الروح الأدبية في كتاب «الإصحاح الأول لحرف الفاء»

رائد محمد الحواري/ فلسطين

من يتابع إنتاج “فراس حج محمد” يجده متعدد المواهب، فهو شاعر، وناقد، وناثر، وما يقدمه من أدب يعد استثنائيا، فمثلا أن يكتب كتاباً كاملاً عن القهوة، “من طقوس القهوة المرة” ليس بالأمر العادي، كما أن إصداراته من الشعر تصاعدية، فكل ديوان له (طعم) خاصّ به، بحيث لم يكرر نفسه في أعماله الشعرية، أما إصدارته النقدية فهي أيضا متعددة، منها ما هو متعلق بالرواية،  وآخر بالشعر، وآخر بالقصة وقصة الومضة، ومنها ما جاء كنظرية في النقد: “بلاغة الصنعة الشعرية”، أما آخر كتابين فهما “نسوة في المدينة”، و”الإصحاح الأول لحرف الفاء”، فاللافت فيهما المفارقة الجميلة، الأول يتحدث عن أحداث وعلاقات/ مغامرات الكاتب مع النساء، بمعنى أنه متعلق بالعمل/ بالفعل، بالعلاقة الجسدية، ومن يقرأ “نسوة في المدينة” يعلم أن الكاتب تألق فيه، حيث أقنع القارئ (بواقعية) الأحداث/ المغامرات/ العلاقات، وأمتعه فيما قدم، أما الكتاب الذي بين أيدينا، 
فهو يتناول العلاقة الروحية بين الكاتب وامرأة خصّها دون غيرها، لهذا، فهو كتاب متعلق بامرأة واحدة، وليس بعدة نساء، لهذا كانت (الروح/ العاطفة) هي التي تسيطر على الكاتب، فالقارئ يشعر أنه أمام كتاب (حب عذري) ممتع يتحدث الكاتب عن حبيبته بطريقة ناعمة وهادئة، حتى عندما يتناول العلاقة الجسدية، فالمفارقة بين لغة الكتابين (الحب الصريح/ والحب العذري)  يشير إلى قدرة الكاتب على الإبداع في أي موضوع يريد الكتابة فيه، وعلى أن “فراس حج محمد” قادر على إمتاع القارئ في أي أسلوب/ شكل/ لغة/ موضوع يتناوله.
سنحاول إضاءة شيء مما جاء في كتاب “الإصحاح الأول لحرف الفاء”. بداية العنوان متعلق بالدين/ بالكتاب المقدس، وهذا يأخذنا إلى بعد/ عزوف الكاتب عن اللغة/ الأحداث/ الأفعال الصريحة التي تخدش الحياء، فكانت الأخلاق الدينية/ المقدسة حاضرة فيه.
أما حرف الفاء فهو متعلق بالكاتب الذي يبدأ به اسمه “فراس”، وبامرأة مجهولة يبدأ اسمها بحرف الفاء، وقد فضّل أن تبقى وراء الستار محافظا عليها، وهذا يخدم فكرة الأخلاق، ويتماثل مع تعاليم الدين.
لغة النصوص منها ما  جاء بضمير نحن: ” على مرمى حزن نقاومه بكل ما أوتينا من صلابة روح، نكتب أوجاعنا، لا لنتصالح معها…”ص14، ومنها ما جاء بضمير أنا الكاتب: “لقد جعلتني أرى الدنيا بعينيك، كأنها لم تكن جميلة إلا عندما أنعم منك بــ “صباحك حب، فحبي لك لم يكن أكبر معجزة كونية خارقة، بل كان وعدا بلقائك القدري، كيف لا؟ وأنا أشعر بك، عالمي داخل عالمك” ص96، ومنها ما جاء بصوتها، صوت المرأة: “سأسال عينيك، ولحن يديك، فروحك معي، وقلبك في قاعة تحقيق مجحفة داخلي، أراد أن أسأله كيف به شق فؤادي دون تحذير، وأصبح جنته بظلال وارفة تغني لي ولك وكل نسمة صباحية تهب من تلقاء روحك، يا عشقي الوحيد، فأنا أحن لك كل وقتي، هكذا هو الحب يا فارسي الجميل، أحس أن قلبي قد ذاب هوى وارتحالا بك وإليك ولم تعد له معالم بادية” ص18،  فالقارئ يشعر بتباين اللغة بين الضمائر، فالأنثى/ المرأة تركز على الألفاظ المذكرة، وهذا واضح في المقطع السابق، بينما نجد لغة الكاتب/ الرجل/ المذكر “أني منتظر تلك المحكمة لعلني أشفى من كل تهمة، لأكون لك أبد الدهر، فأنا أحب سكون قلبك وهيجانه، وأعشق كل تفاصيلك، من أخمص قدميك حتى الرأس مرورا بكومة ثمارك الناضجة الشهية” ص19، وهذا ما يجعل الكتاب مقنعا (واقعيا)، فالقارئ يشعر بصدق مشاعر الكاتب تجاه المرأة التي يحب، حتى  أنه كان/ كاد يلفظ باسمها دون أن يعي عندما قال: “… فبك وحدك يحلو الهوى وتحلو الحياة ويغدو الصباح أكثر إشراقاً، فأنت أمنية الزمان، ولن يكون غير ما يجب أن يكون، فاطمئني، وأسكني بلابل الأسئلة بالحب والوصال”، ص17، فهذا المقطع الذي تكرر فيه “تكون، تحلو/ يحلو”، ومعنى “الصباح/ إشراقا، الحب/الهوى” كثرت الكلمات التي فيها حرف الحاء والمكون لكلمة حب: “وحدك، يحلو، تحلو، الحياة، بالحب” يشير إلى تماهي الكاتب مع الحالة الروحية/ العاطفية التي يمر بها، فانعكس ذلك على الألفاظ والحروف التي استخدمها، ومن ثم كان/ كاد يبوح باسمها حين استخدم “فاطمئني”.
