سلمى جمو
عندما تعيش وطناً مصلوباً، منقسماً على حدوده الطبيعية، شرِخاً ومتفسِّخاً كجيفة نتنة تنبعث رائحة التزمّت والتعصّب من أفكارها ووجدانها، تلك الرائحة التي تغزو روحك وكيانك. وعندما يصدِف أيضاً أن تكون عاشقاً مازوخياً لذاك الوطن، عندها يمكنني القول: أهلاً بك في جحيمك الحيّ، ذاك الجحيم الذي وُلِدتَ من رحمه لتظلّ تعيش في سعير نيرانه ولا خيار آخر لك. لتسيطر عليك فيما بعد حالة شعائرية تستبدّ بك فتنسج من وحيها الجهنّمي قصائد تختزل كلّ ما يعانيه الإنسان الكُردي المثقّف من وعي واعٍ ومؤلم لكلّ ما يحيط به ويعيشه هو وأبناء جلدته.
تلك الحالة الممزوجة بالإحباط أحياناً من عدم القدرة على تغير ذاك الواقع أو ذاك الوطن الذي يعيش احتضاراً أبدياً لا يعرف الخلاص سواء بالموت أو الانبعاث العنقائي.
هو ديوان «جحيم حيّ» للشاعر الكُردي «إدريس سالم»، بصفحاته الـ (١٣٢)، قصائد من الفئة المتوسطة والطويلة، موزّعة على عشرين قصيدة، كُتبت بين عامي (٢٠١٠م و ٢٠١٩م).
كانت لوحة الغلاف للرسام الكُردي «أصْلان مَعْمو»، والتي تحمل اسم «ما زلنا نقف رغم كلّ شيء».
الديوان بما يحمله من كنايات واختيارات دقيقة للكلمات سأتكلم عنها وافراً فيما بعد، إلا أن الشاعر لم يفته أن يختار لوحة ذات أبعاد ودلالات نفسية تعكس فكرة قصائده، وكأن لسان حاله يقول: لو تسنّى لي أن أختزل الديوان في تعبير بصري فإن لوحة «ما زلنا نقف رغم كلّ شيء» هي أبلغ وأدقّ تعبير له.
الناظر للوحة بما تحتويها من شخصية إنسان، يقف على تلّة وعراء وقفة شامخة، بالرغم من الأعاصير والرياح التي تعصف به، وهو ما يعكسه ذاك الوشاح المرابط على عنق الشخص، يداه مغلولتان خلف ظهره يواجه الحياة بصدر عارٍ؛ يخطر له الإنسان الكُردي الذي قدّر له أن تكون صداقته مع الجبال وحدها وأن تكون معركته الوجودية أحياناً بأيدٍ خالية سوى من العزيمة.
الملفت في اللوحة هو غياب الرأس من الشخصية، وهو إن دلّ على شيء، فالأكيد أنه يُوصف ذاك الكُردي الذي بقدر ما يتّصف بالعزيمة والقوة الجسدية فإنه في الوقت ذاته يفتقر إلى الحكمة العقلية والدهاء السياسي، وهنا يستحضرني مقولة للكاتب الأمريكي «جوناثان راندل»، التي جاءت في كتابه المعنون «أمّة في شقاق – دروب كردستان كما سلكتُها»، يقول فيها: «الكرد يكسبون الحرب مع خصومهم على الدوام، إلا أنهم يخسرون ما كسبوه بسهولة على طاولة المفاوضات».
أو إذا أردنا أن نُسقط اللوحة على الجانب الوجودي الإنساني فبإمكاني أن أختصرها بمقولة الفنّان التشكيلي نفسه:
«هو التعبير عن التحدّي في هذا الزمن المتأزّم بالحروب والويلات والتهجير القسري، لكننا ما زلنا نقف أمام تلك العواصف العاتية التي تريد اقتلاعنا من جذورنا الضاربة بعمق الأرض».
وهو ما هو واضح في شخصية الشاعر الذي بالرغم من كلّ الخيبات التي تعرّض لها من حرب وتهجير فإنه يمنحنا هنيهات وساعات من اللذة الفكرية من خلال ديوانه.
