في ذكرى مناضل وأديب
رئيس تحرير جريدة القلم الجديد: خورشيد شوزي
الصمت أحياناً قد يجرح ضمائرنا المعذبة ونحن نقرأ بعضاً من حكايات رحيل أصحاب البصمات التي لا تغيب في الساحة النضالية والثقافية الكردية.. نودع جيل الرواد واحداً تلو الآخر، ولكن الشعب الكردي سيبقى على الدوام ينتج مناضلين وأدباء وعلماء وفنانين وسواهم، من أصحاب قامات ضوئية عالية … يكملون مسيرة الفكر الحر والتحرر من الظلم والغبن الذي لحق بشعبهم، بروح منفتحة على آفاق شتى دونما وصاية من أحد..
لاشك أن لكل زمان من أزمنة شعبنا الكردي، رجالاً يعملون بهمة عالية ومقدرة فائقة بغرض تحقيق الحلم المسلوب من شعبهم، بتخطيط من دول لم تكـن تعرف قـيمـاً إنسـانيـة سـوى نهب خيـرات شـعوب لا حـول لها ولا قـوة، ومنهم الشعب الكردي، حيث وزعتهم وأرضهم على ذئـاب نهشـوا الخيـرات المتـبـقيـة من فُتـات موائد أسـيادهم الذين صنعـوهم..
مناضلو و مثقفو الكرد، الذين خاضوا ويخوضون معارك مستمرة بنضالهم السياسي والفكري، يقاومون بها كل أنواع المحو القومي لشعبهم الذي ينحدرون منه، رافضين وإياهم كل أنواع الصهر في بوتقة مستعمريهم، ساعين لأن يصنعوا تاريخهم بأيديهم وعقولهم كغيرهم من الشعوب الحرة..
قليل هم السياسيون والأدباء الذين استشعروا ويحسون ويلمسون ما حولهم بكامل حواسهم البشرية، والكتابية، واستطاعوا ويستطيعون أن يعبروا عن ذلك في نضالهم وكتاباتهم… إلى هذا الصنف من المناضلين المثقفين ينتمي الدكتور نورالدين زازا بجدارة- كأحد رادة الموقف بامتياز- فهو الكردي الذي ناضل ضد مختلفَ أصناف البؤس والشقاء والظلم والمعاناة والسجن والتشريد والتغريب التي فرضوها عليه وأمثاله، لا بل بالشعب الكردي بأكمله.
كان الدكتور زازا دائم الاهتمام بالسياسة ونشدان الحرية، والتي تركت آثاراً كبيرة على حياته وأدبه، أبى أن يسكت ويخمد في ظلّ الظروف الحالكة وسيطرة التعسف والعنف والصهر من قبل محتلي أرضه ومستعمري شعبه.
هو سياسي وإنسان متمرد، زادُه حب الوطن، ورداؤه النضال، إنه الإنسان الذي صاغ من النضال وطن، والوطن صاغه مناضلاً صادقاً لم يكل ولم يمل من فتح نوافذ الضوء، من روحه المتقدة، وقلبه الكبير يظلل أشتات الأنفس والأفكار بشفافية.
كلمات متواضعة جداً في رثاء صادق في الذكرى الثانية والثلاثين لرحيل مناضل كبير عظيم مع أني على يقين بأن العظماء لا يرحلون بل يولدون من جديد كل لحظة في قلوبنا، ورحيلهم عنا جسداً، لا يمحي فكرهم ومسيرتهم النضالية، وتبقى إبداعاتهم ونضالاتهم خالدة بقلوب وعقول أبناء الكرد، وكلماتهم وسيرتهم تطرق مسامعنا، وتزيح وشاح الحزن عن حياتنا، فنحن نراهم في كل حضور وفي كل مقام ينطق بتاريخ الكرد، فيصبح الموت حياة من خلالهم.
ولقد استطعنا في “بينوسا نو” أن نعد ملفاً عن مناضلنا الكبير الدكتور نورالدين زازا- باقتراح من المفكر الصديق إبراهيم محمود رئيس تحرير الجريدة السابق- ننشره على أربعة أجزاء- وبالتعاون والاشتراك مع موقع ” ولاتي مه” نجلي خلاله بعض الحقائق، لاسيما أنه ومنذ أن وطأت قدما الدكتور زازا هذا الجزء من تراب وطنه تعرض لحملة شعواء من قبل الأنظمة المحتلة لأرضه، بعد أن ألظت نيران الحقد أفئدتهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يغيبوا كردستان عن قلوب أبنائها، ولا استطاعوا أن يخمدوا جذوة الحب بين الأرض وجذورها أبناء الكرد.
حاول الإخوة والأخوات الكتاب أن يلقوا بعض الضوء على ما تركه مناضلنا وراءه من إرث نضالي و ثقافي، ومن معاناة شاهدة عيان المثقف الكردي فيه، وأي تاريخ سُجّل باسمه حتى الآن، وكيف تم التعامل معه، ونظَرة كل منهم في هذا التاريخ، وفي شخصه باعتباره شاهداً على مأساة نضال، و ثقافة، ومأساة مثقف ظهر في الزمن الكردي الصعب، ولا زال هذا الزمن مستمراً، وأريدَ له أن يكون خارج ديموغرافية كردستانيته، ليموت وفي روحه حسرة من كرديته، وكيف يتم التعامل مع ذكراه إلى الآن هنا وهناك… كل حسب نظرته.
الصورة أكبر من إطارها: عن نورالدين زازا غير المقيم بيننا طبعاً
كتابة العنوان، وما يلي العنوان، والتقديم للنصوص واختيارها و ترجمتها، والتعليقات عليها وعلى الصور:
إبراهيم محمود
نورالدين زازا: الحياة التي عاشها، الحياة التي لم يعشْها
ما أكثر ما قيل في نورالدين زازا “1919-1988″، ما أقل ما قيل في نورالدين زازا، وبين الحالتين، ليس من اختلاف، إنما ما يمكن اعتباره حقيقة الشخصية الثقافية التي كانَها:
وجِد بها، ترعرع عليها، وتشكلت حياته أو تلونت في سياقها المفتوح كثيراً كثيراً. عاش قريباً حيث تكون كرديته التي يعرفها هو وليس عن طريق التبنّي، أو استعارة لنسخة منها من أي كان، ليس بناء على مشترط ثقافي، أو وصاية أو توجيه من أي كان.
نورالدين زازا حيث عانى ما عانى جرّاء هذه الحالات التي أريدَ منها، ومن خلال الذين أرادوه، وهم من صنف الكرد الأقحاح، كما أرادوا مجالسياً، هم من دعاة زعْم أنهم من جسّدوا الكردية في كردستانيتها، ونُبْل تمثيلها، ورعايتها، وعبْر كشوفات تاريخية، بمفهومها التنظيمي السياسي الحزبي الكردي المعلوم سورياً، منذ 1957، المنعطف التاريخي المعلَن عنه في كل مناسبة، يشار فيها إلى خاصية الحركة الكردية في سوريا، وولادة وعيها حزبياً، ومن ثم تحوَّل هذه الولادة إلى “لوغو: ماركة القومية الكردية المعمَّدة تحزبياً” وبعدها إلى خاصية، أو ما يشبه الحلبة، ليتنافس عليها من رأوا في أنفسهم عرّابي هذا المنعطف، شهوداً على بعضهم بعضاً، ولبعضهم بعضاً، بوصفهم في الداخل، رغم أن الداخل لم يكن داخلاً، من لحظة الولادة للحركة السياسية الكردية ومسمّاها الحزبي في سوريا، كما تقول أنشطتها، وسِيَر المعتبَرين أعلامها، والناطقين باسمها، وخطوط تحركهم اليومية هنا وهناك، وليبقى زازا الأكثر من كونه اسماً عادياً لحظة المقارنة بينه وبين جُل هؤلاء، أعني بـ” حمَلَة صكوك غفران الكردية ” ومنحها إلى هذا وذاك، وإلى يومنا هذا، دون حساب متغيرات الزمن، وكشوفات الزمن العالية الدقة، إذ يلوّحون بها، أي لمن يستحق دخول جنة كردستان الخاصة بهم، أو المتوقفة عليهم، والدفع بمن يكون خارج هذا التشخيص الغرائبي في طبعته، نسخة طبْق الأصل عن غرائبيتهم، إلى جهنم اللاكردية، عبر ” نعْم، لا “، وليكون الداخل الحصيف والممتلىء بالحياة، وبالكردية المعزَّزة بالتنوع زازا، خارج هذا التصنيف ذي المرجعية الأبعد ما تكون عما هو ثقافي، جديراً بأن يحتفى به، ويشاد به، في حضور من ليسوا كرداً، انطلاقاً من منطلقاتها، أو ما لأجله كانت.
