تجنيس الزمان في إمارة بوتان.. قراءة في كتاب: إمارة بوتان في عهد الأمير «بدرخان» دراسة تاريخية- سياسية، 1835-1847 « للبروفيسور الدكتور صلاح محمد سليم محمود » حلقة 2


إبراهيم محمود


أي مسار تفكير في واعية الباحث البدرخاني؟ 
يستحيل الزعم، من جهتي هنا، بأن الذي سطَّره الباحث محمود حول البدرخانيين، وما يخص الشخصية التاريخية المؤسسة لاسمها وذيوع صيتهما معاً تالياً، هو صواب تاريخي، أو حقيقة التاريخ. هذا الاعتبار القطعي يَخرج عن نطاق الحقيقة، ويجعل المسطور هنا وهناك خطاباً في واقع أمره، بمفهومه الأكثر قرباً من الحقيقة عينها، ففي الخطاب الذي يشمل كل ما نقوله ونكتبه، ما يبقى طيَّ سر لا ينفد، ومنه ومن خلاله، وفي العودة المستمرة إليه ثمة حقيقة معرفة، وهي الرغبة في تحرّي المزيد من السر هذا ومعاودة معرفته أكثر. هناك دائماً ما يبقى ليس عصياً على التسمية، وإنما على إشباع الرغبة في المعرفة، وما في ذلك من تفاوت في كل قراءة، وفي القراءة عينها، من حالة إلى أخرى، ومن زمن متحول إلى آخر بمتغيراته، وانعطافاته في مستجداته. 
أحيل إلى كلام ذي دلالة لميشيل فوكو( ليست كل مناطق الخطاب مفتوحة بنفس الدرجة، وقابلة للاختراق بنفس الدرجة: فبعضها محروس وممنوع علانية( مناطق مميَّزة ومميّزة )، في حين أن البعض الآخر يبدو مفتوحاً تقريباً أمام كل الرياح وموضوعاً رهن إشارة كل ذات متكلمة بدون حصر مسبق ) “14 “
هناك استلاف معلومات، واستقاء لها، من قبل الباحث ليتمكن من معرفة ما يريد معرفته، وكتابته تالياً، استجابة لإرادة معرفية لها حدودها في بنية القول ومقتضى المنشود، وهو ما يمكن تبينه في بنية الدراسات الحديثة، ومقام شخصية المؤلف وحقيقتها.
كما نوَّهت بداية، فإن حديث الباحث في مستهل كتابه عن الظروف الصعبة التي عاشها جهة البحث عن المصادر ذات الصلة، لها دورها في قول ما هو مرغوب فيه معرفياً، وما يستجيب لفعل التاريخ، قبل ربع قرن من الآن وأكثر، ما يعني وجوب أن يأخذ قارئه علماً بذلك، وكذلك ناقده بالتأكيد، ذلك ائتمان تاريخي يؤخَذ به، ولكن ذلك لا يعني التخلي عن قراءة المسطور دون السؤال عن كيفية حضور المؤلف، من خلال نوعية قراءته لمادته، وتعامله مع مصادره كتباً ومقالات ووثائق وسواها، بلغات مثبتة في الهوامش، إذ دون ذلك يصعب إقامة علاقة بحثية تحت سقف التاريخ عموماً، والتاريخ المعلَن عنه طي عنوان الكتاب وامتداد مؤثراته تالياً.
إن ما يشير إليه بصدد الموضوع الرئيس في الكتاب وله، هو الفصل المتمحور حول ( بداية دراسة تاريخ إمارة بوتان، من تأسيسها حتى عهد الأمير بدرخان بك. ب.ك.ص10).
