العلاقات الاجتماعية والتحديات الوجودية

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

1
     البحث عن المصادر الثقافية للعلاقات الاجتماعية ينبغي أن ينطلق من طبيعة الرموز في اللغة ، التي تَحمل الألفاظَ والمعاني والمشاعرَ. وعندما تنتقل حركةُ العناصر الفكرية الفاعلة في المجتمع مِن المشاعر إلى التصورات ، فإنَّ تاريخ الفِكر الإنساني سيزداد وُضوحًا ، ويَسهُل تحليله ظاهريًّا وباطنيًّا . وإذا انكشفَ التاريخُ الحاكم على الفِكر الإنساني ، فإن الثقافة الحاكمة على العلاقات الاجتماعية ستنكشف . ولحظةُ الانكشاف هي الحَد الفاصل بين المعنى الحقيقي والوَعْي المُزيَّف . واللغةُ _ باعتبارها حاملةً للرُّموز المعرفية ومحمولةً على الظواهر الإنسانية _ تستطيع الوصول إلى أنوية المجتمع الداخلية ، وكشف العلاقات الهَشَّة بين الأفراد خَيَالًا وواقعًا ، وتحديد التَّشَوُّهات التي تُصيب العلاقات الاجتماعية معنويًّا وماديًّا .
2
     كُلُّ هَشَاشة في العلاقات الفردية ستؤدِّي إلى فصل العلاقة عن المصلحة ، وهذا أمرٌ في غاية الخُطورة ، لأن الأفراد يُطوِّرون علاقاتهم لتحقيق مصالحهم ، ويُشيِّدون البُنى الاجتماعية لدفع الضَّرَر عن أنفسهم ، وجَلْبِ المنافع لها . والطاقةُ المُحرِّكة للمُجتمع هي المصالح المُشتركة والمنافع المُتبادلة . وإذا صارت العلاقاتُ الاجتماعية خاليةً مِن الفائدة،وعاريةً عَن المعنى،وفارغةً مِن المَضمون، فإنَّ الإنسان سينكمش على ذاته، ويَغرق في صَوته الداخلي ، ويَصنع عَالَمه الخاص ، ويبتعد عن المُشارَكة في الخلاص الجماعي مُكتفيًا بإنجازاته الشخصية ، ويعتبر نَفْسَه نُقْطَةً مرجعية قائمة بذاتها ومَحصورة في وُجودها . وهذا يعني أن الإنسان يَنسحب مِن الحياة كَي يصنع حياته الذاتية ، ويَرجع إلى تجاربه وخبراته كَي يُفَسِّر التاريخَ ، ويرتد إلى أعماقه كَي يَجد معنى لهُويته وكَينونته . وبذلك يُصبح الجُزء هُو الكُل ، ويُصبح الكُلُّ مجموعةً مِن الشَّظَايا المُبعثرة والعلاقات العبثية غير المُتجانسة ، وهذا الانهيارُ في المفاهيم يَقُود إلى انهيار المُجتمع . وغيابُ التجانسِ والمصلحةِ عن العلاقات الاجتماعية يَدفع الإنسانَ إلى العُزلة ، ويُدخِل مُكوِّناتِ المُجتمع في دَوَّامة مِن الصِّراعات الوهمية والصدامات المُتخيَّلة. وهكذا يَصِير الإنسانُ كِيانًا بلا معنى وجودي، ويَصِير المُجتمعُ تَكَتُّلًا بلا شرعية إنسانية.
3
     كُلُّ تَشَوُّه في العلاقات الجماعية سيؤدِّي إلى فصل المسار عن المصير ، وتعميق الفجوة بين السبب والنتيجة ، وهذا يعني خسارة المجتمع لهُويته المُتفرِّدة ، وعَجْزه عن تفسيرِ كَينونة الحياة ، وتوضيحِ القيمة المركزية للوَعْي.وتفكُّكُ الرابطة المنطقية بين السَّبب والنتيجة يَستلزم عدم القدرة على تفسير الفِعل الاجتماعي، لأنَّ الفِعل الاجتماعي أداة وظيفية لتحقيق غاية مُعيَّنة ، وهذه الغايةُ هي أساسُ التغيرات الاجتماعية ، والقُوَّةُ الدافعة للسُّلوك الإنساني . والفِعل الاجتماعي تابعٌ لغايته ، والتابع لا يَكُون مَتبوعًا . والأصلُ في المُجتمع أنَّه وَحدة لا تتجزَّأ ، ومنظومة لا تتشظَّى ، تتمتَّع بالحيوية والاستمرارية والقُدرة على التأقلم معَ المُتغيِّرات ، والتَّكَيُّف معَ التَّحديات . وإذا حدث تشوُّه في العلاقات الجماعية ، دُون وُجود آليَّات لعلاجه وتَرميمه ، فإنَّ المُجتمع لَن يَستطيع التفريقَ بين الفاعليَّةِ ( ما يُوجَد الشَّيء بسببه )، والغائيَّةِ ( ما يُوجَد الشَّيء لأجله ). أي إنَّ المُجتمع لَن يُفَرِّق بين المَنبع (نقطة البداية) والمَصَبِّ (نقطة النهاية).وبالتالي،سَوْفَ تُولَد العلاقات الاجتماعية، وتتحرَّك في المجتمع بشكل عشوائي ، ولا يُمكن السَّيطرة عليها ، ولا تحليل طبيعتها وتفكيك مُكوِّناتها .
4
     كُلُّ عُنصر اجتماعي خارج السَّيطرة سيتحوَّل إلى وَحْش . وإذا أرَدْنا منعَ العناصر الاجتماعية مِن التَّحَوُّل إلى وُحوش، فيجب علاج كُل تشوُّه في العلاقات الجماعية بأسرع وقت مُمكن، وعدم الاستهانة به مهما كان صغيرًا وضئيلًا ، وهذه هي الطريقة الوحيدة لمعرفة زمان ومكان ولادة العلاقات الاجتماعية ، وتتبُّع مسارها ، ومعرفة النُّقطة التي ستنتهي إلَيها ، والغاية التي ستصل إليها . وبالتالي ، يَسهُل إيجادُ تفسير عقلاني للعلاقات الاجتماعية ، وكشفُ جَوْهرها من أجل توظيفها لتحرير الناس من أوهامهم ، وليس السَّيطرة على أحلامهم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…