عاش طريد هذه النسخة المشوَّهة من الحزبية، ومن كانوا الملوَّحين بها، لأنه كان أكبر بكثير، في صورته الحية، وإلى اللحظة هذه، من إطارهم المزعوم تاريخياً، وحتى جغرافياً، أو عما هو ثقافي، فليس من مقارنة البتة، بين حامل ثقافة لها ميزة الانفتاح والتنوع بتعددية لغاتها، وآفاقها والعالم الذي تسمّيه، وإلا لما رأيناه أكثر شبهاً بالمنفي القسري، ليس لأن طغياناً محلياً من أنظمة المنطقة كان وراء خروجه ، أو دعوى جُبنه المستقرَأ، وإنما سطوة الرفاقية وآفاتها وحساسيتها من رجل ليس كأي رجل ممن دشّنوا معه ولادة الحركة تلك أو تنظيمها، فكان الخارج داخله، وكان موته سويسرياً، ودفنه في لوزان، البطاقة الخضراء ليؤمم دخوله إلى جنة أبدية، وفي صمت، أو ما يشبه الصمت، الإدانة الكبرى ضد الذين، أحسّوا، وبعد رحيله بعقدين من الزمن، أن لا بد من إحيائه، لتجميل قبح ذاتي، بنيوي فيهم، وتعليق صورته في مكتب أكثر من كان يقف له بالمرصاد مع أتباعه، وليصبح محل خلاف، ليس حباً به، بينه وبين آخرين، لم يختلفوا حزبياً، ولم ينشقّوا في أحزاب تكاثرت وتناثرت، وتعادت، فحسب، وإنما تخالفوا، وهم في بنيتهم كانوا هكذا، ليجد كلٌّ منهم في زازا إجمالاً، الوجه الذي يمكن التلويح به، وفي ظل العرّاب السياسي الأكبر كردياً، كما يعلَم بأمره كرده. كان هناك من يجد بغيته، بزعْم ثقافي، وتحت صورة موضوعة في مكان، ما أوجعه من موقع له، ولعائلته ” جيلبرت فافر ” السويسرية الرائعة، كما سنرى، إلى جانب من وجد في ظل الذين سبقوه في حكم البلد، ما كان يصدمه في عميق وجدانه، ولتُلقى خطابات تتويجية للحظة الإحياء وتشكيل صورة له على طريقة هذا العراب ومن تحقلوا حوله، ومنهم من يبرزون كتّاباً يشار إليهم ببنان ما، وهم يحرّرون صفحات باسم سيرة زازا، وبإملاءات العرّاب الأكبر الذي رحل رحيله الأبدي في معترك عام 2019 ” 24 تشرين الأول منه ” وبروز بصمته الموجَّهة، كتّاب سيرة زازا، احتفاء بالاسم بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وما أطولها تقديرياً، وليس بين محرّر الكتاب هذا، والنشِط وصاية، أي صلة وصل على صعيد تدارك الكردية، أو التفاعل معها واقعاً حياً، كما سنرى أيضاً .
ولِد زازا غريباً، كما يبدو، وعاش غريباً كما يظهر، ومات مقهوراً كما هو مقدَّر، وأحيي باسمه رغم أنفه وأنف عائلته، كما هو المتعارف عليه، حتى الآن، في المكوّن الثقافي والسياسي والتربوي والعقائدي لسدنة التحزبية كردياً، وانفجارات أصداء تشققاتها وانهياراتها الاعتبارية.
أشير هنا، إلى إحدى النسخ من هذه الطبعة التحزبية الكردية، وكيف تعولمت خارجاً، كردياً، وهي في بَون المسافة الهائل بينها وبين مكانة زازا، لحظة ما يُسمى بالاحتفال بمرور ” 32 ” عاماً على رحيله، صحبة “كوكبة ؟!” من هؤلاء المتحزبين، ودائماً باسم الكردية، وهم يغمرون أعالي قبر زازا بباقات الزهور، والإطناب في وصف مناقبه وكرديته الفريدة من نوعها، وتردد على لسان أحدهم، ومن وراء نظارته السوداء السميكة، كما تابعتُ بالصوت والصورة، عما كان عليه الراحل، الرمز الكردي الكبير زازا، والبدعة في القول، هي في أن الراحل أنّى كان يلتفت، كان القدر له بالمرصاد. يا لسخف القول، وبؤس التاريخ المتجسد في شخوص هؤلاء، واستغباء الآخرين، وكيف يتم تجاهل حقيقة من يموت مقهوراً، وهو ممتلىء كردية وإنسانياً في أرض ليست أرضه، ووسط قوم، يظهر أنهم، من حيث التقدير، أكثر إخلاصاً في الكردية، وهم ليسوا كرداً، من كرد زعموا أنه مثَل أعلى لهم، وهم صنميو واقعهم، دونه مقاماً، وليقول آخر ما يثير حالة ما بعد السخرية، شهادة هذا الاستهتار بمن يرى ويراقب، وهو ممثّل كردي آخر، ووسط صف طويل مشهود له بالتأنق، كما يليق بالجمع المنتخب حزبياً عموماً وفي رحابة الفضاء السويسري، ليكون تارة نورالدين زازا، وتارة المعلّم نورالدين قاسم، ومن يوجّه إليه القول: الأهل “عائلته” دون أي ربط بين ما يقوله، وعمّن يتحدث، ومن يخاطب، وهو التعبير الأكثر تمثيلاً لهذا الخواء الثقافي السياسي الكردي، وبؤس المستعان به، واللامبالاة للتداعيات، وحيث الأنظار الكردية من الجهات الأربع تستبكي المرئي كثيراً.
في عهدة المجهول الاسم، أو المقدّر دون أثر في الحياة، والمرصود حتى لحظة وفاته، وما بعد هذه اللحظة، استعداداً للحظة المنتظرة، ليعاد النظر في الجسد المعنّى، والاسم المعنى، وتوليف الشخصية كما يُراد لها، وليس كما هي، كما كتبت عن ذلك في كتاب كامل عنه، قبل “13” عاماً، وكيف ووجه العمل بما هو متوقع من سدنة التحزبيات الكردية، إشعاراً مباشراً، وتشريحياً بتلك الأورام الاستعلائية والوجاهية داخلهم، عبر منشورات ومجالس مدارة، شعبوية، وهي حالة قائمة بعنفها الكردي المسيس، والتعبوي الجماهيري زعماً، إلى هذه اللحظة، وربما هي قيْد التمديد إلى أجل غير مسمّى، في ضوء المستجدات الكردية، أعني بها، في ضوء من يتقاسمون الكردية، ويوّحدونها بطريقتهم.
أين هو موقع الراحل العظيم زازا بين هؤلاء ؟ كيف يُجاز النظر في اسمه، وتاريخه، وثقافته، وهم دون دونه مقاماً ؟ أي قرابة في الكردية، بنسختها الأكثر سمواً، الأكثر أهلية لأن تُسمى في رحاب العالمين، بالنسبة لزازا، وهو أكبر بما لا يقال من كل إطار صوري للذين يشدّدون على صورة الرفاقية العريقة فيه، وهم لم يدّخروا، ولا يدخرون جهداً إلى الآن، وما بعد الآن تقديراً من صلب الواقع، في استثمار كل ما يقدرون عليه ليبقوا على مقاسهم ؟
عائلته، زوجته المقدامة جيلبرت، وقد شكّلت أكثر من حاضنة مجتمعية، وورشة عمل بحثي، وحب زوجي، وهي الكاتبة والصحفية السويسرية وذات الحضور اللافت بأنشطتها وجسارة مواقفه، لم تدخر جهداً، وفي التوجه المعاكس لمن أتيتُ على ذكرهم، في الحفاظ على شرف اسم زوجه مناقبياً، كما لو أنها في قرارة نفسها، وهي تعيش مأساة كردية زوجها الكردي الراحل أبدياً، ورعب كردية من كانوا وراء الإهمال المتعمد وأوزاره، كما لو أنها بطريقته الغاية في المدنية، وبهاء الأمومة، إزاء ولدهما الوحيد “شنكو”، تلوّح بكردية زوجها، وكأنها لم يمت، وأنا على يقين تام هنا، وهنا بالذات، أن زازا، لولا هذه المرأة السويسرية الشجاعة بكل مافيها جسداً وروحاً، لما عرِف زازا كما هو معروف الآن، لا باسمه، ولا بمواقفه، ولا بالآثار التي عرِف بها، وتلك التي سيعرَف بها لاحقاً، بالفرنسية وغيرها، ومن جهة أخرى، ما كان لهؤلاء الذين وجدوا في زازا، ومن كرده الذين كانوا وراء هجرانه القسري، أن يحتفوا به، لولا شعورهم الباطني بذلك الخزي التاريخي المستدام، وانتفاء الخجل المعلّم من على سيماء وجوههم، وكلماتهم الهزيلة، وسلوكياتهم، لو لم تكن جيلبرت، بمثل هذه المواصفات، وهي التي أفصحت ببعض من هذه المأساة الزازية في مقابلة مع قناة “روداو” الكردية في التاريخ المعلوم، وكذلك حال ولدهما “شنكو” الذي بدا في صوته مدى إخلاصه لكردية والده وإنسانيته، أعتقد أن كردية جل الذين عرِفوا برفاق زازا، ومنهم من رحلوا أبدياً، في هيئة لا تستحق أي نظر إليها، ومن نواحيَ شتى.
لهذه المرأة الأكثر من أن تستحق التقدير والاحتفاء، جهة الدور التاريخي، دور امرأة ليس من نمط النساء اللواتي يشار إليهن بخجل، بالعكس، إنما ما يبعث قشعريرة الرهبة في نفوس من أتيت على ذكرهم وأمثالهم. وأن يكون وراء كل رجل عظيم امرأة، يعدَّل: وراء كل امرأة عظيمة رجل، أو ندرة تلاقي العظمتين في زوجين من هذا الفصيل الشجاع، كما قلتها ذات يوم في حق كل من الزوجين: جلادت بدرخان وروشن بدرخان، أي في تحديد مقام روشن بجلادت.
وفي هذا المسار المفتوح، لا يجوز الحديث عن أي شخصية اعتبارية مناسباتياً، كما لو أن لها في السنة حق التذكير بها لمرة واحدة، في مدة زمنية معينة، وما يشكله الحشد المعمول به من طابع إعلامي، دعائي، يختزل حقيقة الشخصية تلك، ما لهذا الإجراء “السنوي” سُنَّة كردية منتظمة، من إشهار حقيقة لا يُنتبَه إليها، وهي مرة، وهي أنها تذكَّر في عهدة الجهة التي تشير إليه، وتنادي باسمه حصراً، وما في ذلك من احتكار المقام والاسم والقيمة الثقافية، وزازا أكبر من قبره، من مقامه المعلَن عنه، وعلى ألسنة الذين يتهدجون باسمه، لأسباب تسويقية إجمالاً، وهم يشيرون إليه ببضع كلمات، كما لو أنها خلاصة من يشار إليه، وأنهم بذلك يعرفون عنه، ربما ما يجهله فيه أقرب المقربين إليه، أو ما كان يجهله المتوفى نفسه عن وضعه.