هذه النوعية من التعامل، لا أظنها بغريبة عن الدراسات التاريخية السائدة، وبطابعها الأكاديمي، لأن الأخْذ بما هو جغرافي، وما في الجغرافيا من تضاريس مختلفة، وكيفيتها ثراء أو فقراً، وتأثرها بالمتغيرات، وفي الحالات الاجتماعية والسياسية ومسار التاريخ أو دورات الزمان في ذلك، واجب معرفي، ليكون للتاريخ المنطوق والمدون لسانه، عيناه، ذاكرته، وميراثه المقروء ومبتغاه.
حين نقرأ مثلاً (أطلقت قديماً اسم كاردا على مقاطعة بوتان..ب. ع. ص 12) فهذا يحيل على ما له صلة بكردية المنطقة، ومضي الباحث وبنظرة موسعة في نطاقها الجغرافي والتاريخي، على عراقة الإمارة وتعرضها للكثير من الغزوات وإبراز مكانتها وموقعها الاستراتيجيين والبالغي  الثراء، وهو يشير هنا إلى النقص الملحوظ في المصادر المتعلقة بمن حكموا الإمارة قبل الأمير” بدرخان ” حيث يستعين بكتاب ” شرفنامه ” لبدليسي ” سنة 1596 ” وهو يأتي على أسماء ” 21 ” أميراً، إنما دون العثور على اسمي أميرين فيها حتى الآن” ب. ك. ص24 “
ذلك شأن التاريخ ومدى قابلية الباحث فيه لأن يتحرى حقيقة عدم وجود اسمين هنا، وما يتوازى مع جوانب نقص أخرى، تخص الصورة التاريخية لكل أمير، والحياة التي عاشها هؤلاء على الأرض، مع مجتمعهم، والجوار وكيفية التصدي للمخاطر التي هددتهم سيادياً في عقر دار إمارتهم. وكما هو المقروء في امتداد تاريخ الكرد، وكما مر معنا سابقاً، وكما في التذكير
( بأن الصراع بين أفراد الأسر الكوردية الحاكمة في الإمارة ليس لأنانية وطموح بعض الأمراء الكورد فقط نتيجة تلك السياسات العثمانية، تلك السياسات التي كانت ترمي إلى بذر الشقاق بين الأمراء الكرد. ب. ع .ص27- ب . ك.ص30 ) 
إنها الحرب القائمة والسرية الحامية الوطيس في وضع كهذا بين الذاكرة التي تحتض تاريخها الشفاهي لتؤكد ديمومتها، والتاريخ المعلَن عنه في عهد قوة نافذة الأثر، بانتظار متغيرات الزمان، وما يبقي المواجهة تلك قائمة بين الحالتين .
هذه سياسة مألوفة من قبل كل نظام من هذا النظام يحتل أراضي الآخرين ويفرض سلطته عليها، وبالنسبة للعثمانيين بصورة خاصة من موقع كونها امبراطورية، وسياسة دق الإسفين، وتأليف قوة داخلية على أخرى ” مكرمة ” سياسية لها لتثبيت حكمها أكثر.
هذه النوعية من سياسة التعامل مع ” مستعمراتها ” تتطلب علاقات مركَّبة من هذا القبيل، كما هو المعروف في التاريخ، ومع الكرد على وجه الخصوص، انطلاقاً من حضورهم المادي والمعنوي، وكيفية إخراجهم عن جغرافيتهم المسمّاة باسمهم، وتاريخهم المعروف بهم، وإلحاقهم بالقوة المنتصرة، أو القوة الغازية لهم، حال الصفويين والعثمانيين، وكما نقرأ حول ذلك ما أفصح عنه الباحث في كتاب يضم مجموعة مقالات تتكامل في قاسمها المشترك جهة كيفية بناء التاريخ السياسي الكردي ومواجعه، بدءاً من إمارة ” أردلان ” وموقعها  بين ” حجريْ ” رحى الامبراطوريتين، والتحكم في مقدراتها، مع السلطان العثماني الأبرز هنا : سليمان القانوني، حيث ( تعرضت هذه الإمارة للكثير من ألوان السياسات، ومنها كيفية القضاء على الاستفلال الذاتي، وإبعاد الأمراء الحكام، واختلاق علاقات سلبية ما بين هذه الإمارة والإمارات، خاصة مع القانوني الذي قرر في أن تكون الإمارات الكردية في غزو سنة 1537 مساندة له في أردلان..) ” 15″
لدى الباحث مسعى معرفي لأن يتقصى الخفي في التاريخ الكردي، ولماذا هو هكذا، وأي قوى مارست دورها في التعتيم عليه، طبعاً جرّاء السياسيات الممارسَة من قبل الدول التي استبدت بالكرد، وفرقت فيما بينها، ليكون الغموض المنوّه عائداً إلى هذه السياسات.