بالعودة إلى القصائد وبُنيتها اللغوية الفكرية، بإمكاني تصنيفها من صنف السهل الممتنع؛ حيث الأفكار الشائعة المتداولة معروضة بأسلوب ومفردات صعبة غير معمول بها.
فالشاعر يتناول قضايا حياتية وفلسفية متعدّدة: كالهوية، الحرّية، الحياة، الأرض، محاربة الجهل…، والتمرّد على الواقع، بأسلوب قوي رصين مترابط، مع بعض الأخطاء المطبعية التي من الواضح أنها سقطت سهواً، يطفو عليها طابع من اللا جدوى، ففي قصيدته «اعتزال» في صفحتي (٨٦ و٨٧) يقول:
سألْتُ الفراغَ
وهو يستبدُّ بي:
هل ستكونُ سعيداً
وأنت تملؤني؟!
يجيبُني…، فيلبّكُني:
أخيرٌ أنت مع تقاليدَ سيّئةٍ،
أم شريرٌ مع تقاليدَ حسنةٍ؟!
صاخبٌ مع أوقاتٍ رومانسيةٍ،
أم رومانسيٌّ مع أوقاتٍ صاخبةٍ؟!
سعيدٌ مع أيّامٍ تعيسةٍ،
أم تعيسٌ مع أيّامٍ سعيدةٍ؟!
هل أنت طاهرٌ مع أعمالٍ قذرةٍ،
أم قذِرٌ مع أعمالٍ طاهرةٍ؟!
خرجَتْ مُقلتاي…
ما هذا؟!
وأيضاً في قصيدته «صراع الطواحين» في الصفحة الثالثة والثلاثين يقول سالم:
هكذا يُولدُ الألمُ في مدينتي
ذاك المُتذمّرُ الصاخبُ.
هكذا نطفئُ فراغاً مُعتكِفاً
نُفرِطُ بالأمل
وسطَ ركام العبثية
نجمعُ شظايا عديمةَ الشكلِ
جاهدين نحاولُ
رسمَ معالم روحِ الإنسانيةِ
ننتظرُ الغدَ
في عنق زجاجاتِ ماءٍ مُتْرَبةٍ،
ومصابيحَ مُنيرةٍ بالدُّهْمة.
في هذين المقطعين من القصيدتين نجد وبشكل واضح العبثية الممزوجة بالرفض، هو الإنكار…، يرى الخراب والجحيم محاطّ به لكن إنسانيته تأبى أن تستسلم له.
هي روح الإنسان الكُردي المتمثّل في شخصية الشاعر، التي رغم كلّ الخيبات والضياع الذي عانت منه على مرّ مائة سنة، إلا أنها تتسلّح بالعناد الذي أيضاً بدوره يرفض التسليم لأمر الواقع، ويقوم بانتفاضات، ولو خجول، على نفسها التي نخرت بها التفرقة ثم على المحيط النرجسي الذي ما عرف غروره وكبرياؤه أن يعترف بالهوية الكُردية، حيث نرى بوضوح أن «سالم» في كلّ قصيدة وأخرى، بين دفات كلّ سطر ومقطع شعري يذكّرنا وينبّهنا بكرديته التي هي بالنسبة له لعنة أكثر من كونها ميّزة، فالكُردي كما يحاول أن يعرّفه الشاعر هو ابن العناد والإصرار، ابن صخرة وعراء في وجه قدر أرعن، هو البندقية التي نذرت نفسها قرباناً للدفاع عن الإنسان والهواء والحجر، إلا أنه يظلّ يتقهقر أمام نفسه، ليتحوّل عدوّاً لذاته المشتّتة بين أربع جغرافيات مصطنعة:
لا أحدَ لجوجٌ لحوحٌ…، كالكرديّ
ذاك المُدافعُ عن البشر
عن الشجَر…،
والحجر.