زازا، وكل من هو في الاعتبارالكبير شأناً، هو، يكون هو من النوع اللامناسباتي، اللامقيَّد توصيفاً وتعريفاً بلسان من يتخذ منه خميرة يضعها في قلب عجينته السياسية، أو التحزبية، أو الفئوية، فهو كينونة قائمة بذاتها.
وأنا أشير إلى آثاره المعلَن عنها حتى الآن، ولا بد أن الأيام ستكشف عما هو جديد، وكما سمعنا من ولده ومن زوجته، رغم أنه من المؤسف جداً، أن هذه الآثار المسماة، وبالفرنسية، لم يجر العمل عليها، بحسب معلوماتي، ومنها إطروحته الجامعية، وهي بالفرنسية، وما في ذلك من جحود، ومن قصَر نظر، وربما ما يفنّد زعم الرهان عليه وتعظيم مكانته، إلى جانب جل الكتابات الأخرى والتي هي على تماس مباشر بنشاطه الثقافي الكردي:
– النسخة الكردية من “حياتي الكردية Bir kürt olarak yaşamim”، ترجمة أيتكين كارسوبان، أعيد إصدارها في عام 2011 مع “كرد لا يُنسون” تحت عنوان “”Kurdên Nejibîrkirinê، هودّنغ، ميزوبوتاميا، 1944.
– حياتي الكردية، مقدمة بقلم جيلبرت فافر زازا، لوزان، فافر، 1982.
– حكايات وقصائد كردية، كتبها وأعدَّها المؤلف، رسوم توضيحية لجان كلود رويلر، لوزان، شعوب وإبداع، 1974.
– ممي آلان، كردستان، تنظيم المناضلين والثائرين، 1973.
– دراسة نقدية لمفهوم الالتزام لدى إيمانويل مونيه، جنيف، دروز، 1955، 107 ص.
وفي هذا المقام الوارف الظلال، أحاول إضاءة بعض مما عرِف به الراحل الكبير، وفي سياقات مختلفة، عن كتاباته ذات الصبغة الفولكلورية، وعن قصصه، وأنا أورد مقاطع مما كتبته ونشرته الكترونياً تحت اسم: نورالدين زازا: قوس قزح “قصص، مع تقديم” متطرقاً إلى عالمه القصصي، ومن ثم ترجمتي لتقديمه للملحمة الشعبية الكردية “مم آلان” والتي ترجمها إلى الكردية، حيث أورد مقتطفات منها هنا، ومن ثم عما كتب عنه، والإصغاء إلى صوت زوجته العظيمة جيلبرت عبر كتابات لها، والوقوف عند بعض النصوص والصور ذات الصلة به، وهي تنشَر للمرة الأولى هنا، وفي أغلبها تكون بالفرنسية، وهناك كتابات وإشارات بالكردية وبالتركية، تعريفاً وشرحاً، والكتابة هنا بالعربية، فنكون في نطاق لغات أربع، وما لهذا التلاقي من تأكيد على علو كعْب مَن غادرنا قبل “32” عاماً، إنما لا يزال مقيماً، بأثره العصيّ على الإمحاء.
======
من تقديمة للملحمة الشعبية “مم آلان”.
بدءاً من جبال ديرسم حتى لورستان، وفي كل مكان من كردستان، نجد(مم آلان)، على كل شفة ولسان: الصغار والكبار، العجائز والكهول، النساء والرجال، خصوصاً في ليالي الشتاء، في دائرة كانوا يتحلقون حول الحكواتيين، ساعات طوالاً، مسحورين مندهشين، وهم يصغون إلى أغنية مم آلان هذه.
هذه الحكاية الكردية المصاغة صياغةً مثلى حتى الآن، غير متداولة بين الكرد كتابةًً. الأوربيون قبلنا، عرفوا أغلبها، واستحثوا الخطى، سعياً وراء ملحمة الحب الجميلة والعفيفة هذه، والتي تتضمن جسد وروح مزايا الشعب الكردي الأبرز، ليجعلوها في متناول قرائهم. إنهم معدودون، هؤلاء المستشرقون الأوربيون الذين انشغلوا بـمم آلان: يأتي في مقدمتهم ا. سوسنA. Sosen ، حيث إنه في سنة 1890، وفي مدينة بطرسبورغ (الآن هي لينينغراد)، كتبها بالألمانية واللهجة البوطانية، ونشرها في أوربا. وجاء من بعده فون جوك Von Coq، وذلك في ألمانيا، وفي سنة 1903، إذ طبع نسخة أخرى من مم آلان،. بين سني 1906- 1909، ليأتي ألماني آخر بعد ذلك، تحت اسم أوسكار مان Oskar Mann، وفي برلين، وباللهجة الموكرية واللغة الألمانية، فضم مم آلان، إلى مجموعة حكايات كردية أخرى، مثل”خان دمدم”، وليجعلها في متناول قرائه الألمان بدوره.
ثمة مستكرد آخر، هو هوغو ماكاش Hugo Makaş، في سنة 1926 ومن لينينغراد ثانية، قدَّم مم آلان، للقراء الأوربيين. وفي سنة 1936، سعى بعض الكتاب الأرمن المهتمين بالثقافة الكردية، إلى نشر مم آلان بالكردية، في يريفان، في أشكال ثلاثة مختلفة.
بعد ذلك، وفي إثر الجميع، في سنة 1942، برز مستكرد فرنسي، هو روجيه ليسكوRoge Lescot، وبعد عمل سنوات أربع، وبمساعدة المرحوم الأمير جلادت بدرخان، نشر مم آلان، في بيروت، إثر ترجمتها إلى الفرنسية. وهذا الكتاب لم يتم تداوله بين الكرد، إنما يتوافر في نسخ منه عند البعض منهم، ولكن النسخة هذه، هي الأفضل من بين جميع النسخ الأخرى.
من أجل تدوين هذه الحكاية، استمع ليسكو إلى أكثر من عشرين مغنّياً: لا أحد منهم، تمكَّن من سردها كلها، والسبب يعود، وكما يقول ليسكو، إلى أنه بغياب أمراء الكرد وآغواتهم، ووجهائهم، لا يبقى أي حضور للمغنيين الكرد المحترفين في الساحة (إذ ارتبط تواجد هؤلاء، بوجود أولئك” توضيح من المترجم”)، ويبقى مكانهم شاغراً، ولو أننا، ومنذ اليوم وفيما بعد، إذا لم نهتم بفولكلورنا (كل ما يخص فنون وآداب الشعب المتوارثة)، فإنه سيضيع.
هنا، يمكن التوقف عند ليسكو: فهو بعد أن أصغى إلى الكثير من الحكواتيين، ودوَّن كل ما تفوَّهوا به، توصَّل إلى حكواتييْن آخرين، أحدهما، هو: ميشو البرازي Mîşo yê Berazî، والثاني، هو: صبري المهاجر Sebriyê Mihacir والموجود في بيروت. وحدهما هذان الحكواتيان، في النهاية، مَن لفتا نظره، أكثر من البقية، حيث إن أغلبية الحكاية، أُخذت من ميشو، تلك التي اكتملت، على يديه، اعتماداً على صبري وبقية المغنين الآخرين.
بهذه الصيغة، قد تكون مم آلان ليسكو، أكثر دقة وموضوعية من الصيغ الأخرى.
لكن ثمة ملاحظة تنقّص منها، وتتجلى في عدم نقاء لسان ميشو، إذ تبرز كرديته كثيراً تحت تأثير العربية والتركية، إلى درجة أنه أحياناً، يخرج عن نطاق الكردية تماماً، لتستحيل لغةً أخرى.
إن ما يهمنا القيام به الآن، هو أننا نأخذ بـ: مم آلان ليسكو، ونحن نحاول قدر مستطاعنا، تنقية لغته الكردية، ونطبعها إلى جانب لوحات تزينها، وندعها بالتالي في متناول أيدي قرائنا.
وكما ترون، فإن جهدنا لم يمتد لسنوات، إنما استمر، شهوراً عدة. إن ما أنجزناه، مهما بدا ضئيلاً أيضاً، نعتقد أنه سيفيد شعبنا، وكلنا أمل في أن قراءنا، وخصوصاً الذين هم على تماس معه، ويعيشون في وسطه، سيحتفون بهذا العمل المتواضع الذي قمنا به، أي ضرورة أن يتعرفوا إلى الكم الكبير والثري من فولكلورهم، ويجمعوا الأغاني والحكايات والملاحم والأساطير الشعبية، ويطبعوها، بعدئذ، ذات يوم.
لنتوقف عند مم آلان: إذ عندما يدقق أحدهم، في هذه الملحمة، تستوقفه أسئلة كثيرة، ويبحث لها عن أجوبة. إن أثراً مُهماً كهذا، يتطلب قراءة معمقة ومتأنية، حتى يجري تحليلها ودراستها بدقة.
يعززنا أمل، وفي المستقبل القريب، أن تكون هذه الملحمة، والكثير من مثيلاتها، في مدارسنا وجامعاتنا، مقرَّرة للقراءة والتفسير.
راهناً، وبحسب معرفتنا وتذوقنا الأدبي، سنركز على القضايا التالية:
أ- القضايا التاريخية:
وفي مقدمتها أولاً، ما يخص معرفة عراقة هذه الحكاية. إن أصولها تسبق ميلاد المسيح كثيراً، أما ما بني عليها حكائياً، وبأشكال كثيرة، فلا يمكن حصره. إن أحمد خاني، بذاته، هو من اقتبس فكرة (مم وزين)، من مم آلان،، وغيَّر فيها أشياء كثيرة. وصاغها بلغة أدبية فائقة الوصف، لكن للأسف الشديد، فإنه قد أودع فيها موضوعات عربية وفارسية كثيرة.