التاريخ المحرَّر من الضبط
إن كيفية محو التاريخ، وتجريد أي شعب من تراثه واجتثاث ذاكرته القومية من أولى سياسات الأنظمة الكليانية، والذين استبدوا بالكرد وتقاسموا وطنهم كردستان وهم فيها، جمع ما بينهم هذا الإجراء الأكثر” عراقة ” ودموية وعنفاً.
وهو ما يمكن أن يفسر محاولة الباحث إنارة هذه النقطة، والرهان على بدرخان ونشدانه لكيان كردية متوقف على الكرد.
وما يشير إليه حول غموض التاريخ الكردي، تمهيد لإبراز هذه الميزة الضاربة بجذورها في التاريخ، وما في ذلك من تذكير دائم بما مهد به ” إمارة بوتان ” وسبب إبقائها تحت أنظار الطامعين فيها، ومعززات هذا الغموض( يكتنف التاريخ الكردي في القرن التاريخ عشر الكثير من الغموض بسبب كثرة الأحداث التاريخية المتشابكة، لا سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر الذي شهد نهاية العصر الإماراتي في كردستان بعد أن دام لأكثر من ستة قرون..) ” 16 “
يكشف هذا المقطع عن سرد تاريخ، لكنه سرد لمأساة يتخلله ذلك التنويه إلى المتوخى منه، في واعيته، وهو مدى تعرض الكرد وموطنهم إلى غزوات الآخرين: المحيطين المتاخمين لحدودهم الجغرافية، وموقعهم التاريخي، وما يصل اليوم بالأمس نفسه.
من جهة أخرى، إذا كان هناك صفحات تترى، وبدءاً من التقديم لكتابه المفصح عنه باسمه، تمارس سرداً لتاريخ كردي محيط ببوتان، وبوتان بالذات، والأحداث التي شهدتها، ومما تتكون طبيعة، وتكون عليه نشأة تاريخ وديموغرافيا بشرية ، حيث لا يغني اقتباس فقرة دون أخرى عن قراءة الكتابة جملة، أو لا يعني تنحية غير المذكور جانباً، إنما هي حيلة الباحث المشروعة: أعنيني هنا، في كيفية إبراز ما يصل قارئه بعموم كتابه، وليس بإيجاد ثغرات تضمن النيل من نصه.
وفي الذي أتوقف عنده فتْح معبر أو ممر كشفي لمحرك الكتاب بالذات، أي كلمة سره” إمارة بوتان وأميرها ” بدرخان بك.
وما يدفع بقارئه معه إلى خاصية الحبل المشيمي، بمفهومه التاريخي- السياسي والحيوي بين بنية الإدارة ونظامها القيمي، ومن يديرها ويشرف عليها، فتلك تترجم شخصية الحاكم، بصيغ شتى، وهذه تضيء بظلالها صفحة الإدارة ومكاشفتها، وفي سياق هذه العلاقة ” الرحمية ” الطابع، ربما يُجاز وضع عنوان لكتابه هكذا( الأمير بدرخان بك في إمارته بوتان: 1835-1847 )، دون أن يفقد العنوان هذا شيئاً من حمولته الدلالية، حيث الإمارة في الجوهر تحال على الأمير أصلاً، أو يكون الأمير معزز وجودها.