مُشتّتٌ أمامَ ترابٍ
يبيعُه سادةُ الخداعِ…
في مزادات مُنظَّمةٍ
تحتَ الطاولات.
خُلِقَ؛
ليحلمَ بالمجهول،
ويحاربَ نيابةً عن كلّ الفلولِ
يكون صديقَ جبالٍ ورياحٍ
لا سهامَ،
ولا رماح. (قصيدة: غناء الحجل – الصفحة: 16).
ويبقى السؤال الأزلي الذي يطرحه كلّ كُردي:
ويبقى ذاك السؤالُ المسعورُ:
«هل سيتوحّدون
كالجار والمجرور،
أم
سيبقون أداةً
لا محلَّ لها
في كلّ العصور؟!».
بعد أن سلطت الضوء على وجهة نظر الشاعر من قضية هويته، لا يفوتني أن أقرأ الأبعاد المخفية فيما بين السطور أو في دهاليز الكلمات فلسفة الشاعر الإنسانية المفرط في إنسانيته، والتي تعكسها قصائده بشكل واضح. ففي قصيدة «غناء الحجل» الكائنة في الصفحة الحادية عشر، يحاول «سالم» أن يُعطي بُعداً آخر للمصطلحات الأكثر تداولاً في أقلامنا وأذهاننا، حيث يوضح لنا الشاعر أن الدم وإن كان رمزاً للدمار والهلاك، إلا أنه يمكن أن يكون رمزاً للحياة والعطاء إنْ عرِفنا أين ومتى ولما نهدره:
الدمُ:
ابنُ الموتِ والقتلِ،
وابنُ الحبِّ والحياة.
الأرض وإن كانت مرادفاً للهوية إلا أنها يمكن أن تتحوّل جحيماً حيّاً وساحة مفتوحة للآلام، عندما تكون مصرّة للتضييق على أبناءها وجعلِهم يعيشون اللا انتماء على تراب ولدتهم وأرضعتهم حليب حبّها، لتصفعهم فيما بعد بالرفض والهجران:
الأرضُ:
شقيقةُ الروحِ والجروحِ
شقيقةُ الألمِ والأمل.
الحرّية أيضاً ليست مصباح علاء الدين، تُفتح معها أبواب الأماني والجِنان. الحرّية كما يصوّرها «سالم» عندما ينادي بها الجاهلون والسفسطائيون فإنها تتحوّل غمامات حالكات تسيطر على سماء عوالمنا. إنْ لم نعرف كيف نُسيّسها ونروّضها فإنها لا تنفكّ تتحوّل إلى عفريت يلقف كلّ شيء بنَهم جائع أبدي:
الحرّيةُ:
عفريتٌ يلتهمُ الأخضرَ واليابسَ
يُشرّبُ مُريديه السُّمَّ والهمَّ.
ثم ماذا عن الحقيقة؟ إنها الوجود المشروط لعدم وجود كلّ شيء جميل، غاية منافية لنفسها، إنها أسطورة العنقاء، حكايتها جذابة إلا أنها تظلّ مجرّد وهم.
وبطبيعة الحال لن يسعدني أن أُنهي قراءة الديوان دون أن يلفتني ذهنية الشاعر المتحرّرة فيما يخصّ قضية المرأة، فهو يختصر الأنثى ووجودها بأربعة أسطر تُشفي الغليل والعليل، عندما يقول في قصيدته «بقايا امرأة» الكائنة في الصفحة (١٢٣)، والتي بها يختتم ديوانه ختام مسك:
فالأنثى علمٌ
كالكيمياء
كالرياضيات،
والأحياء…
الديوان الذي صدر عام 2020م عن دار فضاءات للنشر والتوزيع يجعلك تشعر بعد أن تنتهي منه بسُكرة روحية وعقلية، الكلمات الحادّة الثقيلة على المسمع تترك انطباعاً من الرهيبة والهيبة، ربما يعكس شخصية الشاعر نفسه، وفي نفس الوقت فيه مسحة من ثورة أدبية لفتح الآفاق نحو عالم جديد لكتابة القصيدة.
تركيا – مدينة وان