لكن الشيخ خاني، يتركنا في حيرة، عندما يكتب، أن كل ما ورد طي مم وزين، هو نتاج فكره خياله فقط. يقول قدوة الشعب الكردي والشاعر هذا، في مستهل ديوانه:
هي كرمة، إن لم تكن مروية
وبالقدر ذاته كرمانجية
هي طفلة، إن لم تكن غضة
بضة، هي عندي حلوة جداً
هي فاكهة، إن لم تكن لذيذة جداً
طفلة، هي عندي عزيزة كثيراًً
محبوبة شكلاً ومضموناً
هي خاصتي وليست مستعارة
ألفاظاً ومعان ٍ وعبارات
إنشاءً ومبان ٍ وإشارات
موضوعاً ومقاصد وحكاية
مرموزاً ومناقب ودراية
أسلوباً وصفات ومعنىً ولفظاً
حيث لم أقترض شيئاً منهاً أصلاً
هي بالجملة حصيلة فكري
باكرة وعروس وبكر
لو أننا نعير انتباهاً إلى الأبيات هذه، لا بد أن نعرف، أن كل ما انبثق عن أحاسيس وأفكار شاعرنا المتفرد، ولم يظهر قبله في هذا المجال، أي حكاية أو ملحمة، يخصه. لماذا تكلم خاني هكذا؟ إننا نجهل الجواب الفعلي. لأن شاعراً كبيراً آخر لنا،، هو ملا جزيري، وهذا أقدم بكثير من خاني،، يأتي على ذكر مم وزين، ويخاطب محبوبته بالكلمات التالية:
شعرة منك لا أقايضها بمئتي زين وشيرين
ماذا يحصل، إذا وضعتني إزاء فرهاد ومم
إن موضوع مم آلان، هو أقدم بكثير من تاريخ جزيري نفسه. من وجهة نظر المؤرخ الدانماركي الذائع الصيت في الشأن الإيراني “كريستنسن Krîstensin” يظهر أن ملحمة مثل مم آلان، موجودة منذ ألف سنة قبل ميلاد المسيح، حيث انتشرت كثيراً بين الشعوب الآرية، وثمة كاتب يوناني، هو شاريه ميتيليني Mîtîlenî Charês، كتب حكاية كهذه، قبل ميلاد المسيح بخمسمائة عام، وكريستنسين، ينقل إلينا، باختصار، حكاية شاريه، هكذا:
(في زمن ما، كان هناك أخوان، الكبير كان يُسمى هيستاسبيس Hystaspês، أما الصغير فكان يسمى زاريادريس Zariyadrês، ويقال عن أنهما كانا ولدي أدونيس وأفروديت2.
الأخ الكبير كان يحكم ميديا وبلاد أواسط ميديا، وزاريادريس بدوره، كان يحكم بدءاً من شمال بحر هزارHezar(هو بحر قزوين)، حتى نهر تونا Tona (هو نهر الدون)، وبدءاً من هذا النهر، إلى الأعلى منه، كانت تمتد بلاد الماراتان Maratan، وملك هذه البلاد هو هومارتيس Homartês، وكان عنده ابنه آية في الجمال، تسمى اوداتيس Odatîs.
ويقال أن أوداتيس ذات ليلة، تلتقي في منامها زاريادريس، حيث تُغرم به، ومن جهته، فإن هذا، يلتقي بها في منامه، ويهيم بها. الاثنان وحّدهما العشق، عشق المنام الليلي، ليخلصا لبعضهما بعضاً. اوداتيس كانت جميلة نساء آسيا، وزاريادريس منتشر الصيت شهامةً.
زاريادريس، يرسل أحد رجاله، إلى والد فتاته هومارتيس، طالباً منه يد ابنته تلك، إلا إن ملك ماراتان لا يوافق، كونه بلا ولد، وكان يرغب في تزويج ابنته من أحد أقاربه.
ذات يوم، يدعو والد اوداتيس جميع أقاربه، وأمراء ووجهاء البلاد، إلى اجتماع كبير، دون أن يُعلم أحداً بموضوع الزواج، وبعد أن أخذ المدعون كفايتهم من الطعام والشراب، ينادي هومارتيس ابنته، ويقول لها اوداتيس: بنيَّتي، نحن الليلة، نقيم حفل زواجك. انظري حواليك، وتمعَّني في الضيوف، بعد ذلك، ما عليك إلا أن تملأي كأساً من الذهب شراباً، وتقدميه للرجل الذي تحبينه ليغدو زوجك، وتكوني عندها زوجته”.
قبلها بمدة، كانت قد أعلمت آسر قلبها، أن يوم عرسها بات وشيكاً، وبدوره هيأ زاريادريس نفسه بصحبة حوذيّه في الحرب3، ويخلف معسكره وراءه، متجهاً صوب قصر اوداتيس. بعربته الحربية، يعبر بلاداً كثيرة، ويقطع مسافة طويلة. وعندما يبلغ مشارف مدينة اوداتيس، يترك عربته مع حوذيها، في مكان ما، ويحث الخطى تجاه مكان الحفل. وعندما يصبح في الداخل، يبصر اوداتيس واقفة أمام الضيوف. الفتاة كانت تملأ الكأس بتباطؤ، وهي تبكي. يتقدم منها، وبصوت خافت يقول لها:” أوداتيس، عزيزتي، لقد جئت بناء على طلبك. أنا زاريادريس”.
برؤية هذا الأجنبي الجسور، الذي كان المثال الحي لما رأته في منامها، ضحكت الفتاة، وبقلب يفيض فرحاً، وضعت الكأس في يد زاريادريس، فيأخذ منها الكأس، ويقربها من فمه، بعدها يمسك بكتفي الفتاة، ويخرجها من القصر، ويذهب بها إلى حيث كانت عربته، ويهربان.
الخدم والحشم والجواري علموا بحبهما، تصرفوا وكأنهم لم يرووا شيئاً. وعندما سألهم هومارتيس عن ابنته، لم ينبسوا ببنت شفة، وقد وقفوا بلا حراك).
خلاصة حكاية شاريه تبلغ هنا نهايتها،، يقول شاريه ميتيليني، عن أن كل حكماء أواسط آسيا الوسطى، كانوا يحبون هذه الحكاية كثيراً. كانوا يزينون جدران المعابد والقصور والبيوت بمجريات أحداثها، وكان أغلب الملوك والأمراء يسمون بناتهم بـ: اوداتيس.
بحسب الرواية الإيرانية القديمة، يضع كريستنسن بضع ملاحظات على حكاية شاريه: يبدو جلياً، أن هيستاسبيس كان فيشتاسبا Vîştaspa، واسم زاريادريس حل محل اسمي ولدي لوهراسب Lohrasp، زاريفاري Zarîvarî. لقد وقع زاريه Zarêr تحت تأثير ما كتبه شاريه. ولوراسب وابنيه، لم يحكموا ميديا أو الغرب، وإنما شرق إيران، ومن وجهة نظر المؤرخ الدانماركي كريستنسن، وكما هي حال الكثير من الحكايات والملاحم والأساطير الإيرانية، فإن هذه الحكاية بدورها، انتقلت من الشرق إلى الغرب.
مهما يكن، فإن الجلي للنظر، هو أن في رواية شاريه اليوناني والملحمة الكردية يوجد الكثير من أوجه التشابه: إن مم وزاريادريس لا يختلفان عن بعضهما بعضاً كثيراً، فإذا كان زاريادريس ابن أدونيس وأفروديت، فإن بطلنا بدوره، قد ظهر إلى الدنيا بمعجزة، وأن حصانه الأشهب الرهوان، ذو ميزة أسطورية.
وعلاقة القربى ما بين زين واوداتيس، الأمير أزين Ezîn وهومارتيس، بنكين Bengîn وحوذي زاريادريس، تكون واضحة بسهولة.
وكما يقول شاريه، فإن هذه الحكاية، انتشرت بطريقة مأثورة في أوساط الشعوب الآسيوية القديمة كافة، وبدون شك، فإنها كانت انطلقت من داخل الإيرانيين. أما من جهة أي شعب إيراني، فهذا ما لا نعلمه. ما هو صريح، إذا كان موضوع الحب، هو في أساسه، واحد، لدى هاتيك الشعوب كافة، فإنه، زمن ظهور هذه الملحمة، عند الكرد، اتخذ سيماء أخرى، لقد استحال اسلامياً وكردياً محضاً، إذ شيئاً فشيئاً، تتبدى اسلامية الحكاية للعيان، من خلال تغيير ملك الجان مع الخوجه خضر.
لقد دخلت الحكاية بجوهرها الكردي في قالب آخر.
قبل أي شيء آخر، في ملحمتنا، يكون الرجال أكثر: العمان وخال مم، الجان Perî، والخوجه خضر، بكو Beko وابنته، سيتي Sitî، والمير شمShem ، أببوز Ebeboz، والتاجر الكبير، والأكثر أهمية، هم الأخوة الثلاثة الجلاليون. بإدخال بكو والجلاليين، أبرز الحكواتيون الكرد مهارة مأسوية كبيرة، وفكرة فلسفة الكرد القديمة: الحرب ما بين الفضيلة والرذيلة، وفي النهاية، العمل المشترك لأصحاب المساعي الحميدة، في تسييد الفضيلة على الرذيلة، حيث لم ينسوا ذلك، ولم يبتعدوا عما هو مأثور روحي لشعبهم.