وما نقرأه في بداية الفصل الأول: التنظيم السياسي لإمارة بوتان قبل حكم الأمير بدرخان، يقرّبنا من خريطة واقع الإمارة اجتماعياً ( كان التنظيم السياسي لإمارة بوتان قبل حكم الأمير ” بدرخان ” هشاً للغاية، كون أمرائها كانوا يهملون إدارتها، لهذا فإن الكثير من قوى الإمارة خرجت عن سلطتها..ص47. ب ك).
ذلك كاف لأخذ صورة مكثفة عن وضع الإمارة ومن يسوسها، أو عن أمرائها وكيف يديرون شئونها، ورسم طبيعة علاقاتها مع الإمارات المتاخمة، والأبعد والأكثر حضوراً  ببصمة  سلطتها : السلطان العثماني.
في ضوء هذا الاعتبار، لحظة الحديث عن بدرخان بك، وموقعه في تاريخ المنطقة والإمارة بالذات، يُستدعى في الحال ما كان عنواناً لكتابه الآخر: أطروحة الدكتوراه، والدال على استراتيجية الاسم العالي وذريته( الأسرة البدرخانية: نشاطها السياسي والثقافي: 1900-1950)،وتأكيد من المقدمة التي يركز فيها على محل الأسرة اجتماعياً عموماً، وسياسياً خصوصاً من إعراب التاريخ والمتحول الزماني، وهو بعد إبراز ” تاريخ الأسر الكردية ” ودورها في التاريخ الكردي، يقول ( تعتبر الأسرة البدرخانية من الأسر الكردية العريقة التي شغلت مكانة مهمة في تاريخ الكرد الحديث والمعاصر، وتركت بصمات واضحة على الحركة القومية بنضالها السياسي والفكري، فانضموا إلى الحركة التحررية الكردية واحتل البعض منهم المواقع الأولى في صفوف الحركة التحررية القومية الكردية. ) ” 17 “.
وقبل التوقف عند هذا الاقتباس الجلي بمحتواه السياسي، وحتى ببعده الخطابي الثقافي ، أنوّه إلى أن الذي استهل به الباحث كتابه المنهجي: الجامعي والكردي ( تاريخ الكرد المعاصر: نظرة علمية ) محصّلة قراءات سابقة لما كتبه في هذا الشأن( بدأ القرن العشرون في تاريخ الكرد بالكثير من الأحداث والمظاهر السياسية والثقافية المهمة، حيث إن المناطق الكردية التابعة للسلطتين العثمانية والإيرانية، عن طريق النضال السياسي والنشاط الثقافي، أثبتت وجودها في نطاق هذه الأحداث والمظاهر ) ” 18 “
ربما كان أقرب كتاب إلى ما انطلق منه الباحث، هو كتاب الباحث الكردي مالميسانج عن ” العائلة البدرخانية ” حيث يقول في مقدمة كتابه( إن أسرة البدرخانيين بوصفها أسرة كبيرة وذات شأن وتأثير فعالين لجديرة بالبحث والدراسة من وجوه كثيرة.. تصوروا أن سبعة من أبناء الأمير بدرخان كانوا يتصدرون مناصب الباشوية في عهد الإمبراطورية العثمانية في آن واحد)، ثم ما يخص مقام ” حركة الوعي القومي للكرد ” ( وكانت الأسرة البدرخانية أول أسرة كردية لعبت دوراً شديد التأثير في هذه الحركة.) ” 19 “
هذا السبق في التأكيد لا يلغي فضيلة الكتابة في الموضوع نفسه، ومحاولة قراءته من الزاوية نفسها، تبعاً للرصيد المعرفي والعلمي التاريخي لدى الباحث، فالمهم هو نوعية بصمة القراءة في البحث التاريخي، وحضور أولئك الذين كتبوا قبل الباحث، قليلاً وكثيراً، عن الأسرة: العائلة، عن الشخصية الأبرز ” عميد شهرتها الأسري ” والكردستاني، لا يقلل من أهمية المتابعة، وثمة قائمة بأسماء من تعرضوا لهذه الأسرة أو الشخصية في لائحة هوامشه، كما هو شأن غيره في التأثير والتأثر، ما يهم هو حركية وعيه ورصده البعيد والقريب لموضوعه التاريخ وفي أي نقطة من التاريخ يقف، ومن أي زاوية نظر يتحرى حراك التاريخ وزمانه كذلك.