الألفاظ (تكشف) لغة المتحدث وجنسه، لأنه يتماهي معها، حتى يبدو أحيانا أسيرا لها، ولتبيان هذا الأمر سنأخذ هذا المقطع: “لحظات من الفرح الكوني الغامر جعلك تسهرين معي حتى الصباح بين إحجام وإقدام، وبين وله مكتوم ومناجاة تشف عما في النفس من رغبة حانية لعناق أبدي يجعلني أنثر الورد قبلات ترتسم على محياك البهي، وتجعل الدم المتخثر في العروق يشعر بحرارة أنفاسك، أشعر بك قربي تتنفسينني، فتستقيم اللغة تخطر في تبخترها وجنونها، كأنها وجدت ضالتها فينا، فيزلزلني إحساسك بي فتقشعر كل ذرة في جسدي شوقا لوصال يحلو ويعذب ويرقى إلى معارج الروح.
دمك أحيا قلبي، فتغيرت خلايا جسمي، وأصابها كيمياء التحول، لنصبح كيانا واحدا متصلا أبداً، فأنت مدرستي، تعلمت في صفوفها فنون الغرام، وأريدك أن تزيديني علما وارتواء، فأنا دونك أشعر كأنني صحراء تشتهي قطرات الندى، فما زلت أحس بأنني طالب يحبو في مدارج روحك، فيحملني إحساسي المشتاق لأكون بين أحضانك تمنحينني الحب صافيا عذبا كأنه الخمرة المعتقة”. ص26 و27. لغة المقطع الأول لغة الرجل/ الذكر، وهذا نستدل عليه من خلال: “وتجعل الدم المتخثر في العروق يشعر بحرارة أنفاسك، فتستقيم اللغة تخطر في تبخترها وجنونها”، فالمعنى متعلق بحالة الرجل، بينما المقطع الثاني يأخذنا إلى المرأة التي نجدها في: “دمك أحيا قلبي، فتغيرت خلايا جسمي، وأصابها كيمياء التحول، لنصبح كيانا واحدا متصلا أبداً، صحراء تشتهي قطرات الندى”، فالمفارقة بين اللغتين الأولى تدفع/ تلقي، والتي تتلقى/ تقبل تشير إلى وجود متحدثين، متكلمين، يستخدم كلّ منهما ألفاظاً خاصة به ومتعلقة بمشاعره، وهذا ما يجعل القارئ يشعر بأن الكتاب لم يكتبه شخص واحد، بل اثنان، هو وهي.
قلنا إن “فراس حج محمد” يتقن الكتابة في أي شكل/ موضوع، وإذا ما أخذنا قصيدة “أغنيات لسمو نهديك” وما فيها من (حب صريح/ مكشوف) وقارناه مع ما جاء في كتاب “الإصحاح الأول لحرف الفاء”، نتأكد أننا أمام كاتب متألق، يتحرر عندما يجنح، ويلتزم عندما يحافظ سنأخذ شيئاً مما جاء في كتابه الأخير لتبيان كيف استطاع أن يشير إلى العلاقة الجسدية بلغة أدبية روحية: “هذا هو ندائي ونداؤك الأبدي، عندما يسيل العسل من خليته، فترتوي الخلايا برذاذ الوصال، وتغتسل الروح بأشواق الحنان، وتبتل الجوانح بغيمة تهمي بين أودية تتلهف  حجارتها لرشقة أو لرشفة من صريح خمرتك المسكوبة بين بينك في احتدام الاضطرام، وتنتشي وتنتشي كأنها بعقل خاص ومنطق خاص، فقط عندما يسيل العسل من خليته” ص45، ثنائية اللفظ أو المعنى في: “ندائي/ نداؤك، خليته/ الخلايا، تغتسل/ تبتل، لرشقة/ رشفة، تنتشي، خاص، يسيل،  العسل” تأخذنا إلى حالة التوحد بينهما، إلى العلاقة الجسدية، التي كانت حاضرة من خلال الإيحاءات الجنسية.
وهناك مقطع آخر يدخل في التفاصيل أكثر: “يطول بنا اللقاء، فتزداد وردتك القطنية نعومة وطراوة، فينبت عليها بعض من الشعر المتطفل على ملمسيها الحريري، تسارعين لاستتباب النعومة الناصعة البياض، لتظهر الوردة كأنها درة من ماس بريقا وانجذابا، يسيل من فتحتها بعض ماء، فيعبق الجو بك، ورويدا رويدا، وإذا بالنبع ينبجس ثرا، فينغمر في مراقدها في وردتك، وتنعم الألف المنتصبة بطقس اغتسال في مرقدها في وردتك، فتروح وتجيء مرات ومرات لعلها تصبح أكثر صلابة مما هي عليه، وأكثر انتفاخا، والقلنسوة الحمراء أشد حمرة، والفتحة متهيئة لانبجاس الماء لتتلقاه يدك الناعمة، فيفيض من بين أصابعك، تلقين في مسمعي نشيد شهوتك الحنون، فتأتمر الألف بأمر الطلب وتعتمد مرة أخرى وتنتصب لتعاود الكرة من جديد، لا تكل ولا تمل” ص48، رغم أن المقطع يثير شهية القارئ، لما فيه من ألفاظ وصور تأخذه إلى الشهوة الجسدية، إلا أن الكاتب بقى محافظا على مسار الإيحاء دون التصريح/ المباشرة، وهذا ما يميز فراس حج محمد.  
الكتاب من منشورات دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى، 2021

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…