ب- من الناحية الأدبية:
كثيرة هي الأمثلة مما ذكرنا في مم آلان، في كل الأغاني والملاحم والحكايات الكردية، وتلك هي: في اللغة الكردية توجد كلمات صائتة، حيث بالصوت الذي يخصها تكون جلية، يقال لها بالفرنسية Homonthopées (وتعني الجناس: دلالة اللفظ على المعنى)، مسائل كثيرة في الأدبيات التي إذا تحددت، تكون مؤثرة كثيراً فنياً، وراسين أحد هؤلاء التراجيديين الفرنسيين الكبار، في مسرحيته (اندروماك)، كتب هذا البيت: هذه الأفاعي التي تصفّر فوق رؤوسنا ماذا تكون؟(ص13).
هنا، كردياً، لا صدى للأسئلة البتة، لكن الكلمات الفرنسية تصدر صوتاً كهذا، حيث يُسمع من خلالها فحيح الأفاعي بجلاء، فوق رؤوسنا، وكذلك فإن ذلك يثير وجود ومخالطة الأفاعي فوق رؤوسنا، هيجاننا أكثر، هذا البيت المذكور في الأدبيات الفرنسية ذائع الصيت كثيراً. في المدرسة، عندما يريدون إظهار روعة كتابات راسين إزاء هذا البيت، فإنهم يسمون مثالاً واحداً، ويتناقشون حوله ساعات وأياماً، لكن بالنسبة لنا في فولكلورنا، فإن في أموراً كهذه تكون مرئية بزخم، مثل: جرت صلصلة السيوف، وصرير الحبال، ويصدر عنه فحيح الأفاعي، وطرطشة الأسماك، ولو أن أحدهم يبحث في ذلك، لعثر على أمثلة كثيرة.
لكن، للأسف، ثمة مسائل كثيرة، مشتركة بأصواتها، لا تأتي تبعاً،. لكن مؤكد أنه توجد مقاطع من أدبياتنا الشعبية الأخرى، إنما يجب التركيز عليها وحدها والسؤال عنها.
ج- من ناحية القضايا الاجتماعية
من الناحية الاجتماعية، يعلمنا مم آلان بالكثير من الأمور، ويدعنا حيارى في مواجهة أمور أخرى.
قبل كل شيء، يعرفنا ببلدة الجزيرة القديمة: نرى أنها كانت بلدة كبيرة جداً، وتجارية، وكان فيها خمسة وعشرون حياً، وقصور وأملاك، وكبار التجار الأثرياء. الأمراء أو مشايخ تجارهم، كانوا يتاجرون بالمال في شتى أصقاع الأرض. الشيء المفيد هو أن تجار الجزيرة بذاتهم، كانوا أصحاب مكانة حميدة، وأن كبار أغنيائهم، كانوا يخاطبون مم هكذا:
الليلة كن ضيف عمك
سأفتح لك دكاكين ومخازن
فإن لم ترض سأفتح كنوزاً ومخازن
احمل ما شئت من المال
فقط بإشارة موجهة من إصبعك لعمك
سأملأ ذلك المكان مالاً وذهباً
سأحقق لك مراد قلبك
الحال هي هكذا: تأمين المال، ومن ثم صرفه كرمى الكرماء
لكن مثل جميع تجار العالم، فإن قوة الـ “عم” أيضاً في ماله ونقوده، عندما يعلم أن مشاكل مم تُحل، من خلال قتل الرجال، ينسحب سريعاً من الميدان، ويتنحى جانباً، لكن من أجل ما هو انساني، فيما يخص المال والنقود، في الحال، يندفع إلى الأمام.
ثمة شيء آخر، يتبدى للعيان: سابقاً، كان الكرد يقدرون المرأة أكثر مما هي عليه الآن. عالم الاجتماع يعلمنا أنه سابقاً، كانت القيادة للنساء، ولهذا التنظيم، كان يقال “المترياركية”، أي سلطة الأمهات، كانوا يقولون وقتذاك، أن الأطفال المولودين يُحسبون على الأم وليس الأب، ولم يكن من حق للأب فيهم. في البيت ذاته، حتى داخل العشيرة أيضاً، وبعد ذلك في الدول نفسها، كانت السيطرة للنساء، وهنا، لا يمكن الكتابة مطولاً بهذا الخصوص، إنما يمكن القول باختصار، إنه بعد تقدم المجتمع، انتقلت السيطرة من أيدي النساء إلى أيدي الرجال، ويقال لهذا التنظيم “البطرياركية”، أي سلطة الآباء.
في هذا التغير، صارت المرأة تدريجياً عبداً للرجل، ودانت له، وعند بعض الشعوب، كاليونان واليهود والعرب والهنود والصينيين، مثلاً، ساء وضع النساء تماماً، وأُبعدت المرأة عن جماعة الرجل، وفي البيوت تأطَّر مكان خصوصي لها.
بعد أن صار الكرد مسلمين، قبلوا بالكثير من العادات العربية، وتخلوا عن الكثير من عاداتهم القديمة.
منها إلباس المرأة الإيشارب والحجاب، وإبعادها عن العمل الجماعي. هذه العادة بذاتها لم تتأصل في القرى ووسط العشائر.
=====
قصصياً: نحو البداية الغائبة والمغيَّبة
ما الدافع وراء جمع ومن ثم ترجمة قصص الدكتور نورالدين زازا 1919-1989، عن الكردية وفي كتاب واحد، وتحت عنوان محدد، ليس من عنده طبعاً، ومن خلال مقدمة طويلة نسبياً، وفي هذا الوقت بالذات؟
ربما كان الجواب الأكثر اقتضاباً، هو: لأن زازا عندما توفي، وفي نفسه وروحه حسرة من وطن تمنَّاه حقيقةً جغرافياً موحدة، ومن مجتمع ارتضاه كياناً ديموغرافياً متعدد الأصوات، متناغماً في مكوناته الثقافية، وفي دولة يعرّف بها سلوكها السلطوي: مؤسساتية، كما يجب، يكون الكرد أناساً معترَفٌ بهم، كغيرهم من البشر في المعمورة، ويدرك هؤلاء ما هم عليه، ما يمكن أن يكون لهم ولغيرهم، رغم كل ذلك، بقي البعيد عن وطنه، مضاعفاً فيما تمناه، وعن أناسه ومراده الأرضي، لأنه لم يستطع الاستمرار في الحياة داخل وطن ارتسم في مخيلته، ولأنه أُوغل في النسيان الوظيفي التحزبي والمكائدي والقيمي المتداول كردياً، حيث كان الإبقاء عليه منسياً، أو طي النسيان المقصود، أفضل من تداول اسمه، والتوقف عنده، لأن في ذلك استثارة لأسئلة ولمواقف، يكون في غنىً عنها، كل الذين يعرفون هذا الجانب المعتَم عليه، ولهذا ليس في ترجمة قصصه ونشرها في كتاب، مع مقدمة نقدية عنها، إضافة إلى ترجمة مقدمته الطويلة نسبياً لـ (مم آلان)عن الكردية، وإرفاقها بالكتاب، بغية تذكير مستحَق، بمعروف لـه، متعدد المناحي: تاريخي وثقافي وانساني وقومي معتبَر، وليكون في متناول من يهمه زازا، على الأقل، في بعض مما كتبه، أو تركه شاهداً على شخصيته التاريخية والفكرية والأدبية، بعيداً عن أي احتكار تحزبي، أو فئوي، كما أشدد في ذلك كثيراً، من خلال الواقع الشاهد على ما تقدَّم، وليُقرأ بأكثر من لغة بالمقابل.
يمكن التعرف إلى د. زازا، على الصعيد الأدبي، من خلال قراءة قصصه المترجمة هنا، أو الرجوع إليها في المصدر المشار إليه كردياً، ومكاشفة العالم الفني، أو الرؤية الإبداعية عنده، وكيف ينكشفان رحابة أفق، ولا أظن أن ثمة قصة، يمكن النظر فيها دون مستوى اسمها، وكأنها في مجموعها، كُتبت بنوع من الدقة وبعد دراسة متأنية:
ثمة ما يجمع بين الجانب الانساني والقومي، كما في (خورشيد، الخروج، قوس قزح، عظات أحمد خاني).
ثمة ما يجمع بين الجانب الاجتماعي والقومي، كما في (Gulê، النجوم، البؤس، مبتغى بريخان).
ثمة ما يركز على الجانب الانساني العام أكثر، كما في (للشباب، الحسناء أم النمر، الأم أم الأخت)!
ثمة ما هو قريب منه، من جهة الكتابة، أو اختيار الموضوع، كما في قصة (الخروج)، ومن جهة ما كان يعانيه أو يعيشه، كما في (قوس قزح، البؤس)، وما كان ملحوظاً من قبله، كما في (خورشيد، Gulê، النجوم، مبتغى بريخان)، وما كان نتيجة دراسة وتأمل، كما في القصص المتبقية الأخرى.
وإذا أدخلنا الجانب الجنساني(من حيث الذكورة والأنوثة)، فإن ما قدمه في (Gulê، النجوم، مبتغى بريخان)، يشكل موضوعاً جديراً بالدراسة، وكيف كان زازا، ينظر إلى المرأة ويتعامل معها، وحتى إن اختياره لكل من القصتين (الحسناء أم النمر، الأم أم الأخت)، يفصح عن معايشة نفسية مؤثرة مع المرأة.
أما إذا انطلقنا من الاعتبار العمري، فيمكن تتبع ذلك، من خلال تنوع القصص، على قلتها في حياته، وفي الفترة تلك، وكأنها روعيت بدقة أخرى:
(خورشيد)، وصِلتها برجل كبير يموت ابنه، وعلاقته بملا القرية، وسلوكهما الاجتماعي الرصين.
(الخروج، للشباب، النجوم، الحسناء أم النمر)، وصلتها بالشباب، والعالم العاطفي والفكري المتشكل داخل الكائن.
(قوس قزح، مبتغى بريخان، عظات أحمد خاني)، والتركيز على الطفولة، وكيفية تجلي العالم من خلالها.
(البؤس، الأم أم الأخت)، وعلاقتها بمجتمع كامل، على الصعيد القيمي ومتحولاته.