إن ما يفصح عنه المفكر عبدالله العروي جهة التأثر الملموس بالتاريخ الجديد، مفيد في هذا الجانب، وهو يقول في مدخل كتاب له ( موضوع كتابنا هو المؤرخ لا التاريخ، التاريخ كصناعة لا التاريخ كمجموعة حوادث الماضي، هدفنا هو وصف ما يجري في ذهن رجل يتكلم عن وقائع ماضية، من منظور خاص به، تحدده حرفته داخل مجتمعه.) ” 20 “
في الحديث عن المؤرخ يتلون التاريخ، ويتباين بمكوناته، ونوعية القرابة فيما بينها، بمقدار ما يتبين الحس التقليدي ومدار فعله في واعية الباحث، وما إذا كان قادراً على الخروج من ” سحر التقليد ” هذا، وتفعيل شخصيته البحثية برؤية مختلفة، كما هو مغزى التاريخ الجديد. أترانا بالطريقة هذه، نستطيع الدفع بمفهوم الرغبة أسيرة لدى الباحث الكردي، ليس باحثنا الموسوم هنا وحده مقصود الإشارة هذه، وإنما بشكل عام، ينطلق من شعور بالظلم على مستوى شعب، وموقعه داخل تفكيره؟ أم هو شعور الباحث الفعلي والذي يكون البحث كمفهوم معرّفاً به، باحثاً عما ينسّبه إلى موضوعه، ويحمّله بصمة يستأهلها؟ ربما هذا وذاك.
لعل أهم صفة مناقبية، لها حضورها الملموس في كتابات الباحث التاريخي الكردي، تتمثل في تلك الهامشية التي تخص شعباً بكامله، وهو يجد نفسه مأخوذاً بهذه الصفة، وما يترتب عليها من رد فعل سوي، يشهد على أنه أبعد مما يكون هامشياً، ويستحق أن يكون له مقعد في الشمس، واعتبار في التاريخ، كأي منتم إلى شعب له كيانه وزمانه ولسانه…إلخ، وتحديداً حين (يتم تعريف الهامشيين بالنسبة إلى المجتمع المهيمن بصورة سلبية: إنهم ممن ” ليس لهم مقر دائم “، وهم ” يوجدون في كل مكان “، وهم ” ممن ليس له اعتراف “، و” وهم ممن لا يصلح للدنيا “..) ” 21 “
وهل في مقدور أي باحث عن التاريخ وبلسان من يتحدث، ومن يكون الممثّل حضوراً زمانياً ومكانياً، إنكار ذلك كردياً؟
إن ما يفصح عنه أحد أكاديميي الترك المأتي على اسمه سالفاً هاكان أوزأغلو، والمعبّر بأسلوب تنظيري عما يكون عليه الكرد في التاريخ، وتقويم سلوكهم فيما بينهم، وحقيقة طموحهم في كيان سياسي يسمّيهم، يعزز هذه الهامشية في واعيته الإيديولوجية، رغم أنه مقيم في ” أميركا ” ويمارس التدريس في إحدى جامعاتها العريقة(..راقب الحكام العثمانيون كوردستان عن كثب حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية ولم يسمحوا أبداً بظهور إمارة كوردية قوية. وبدلاً من ذلك أُجبرت القوات القبلية على الاندماج في القوات العثمانية، وخصوصاً في العهد الحميدي ” 1876- 1909 م” كما أُلزِم الأعيان الكورد، في الأعم الأغلب، بالسكن في اسطنبول، حيث يمكن مراقبتهم والتلاعب بهم بسهولة… إن تاريخ الدولة العثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر يُظهِر بوضوح كيف أن الدولة القوية نسبياً يمكن أن تتسبب في إعادة تشكيل الوحدات القبلية وقولبتها في إمارة، أي اتحاد قبلي فيه [ سلطة ] مركزية.) ” 22 “
