينها قصائد موزَّعة كشذرات، وقصائد بانورامية مميَّزة لدراسات نقديَّة، تتجاوزُ مساحةَ القراءات والانطباعات الأولية وحدودَها، وفي مقدمتها قصيدتا فاطمة ومملكة الحنّون. إِضافة إلى تتبّع الأَثر الفكري، والتوظيف الأسطوريّ بشكل خاص.   
في الحبّ كما في الحياة، تجري الأَسئلة من قمم الشغف والوجد والهوى، إلى سهول الهيام والودّ والخُلّة، ومابينهما يرجفُ القلبُ شوقاً في سفوحٍ من الصَّبوة والنَّجوى والغرام،  وعلى اختلافِ المحطَّاتِ وتناقضاتها، يظلُّ الحبلُ السريُّ موصولاً بين ابتهاجٍ واستبشارٍ بالولادة، وبين أَسىً ووجومٍ بالرَّحيل. وعلى خطَّين زمني معلوم، ووجوديّ مجهول، تمضي النَّفسُ توَّاقةً إلى سَكِيْنَتِها، تتشرَّبُ من معينِ الحياة محبَّةً، وتسكبُ ماءَ روحِها على فقد الأَحبّة. 
من نعناعِ وعنبِ وزعترِ حاكورةِ “يمشي كنهر دونما ضفاف” هذه القطفة من الحبّ في نهاية الطواف: 
“طوَّفت ما طوَّفتُ أحلاما وأوهاما/ وكان الأفقُ ورديَّا، وكان من الضبابِ/ وكنتُ تحت سمائيَ الأُولى أراقصُ عتمةً بيضاء، أو شمساً من الظُلماتِ، أيَّاماً وأَعواماً، وأَغرقُ في متاهاتٍ هي الدنيا التي أوغلتُ في لذَّاتِها وسهوتُ في غاباتِها ولهوتُ كالملهوف في عتماتِها وإلى متى؟ ساءلتُ روحيَ وهي تحملني، وأَحملُها، متى ياروحُ نهجعُ في نعيم فُراتِها؟” 
عمر شبانة شاعر وإعلامي فلسطيني أردني من مواليد عمّان 1958
صدرت له سبع مجموعات هي:
1- احتفال الشبابيك بالعاصفة (1983).
2- غبار الشخص (1997).
3- الطفل إذ يمضي (2006).
4- رأس الشاعر (2013).
5- سيرة لأبناء الورد (2017).
6-  حديقة بجناحين (2019).
7- يمشي كنهر دونما ضفاف ( 2018).
8-  ومختارات من شعره بعنوان “تحولات طائر الفينيق” (2018).
9- ومن كتبه أَيضا كوابيس وكواليس: البصر الملهوف في الحال العربي المعروف، موسوعة الكاريكاتير العربي (1999).

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…