طبعاً، لا بد من التأكيد بدايةً، على أن هذا الفصل ليس قطعياً، وكأن كل قصة أو أكثر، تندرج في عداد مجموعة قيمية، أو خانة قيمة محددة، فلا قصة محددة، يمكن تثبيتها هكذا، إلا من جهة بروز عنصر أكثر من سواه.
وحتى لو أننا تمعنا في مجموعة القصص هاته، لرأينا أن قرابة نصفها لا تعود لـه، إنما هي مقتبسة، كما في (الخروج، النجوم)، ومحورة أو مأخوذة من سواه، كما يذكر هو نفسه من آداب أخرى (للشباب، نموذجاً)، ومترجمة، كما في قصتيْ ستكتون (الحسناء أم النمر، الأم أم الأخت).
هل من مقاربة نقدية معينة لهذا التوزيع أو التخصيص القصصي؟
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى حقيقة، تظهر لنا جلية، بخصوص القصص المذكورة، وهي أن وراءها قارئ متابع لما يعنيه ثقافةً، على الصعيد القومي، كما في حال (عظات أحمد خاني، مبتغى بريخان،قوس قزح.. الخ)، وعلى الصعيد الثقافي الانساني العام، كما في حال القصص المقتبسة والمترجمة، وهي فرنسية (الخروج، النجوم)، وأخرى انكليزية مشار إليها أيضاً (للشباب، الحسناء أم النمر، الأم أم الأخت). إنها ثقافة متعددة المصادر. ولعل انتماءه البيئي الاجتماعي المتنقل هو الذي أكسبه هذا التنوع في القراءة، وعمَّق الرؤية الابداعية لديه، وكذلك الشعور بأهمية الأدب، ناهيك عن الجانب الفكري وغيره، في التعبير عما هو معاش اجتماعياً، أو في إدراك دور ومن ثم خطورة ما يعيشه ويسطره الكاتب الفعلي، كما تأكَّد عنده، وهو في مطلع العقد الثالث من عمره، حيث تشرَّب ثقافة تنتمي إلى ما هو كردي وتركي وعربي، وضمناً الثقافة الفرنسية، عندما تعلَّم في حلب، بعد خروجه القسري مع أخيه نافذ من الجزء الأكبر من وطنه، وكان الفرنسيون وقتذاك يحتلون سوريا، ويحاولون فرنَستها: لغةً وثقافة، ويبدو أنه أيضاً كان عارفاً بالانكليزية، وإلا ما كان لـه أن يورد قصة، يعتمد فيها على الانكليزي ادوارد كيبلنغ، وقصتين أخريين للأمريكي فرانك ستكتون، وما في ذلك من إبراز لحركية الذائقة الأدبية: النقدية والقصصية وغيرها، وهو في العمر ذاك.
أما بشأن السؤال المطروح، فإننا لا نملك ما يدعمنا لاعتماد أي تصور، بصفته أطروحة نظرية أو فكرية، لمكاشفة ذلك التجلي الآني والقيّم قصصياً، ثم اختفائه، لا مصادر مباشرة، ولا إحالات مرجعية تخصه، سوى كتابه (سيرتي الكردية)، وكما ترجم إلى العربية نقلاً عن الفرنسية (حياتي الكردي، أو : صرخة الشعب الكردية)، والدلالة العميقة انسانياً وقومياً للعنوان المسطور، إذ إنه يعلمنا كيف عانى داخل المدرسة وخارجها، وصادف وجوهاً وعوائق اجتماعية في المحيط الكردستاني المجزأ، وخارجه، لهذا بدت القصص تلك (حتى اللحظة)، أشبه بواحة خضراء داخل صحراء، من جهة الكم المحدود والجلي قيمةً أدبية. لكأن طغيان السياسي، وضغط المعاش الاجتماعي والسياسي معاً بالتالي، لم يدعاه مع نفسه، مع متخيَّله، مع ذاته المرهفة، ليقدم المزيد مما تركه لقارئه.
إنني أعرف أن ثمة كتابات كثيرة، كثيرة، بما لا يقاس، تخص هذا المتنور عالمَاً ونفساً، لم يُشر إليها، وفي مختلف المجالات، وخصوصاً في المجال الأدبي، وأرى في السياق هذا، أن الذين كانوا يحوطونه يتحملون وزر هذا الكم المفترض، أو المتوقع، وفق مقروئه النفسي والثقافي، حيث يضاف ذلك، إلى قائمة أمور أخرى تخص علاقته بالمعنيين به.
فقط، ثمة مقدمة طويلة نسبياً، كتبها للملحمة الشعبية (مم آلان)، ونشرها سنة 1973، وهي في حد ذاتها، وبدورها مدعاة للتساؤل، فالتاريخ المدون، يعني أنه كان في سويسرا وقتذاك، أم إنه كتب المقدمة قبل ذلك؟ لكنه في الحالتين، يثير تساؤلاً أهم وأخطر، هو لماذا لم يصرّح باسمه؟ ما الذي أبعده عن اسمه الصريح، واكتفى بكاتب قصة، أو قاص، هكذاçîroknivîs ؟ هل كان اهتمام أحدهم بالحكايات، كان ينعكس سلباً عليه، بصفتها عائدة إلى ما هو شعبي، وأن هذا (الشعبي)، كان يقلل من مكانة الكاتب، خصوصاً على الصعيد الاجتماعي أو الطبقي وقتذاك؟
ربما كان الاسم الحركي الذي اعتمده في كتابة قصصه (نور الدين أوسف)، مبرّراً في ذلك الوقت لأسباب أمنية، بالدرجة الأولى، أما في الحالة الثانية، فثمة ما لا يمكن الركون إليه باعتباره الجواب الشافي، لسبب هجرانه كتابة القصة، وبسبب اعتماد لقب، أي اسم هذه المرة، سوى بالتركيز على الحالة النفسية الضاغطة عليه، سواء إزاء محيطه، أو إزاء الثقافة التي تميَّز بها، ولاقى صداً من كثيرين حوله:من الكرد المعنيين بالقضية، وكموقف من كل ذلك مجتمِعاً.
إن التدقيق في مجتمع قصصه من جهة التمثيل والتجسيد الرمزي، يقربنا من زازا الأديب والمفكر والسياسي!
لمن كتب قصصه هذه، وكيف كتبها بالطريقة هذه ثانيةً، من خلال البنية التوزيعية لها، وجهة مضامينها؟ هل كان يريد بذلك تأكيد ذاته ككاتب موهوب، وككردي ضمناً، أم إنه أراد إغناء الثقافة التي لطالما رُفضت باعتبارها غير موجودة كحقيقتها من ناحية اللغة والتعابير ومَن يمكنهم أن يكونوا رموزاً فيها، أم ليعبر عما كان يريد أدبياً؟
في محاولة للإحاطة بما تقدَّم، يمكن وضع الاحتمالات كافة في خانة اعتبارية واحدة نفسياً، لأنه، وهو في بداية شبابه، كان أميل إلى القصة من جهة العاطفة، وقدرتها على تمثيل الكثير من الوقائع، والظهور فنياً من خلال صور، تخلّد مشاهد حياتية، أو تركّبها لتكون موسومة بالواقع الذي يعيشه زازا: الواقع المعاش، النفسي، المتخيَّل، النقدي الرمزي.
نموذج مختار: قصة: قوس قزح
سنة 1925، كانت بداية عهدي بالمدرسة، لكنها المدرسة التركية.
في شهر شباط،شباط المتقلب، في أعلى الشمال من البلاد، في الكثير من البقاع، كان الثلج كجدائل عروس، ينزاح عن وجه الأرض، تاركاً المجال لتجلي رواء عشب و زهر الربيع، كان يرينا إياه بكل رونقه.
لكأنما الشتاء بدوره، أحس بدبيب شيء جديد، وسريعاً ارتد إلى الوراء، وأحل محل البرد الثلج والإعصار، مسلماً إياهما لدفء غيم الربيع.
في هذه الأيام بالذات، كان ثمة بلبلة قائمة في البلدة: في البيوت كان الكبار،دونما روية، مأخوذين بالكلام،وهم في ضحك وحبور. النساء كن يعشن خوفاً ورعباً، وما كن منشغلات كثيراً بالأولاد. العسكر كانوا يداهمون بيوت الكرد، ينصبون رشاشاتهم على أسطحها.
في المدرسة، كان التلاميذ الكبار يتلاقون، وهم يتفوهون بأشياء كثيرة مثل: “الحرب… الكرد… الترك…السلب…”، أما نحن الصغار، فقد كنا نتبعهم، ودون إدراك منا، كنا سعداء بسماع الأخبار تلك.اللعب والدرس، كانا غير مرغوب فيهما. قضايا مثل “الحرب… المدافع… البنادق…القتل…المجيء”، كانت تسكرنا.
المعلمون الذين كانوا تُركاً في مجموعهم، بدوا بائسين، في الشعبة الصفية كانوا في حالة حيص بيص. يتكلمون على غير هدى. في الوقت نفسه، لم تكن تُسمع الأغاني التركية، والعلم التركي لم يكن يُنصَب على المدرسة.
الخوف والتجوال كانا في تصاعد مع مرور الأيام: المسؤولون كانوا يناشدون وجهاء الكرد حمايتهم، ويطلبون الأمان منهم.
العسكر كانوا يلوذون بالفرار تاركين وراءهم مدافعهم وأسلحتهم. أولو أمر البلدة، الذين كانوا سابقاً يكايد بعضهم بعضاً، تصالحوا، وهم يسلّمون السلاح للمقربين منهم.
المدرسة أُقفلت، والمعلمون اختفوا، الفتية الذين تراوحت أعمارهم بين العاشرة والخمسة عشر عاماً، حملوا الخناجر والمسدسات. عبارة “قادمون”، كان الجميع يتفوهون بها. كلٌّ منهم كان منزوع الصبر.
ذات يوم: “جاؤوا… اقتربوا… الكرد جاؤوا..”،هكذا كانوا يقولون. الشباب والرجال بأسلحتهم، بالدف والزرنا، البعض ركوباً، والبعض الآخر مشياً، بالآلاف كانوا هاتفين: عاش الكرد… عاشت كردستان… عاشت الحرية… خرجوا من البلدة، قاصدين عسكر الكرد، الذين يتبعونهم في كل مكان….!، ومن بعيد كانوا يدخلون الخوف في قلوب الأعداء. النساء والأطفال كانوا خارجين على أسطح البنايات: البعض منهم كانوا يصدحون بأغاني الحرب، والبعض كانوا يديرون الدبكة.. الصغار كانوا يلهون بمسدساتهم الخاصة بهم، ويُركِضون الخيول. كلٌّ كان ثملاً وفاقد الرشد سعادةً.
كانوا يتحدثون عن يوم جديد، وعن حياة زاهية.
بعد فترة، دخل الفرسان لابسين القبعات والأشمخة والشال والشابك كالبرق، وتوجهوا مباشرةً صوب سراي الحكومة.
في السراي بان شيء ملون. في اليوم ذاك، تساقط مطر خفيف، بعدها، حيث أشرقت الشمس، ارتسم قوس قزح عالياً في السماء، اعتقدنا أن المنصوب على السراي كان قوساً من أقواس قزح السماء.
تحلق الناس حول السراي. نحن الصغار أيضاً اندفعنا إلى هناك: ذلك الشيء الملون كان مرفوعاً يعلو رؤوسنا. لكنه لم يكن قوس قزح السماء.
كنت نافذ الصبر… بحثت عن أبي. العسكر كانوا صفوفاً، كانوا يغنون أغنية، عيونهم كان ملؤها الضحك. أبصرت أبي على ظهر الجواد، توجهت نحوه، أجلسني أمامه. سألته: “أبي ما هذا القوس قزح أعلى السراي؟”
– بنَّي، هذا علمنا! إنه شرف وكرامة أمة الكرد!
– سابقاً كان هناك واحد أحمر، ماذا كان هو؟
– كان ذاك علم الأعداء. الأعداء اجتاحوا بلادنا بالقوة. نحن الكرد اليوم، نخرجهم من أرضنا لنكون أهلها! إليك بعلم صغير! اجعله لصق فؤادك! أحِبه، واعمل ليبقى مصاناً.
انتشيت بما قاله أبي، قلبي كان يخفق. قبلني أبي، ومن ثم أنزلني أرضاً.
* * * * * * * * * * * * *
طالما أن قوس قزح ذاك، كان يتماوج أعلى السراي وقلعة البلدة، كانت الدنيا تتراءى حولنا ربيعاً، جنة حقيقية. لكن ربيعنا استحال سريعاً شتاء أسودَ، واستحالت جنتنا جهنمَ مروعّة.
بعد شهور عدة، تغيرت حال المدينة. خوف كبير حل محل الحبور والراحة. لسوء حظ الكرد، ولأن البعض منهم، بسبب جهلهم، تعاونوا مع الأعداء، كانت خسارة الكرد. متعلمون كرد تحدثوا عن غدر وضغينة فئة من الكرد. هذه الحالة لم تدم كثيراً.
ذات يوم طوق الأعداء البلدة، وصوبوا علينا المدافع، وهم ينذروننا بضرورة الاستسلام. لكن المتبقين من المسلحين الكرد، والنساء والصغار والكبار والمرضى، تصدوا للأعداء.
أتذكر بعض مما جرى جيداً: في ذلك اليوم جرت حرب دامية وطاحنة. بعض الكرد ساعدوا الأعداء، لم يحاربوهم كما يجب، الأعداء كما الذئاب الجائعة اجتاحوا المدينة… قتلوا البعض في الحال، الصغار والنساء الحوامل أَعمَلوا فيهم الحراب. نصبوا المشانق للطاعنين في السن. البعض الآخر بالمقابل برفقة صغارهم ومتاعهم وجهوهم صوب مناطق مجهولة ومحظورة.
مزقوا العلم الملون، الذي هو رمز شرفنا وكرامتنا، رموه ليداس بأقدامهم، ونصبوا محله علمهم علم مصاصي الدماء. منعوا التحدث باللغة الكردية وكذلك تداول الأغاني الكردية، وأدخلوا الرعب إلى نفوس العباد.
ها قد مرت ستة عشر عاماً، وكردستان محكومة بالوضعية ذاتها، وطوال الستة عشر عاماً بالمقابل، لازال العلم الملون يتماوج، في قلبي وفي قلوب آلاف الشبان الكرد.
لكي تبقى وصية الآباء والأجداد محفوظة، وننتقم لهم، ونعيد العلم الملون منصوباً عالياً فوق سرايات وقلاع كردستان، نحن الكرد بانتظار ربيعنا، في انتظار المطر مصحوباً بقوس قزح.
====
من داخل صور لنور الدين زازا، ومن خارجها: أحاديث وتداعيات أحاديث
كما أشرتُ في البداية، إلى أنني سأتوقف عند مجموعة نقاط، تخص مجموعة موضوعات، ربما تنشَر للمرة الأولى بالعربية، على الأقل، وبحسب متابعتي لها، وهي بعدة لغات، كما أسلفت، لها أكثر من قيمة توثيقية، ومن ثم تاريخية، ومنقولة عن موقع:
www.saradistribution.com
ذلك يمضي بنا إلى النهاية المفترضة هنا، مبتدئاً من مجموعة صور له، وتخص مراحل عمرية له، ومواقع، وتذكّر بمناسبات، وإشارات زمانية- مكانية، بمقدار ما تثير تصورات وانطباعات في الوقت نفسه، إلى جانب نصوص مكتوبة عنه، أو من خلاله، أشير إلى اللغة المترجَم عنها، إلى جانب تعليقي عليها، عندما أجد مدعاة لذلك، وكذلك بالنسبة للصورة، وما أعتبره مناسباً لتعليق ما، أو إضاءة ما من وجهة نظري، ترجمان رؤية داخلية معينة، والتعليق يكون بين قوسين وشارة “المترجم” تعنيني حصراً . .
بالكردية
أيها الكرد، إن لم تكن تريدون تشتتاً وضياعاً، فاقرأوا بلغتكم قبل كل شيء، وتعلَّموا به.
(صوت صارخ في البرّية، وسط صرخات عقيمة، لمن يحاولون التشويش عليه، كما لو أنه صوته ملحق بأصواتهم اللاأصوات، جهة المحتوى. والصورة لا تخفي تحدّيها، وخاصية التعرية لمن يقابله، من نوع مغاير طبعاً. المترجم).
=======
(صورة الطفولة ناطقة بصراحة نافذة، وكلمة الغلاف، مكاشفة كتاب بكامله، لكأنه من الطفولة يعيش كرديته المستدامة. المترجم).
بالفرنسية:
تتبَّع هذه الحكاية السيرة الذاتية لحياة كردي ، الشاهد والممثل لأحداث القرن العشرين تلك المرتبطة بالمسألة الكردية.إن نور الدين زازا المولود في بداية القرن وذلك في الجزء الكردستاني الذي تحتله تركيا ، يشارك في المصير الحافل بالأحداث للشرق الأوسط المعاصر. وحياته عبارة عن مغامرة لها أصالتها مع التقلبات والمنعطفات، عبر سلسلة كاملة من الشخصيات الصعبة والجذابة والقاسية. إن هذه القصة المكتوبة بشكل جيد للغاية تقدم أفضل من أي مقال عن المسألة الكردية تلك التي كان الرأي العام يقيسها منذ الثمانينيات.
أسس نور الدين زازا حزب البارتي الديمقراطي الكردستاني PDK مع القائد العظيم بارزاني وأمضى عدة سنوات من حياته في سجون شتى في الشرق الأوسط. وقد توفي عام 1988 في سويسرا حيث استقر وتزوج أخيراً. وزوجته الصحفية جيلبرت فافر- زازا، هي من أعدت هذا الإصدار .
=======
(من المؤكد أن الصورة هنا غير التي هناك، جهة التعبير، وإبلاغ المعنى، حيث اللغة مختلفة، ومن يتكلمون ويكتبون بها هم مختلفون، ومن هنا، فإن نبرة التحدي هنا تكون أكثر مكاشفة وتحرياً لقرّاء هذه اللغة. المترجم).
نورالدين زازا طفلاً
بالتركية:
صورة لمفكر كردي
اسمه الحقيقي: يوسف ضياء الذي نور الدين زازا، مواليد سنة 1919 في اَلعزيز في مادن “معدن” ضمن حدود تركيا حينها إلى جنب مع شقيقه الدكتور أحمد نافذ، واستقر في سوريا بعد فشل الشيخ سعيد.
وكان في عام 1938 من بين الأعضاء الناشطين في نادي الشباب الكردي (كروباً جوانين كرد) في منطقة زازا، ومن أعضاء هذا النادي جكرخوين وقدر جان وعثمان صبري، والدكتور أحمد نافذ، الذي كان من الشخصيات الكردية المهمة حينها.
وقد نُشر العديد من مقالات زازا، الذي كان له أدوار مهمة في التنظيمات الكردية رغم صغر سنه، في كل من هاوار وروناهي. وقد أسس في عام 1956، جمعية الطلاب الكرد الأوربيين في فيسبادن بألمانيا وذلك مع 17 صديقاً من جميع أنحاء كردستان. واستقر في سويسرا بعد الحرب العالمية الثانية ليباشر تعليمه العالي في جامعة لوزان. وخلال فترة تعليمه أسس جمعية الطلاب الكرد الأوربيين، وفي عام 1957 أوقف نشاطه وجاء إلى سوريا حيث لعب دوراً مهماً في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا، وعمل على توحيد الكرد في جنوب غرب كردستان. وقدَّم محاضرتين في جامعة دمشق. وتعرض للاعتقال خلال هذه الفترة، ولعدة مرات في الستينيات. وزُجَّ به في سجون دول مثل سوريا والعراق والأردن ولبنان.
وتزوج من صحفية من سويسرا هي جيلبرت فافر ولديهما ابن واسمه شَنكُو. وعاد إلى لوزان عام 1969 حيث عمل بشكل أساسي على تطوير اللغة الكردية. وكان أحد مؤسسي المعهد الفرنسي الكردي، وقبل وفاته بعام، ترجم كتاب Mem ü Zin لأحمد خاني إلى الفرنسية. وكان لكتاب “حياتي ككردي”، والذي نشر عام 1981، تأثير كبير في أوربا، وفي 7 كانون الثاني 1988، أصيب بمرض السرطان، وتوفي بسببه في لوزان.
======
نورالدين زازا وجيلبرت فافر (الوجهان يشعان حياة، يشتعلان تفاؤلان، بين زوجين، يبصران طريقاً عالي الأثر، رغم مصاعب سلوكه. المترجم).
=======
نورالدين زازا، وشقيقه الدكتور نافذ زازا، “الجالس في اليمين” وكرديان آخران
(صورة رباعية كهذه، ماذا تقول لزمنها والزمن التالي، والذين يقرأون تاريخاً ينبثق من رباعية صور كهذه، وهي تؤبّد الزمن، في لقطة تعرّف بنفسها، بوجوه ناظرة إلى الأمام ؟ ! المترجم)
======
نورالدين زازا، وهو منكبٌّ على الكتابة (أي كتابة تكفيه تعبيراً عما في نفسه، وكلّية جسده وروحه كتابة ؟. المترجم)
======
(صورة متقدمة في العمر نسبياً. ثمة غيوم دكناء تستغرق وجهاً لم يدكن، حيث الشفتان تفصحان عن سخط، فم مضغوط عليه، وربما لنفاذ أمل، ربما يأس مما يجري، وربما التعبير عن أن المتبقي من الحياة يستحق أن يعاش، ولكردي من نوعه خصوصاً. المترجم)
========
التيار ونورالدين زازا في القصة الكردية “بالكردية”
Di çîroknûsîya kurdî de pêl û Nûredîn Zaza
أريد أنت أنتقي الطريق الثاني، وأتنشط تبعاً لمناهج الأدب وقواعده، تلك التي تتغير بالتجاوب مع شروط الزمان، وذات جذور ملموسة. والكاتب الذي أريد الحديث عنه هو نورالدين زازا وقصته.
يعقوب تِلأرمني ” كاتب كردي.
كان ذلك في 15 شباط 1919، يوم مولد الكاتب القصصي الكردي نورالدين زازا، حيث أبصر النور في “مادن: معدن” والتابعة لخربوت، وعاش باسم ضياء يوسف، وأمضى حياته باسم نورالدين زازا، سياسياً، كاتباً، عارفاً باللغة، وباحثاً في تاريخ قرن، وهو يسطّر سيرة حياته، في شمال كردستان، وابتعد عن وطنه بآلاف الكيلومترات، أي في مدينة لوزان السويسرية التي شهدت تجزئة كردستان فيها، ولا زال ينتظر، وبعينين مفتوحتين قيامة كردستان، وهو في التربة الباردة لمقبرة غابة فو Bois de Vaux.
وبمناسبة مرور مائة عام وعام على مولده، أحاول طرح أفكار لي، بخصوص قصته.
يجب أن يكون التقويم تبعاً للمؤلَّفات:
تصل مسيرة البناء الثقافي، بمقدار ما لا يمكن للمرء تصوره بالعصور القديمة، ونحن ندين لهذه المسيرة، ومن خلال نسبة كبيرة، لآلامنا، حيث نعيش وضعنا الراهن. إن التغيرات النفسية التي ظهرت مع المسيرة الثقافية، جلية بامتياز، إن هذه التغيرات تستمر في التحول، لارتباطها بأهداف مطلبية بشكل يومي، وكونها تقوم على المشاعر المطلبية، تبرز إلى الساحة. إن الأحداث التي تبث التفاؤل في مطالبنا الأساسية، بعيدة عن اهتمامنا، أو أصبحت في وضع لا تطاق. ولو أن مطالبنا تتغير تبعاً لمطالب أخلاقية وجمالية، فثمة أسباب عضوية لها.
إن أعرْنا انتباهنا إلى الكلمات السالفة التي وجهها سيغموند فرويد في رسالته إلى ألبرت أينشتاين، سوف نرى أنه من أجل التقابل بين الأمس واليوم، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار للتغيرات الزمنية الحية باستمرار، وهناك التقابل نفسه بين قسم من الثقافة، وقسم من الأدب بالمقابل، ولو أننا أردنا تقييم مؤلَّفاً أو كاتباً عاش قبل عشرات السنين، لا بد من اعتماد طريقين: إما أن نقفز فوق الزمن، ونرجع إلى السنوات الماضية، وتبعاً لشروط تلك الفترة، يجري تقييم مؤلّف من خلال مؤلَّفه “نتاجه”، أو يجري التقييم بناء على نباهتنا ومعرفتنا من خلال ما هو راهن لنا. سوى أننا نستطيع إبراز طرق أخرى لنا أيضاً.
أريد أن أنتقي الطريق الثاني، وأتنشط تبعاً لمناهج الأدب وقواعده، تلك التي تتغير بالتجاوب مع شروط الزمان، وذات جذور ملموسة. والكاتب الذي أريد الحديث عنه هو نورالدين زازا وقصته . ولو أننا تجاهلنا معرفتنا اليوم، وقيّمنا شروط ما كان قبل ستة أو سبعة عقود من الزمان، لن يكون هناك تقدَّم للجيل الجديد، وسوف يتم التعريض بكتّاب ثقافة مل التابو “المحرَّم”، ونورالدين زازا، كاتب ست قصص “تأليفاً”، وأربع قصص مستعارة، والمجموع كاتب عشر قصص، لا بد من تقييم قصصه التي بين أيدينا حصراً. لماذا ؟ لأن صاحب صحيفة هاوار، والمسئول عنها، جلادت بدرخان، عرَّف نورالدين زازا، على أنه تشيخوف الكردي، لأن الكاتب القصصي والكاتب فرات جوري، يعتبر نورالدين زازا وقدري جان، رائدين قصصين للحداثة، وحيث تموقع من أشير إليهما في نطاق المؤشرات الكلاسيكية الأدبية الكردية، لا بد من إظهارهما من خلال الحقائق الأدبية وتفتحاتها.
تيار نورالدين زازا:
بصدد الأدب العالمي، يمكن لنا التركيز على تيارين في القصة: تيار موباسان الفرنسي، وتيار تشيخوف الروسي، وبخصوص الأدب التركي بالمقابل، يمكن لنا التمييز بين تيار سعيد فائق وتيار صباح الدين علي كذلك، إنما تبعاً لقراءتي ونظرتي، لا يمكن لنا القول مباشرة: تيار قدري جان، وتيار نورالدين زازا، لأنه بصدد كاتبي القصة هذين، لا يمكن لنا عدم اعتبار جلادت بدرخان، كاميران بدرخان وعثمان صبري كتّاب قصة
ولو تم التمييز بين جانبيْن، لا بد من التوقف عند جميع كتاب القصة في هاوار والتقابل فيما بينهم، وتقييمهم تبعاً لواقع الأدب الكردي. إن بعضاً من القصص التي كتبها عثمان صبري في زمنه، في وسعه منافسة القَصص العالمي، وكذلك فإن القصص الفعلية، وتلك المستعارة ” التقليدية ” والتي كتبها جلادت بدرخان، لو أنها وجدت طرقها للظهور، من المؤكد أن تلك القصص كانت تعتبَر اليوم في مقام التراث الأدبي العالمي.
بناءً عليه، لماذا لا يمكننا اعتبار نورالدين زازا في مقام رائد تيار. إن كاتباً قد عرِف كثيراً سياسياً ومنشغلاً بقضية الوطن في نشاطاته. ولأسباب ذات صلة بالهجرة والاغتراب والقهر والظلم الذي لاقاه في تركيا وسوريا، كان عليه أن يولي اهتماماً أكثر لوضعه المعيشي، ونضالاته السياسية، وليس أن يكون كاتب عشرات القصص. إن تفكيره وحساسيته، يظهران بعمق في ثنايا قصصه، كمحتوى ورسالة. إن الحنين إلى الوطن، عشق الوطن، تخلف قومية وبؤسها، الشجاعة والغلبة في عموم قصصه، من الأهداف الرئيسة. كيف أن نورالدين زازا، كتب في العدد “32” من “هاوار”: عظات أحمد خاني، وفي العدد “30؟” من هاوار، كتب: إلى الشباب، أراد أن يوجه عظات أحمد خاني وكيبلنغ إلى الأطفال والشباب الكرد، والمقاومة جلية بالمقابل في قصصه. وما عدا قصة “حرب الذباب “، فإن جميع القصص كُتبتْ خلال عامي “1941-42”. إن “حرب الذباب” التي أُرّخ لها في الأسفل بعام “1965”، وبعد ثلاث وعشرين سنة، إن من ناحية الكلام، أو من ناحية الأسلوب أيضاً، كان في مقدورها أن تصبح مقدمة مقاومة مستقبلية، إنما للأسف، فإنه ما عدا هذه القصص، ليس من قصص أخرى له بين أيدينا، حيث لا يمكننا، وبكلمات رنانة، نسج قصة حية في الزمن ولافتة “في الحقيقة، يعلم الكاتب، أنه من الأحرار الذين غاصت بهم رِكَبُهم، وفي عجز، لا يمكن اعتمادها، كما يقول، ………. يتبـــع ………..