من موقع المركزية العثمانية- التركية في تفكيره، ومنهجه الاختزالي للتاريخ نفسه، يسعى ما وسعه الجهد إلى عدم التذكير بالكرد وكردستان كحضور جغرافي مرفق بالتاريخ المختلف، إنما بوجودهم في نطاق حدود الدول التي تقاسمتهم فيما بينها، وفي ضوء ذلك مكاشفتهم، في تحركاتهم، وتلك الأنشطة التي يقومون بها في مواجهة أنظمة هذه الدولة وإقلاقها، كما لو أنهم عناصر فوضاها.
إن الاعتماد على سردية تاريخ قائمة، والدفع بها لتكون بمثابة الحامل لحبات المسبحة، يغمض التاريخ حقه في تنوعه، وفي اختلاف نسابته، جهة التنوع والاختلاف بين شعوبه وقبائله، ويستدعي في الحال ما هو مسيس ومؤدلج( لنتذكر مجدداً كتاب بشكجي: المنهج العلمي، وتالياً تلك السلسلة المعتمدة على ما هو سوسيولوجي واختيار طريقة المنهج العلمي هذا إيديولوجيا في تركيا، ومدى التباين بينه وبين أوز أغلو. إن مجرد الحديث عن التاريخ، يكون هناك ما يؤخَذ في الاعتبار: تعدد ألسنته، مقابل تنوع مجتمعاته ” 23 “
لعل ذلك، وفي عالم اليوم، عالم انفجار المعارف والإنجازات التكنولوجية ، وانتقال المعلومات سريعاً هنا وهناك، أفضل صراط يمكن سلوكه تجنباً للسقوط في هاوية التاريخ بالذات، واستجابة لأخلاقية البحث في التاريخ، وهي لا تموت أثراً بالتقادم.
الأمير بدرخان والرهان في ميزان التاريخ
أن يكون بدرخان بك هو محك اختبار تاريخ عاصف في المنطقة، وكتاريخ كردي لم يشب عن طوق الاسم فعلياً، ومن جهة الباحث، إجراء تاريخي له مشروعيته، صحبة تلك القراءة المرفقة بلائحة من المرجعيات المبررة لما يتطرق إليه ، ويستفرد به بحثياً.
في مآزق التاريخ، تكون الشخصية القادرة على فتح نفق في، وتجاوز تلك المآزق وإنارتها، استثنائية تماشياً مع المهام التي يكون عليها القيام بها، وهي ” تحمل روحها على راحتها، كما يقال)، ولا بد، وفي اعتبارات الباحث أن بدرخان كان كاريزمي شخصية.
وهو يتعرض لهذه النقطة، بدءاً من الحديث عن تاريخ مولده( 1802 أو 1803 ) وأنه مارس حكم الإمارة سنة 1835 ) ” 24 ” وليتعقب أصوله في سلسلة نسبية طويله، … ” ص 49. ب ك” ووراء ظهوره بمثل هذه السمات( تربيته الثقافية والدينية.ص.50. ب.ك).
ولا يخفي هنا طبيعة حكمه فلأمارة بوجود أمير سابق، هو قريبه” سيف الدين ” والذي تردد الكثير في بنية هذه العلاقة، وصولاً إلى ” يزدان شير ” وخلفية خروجه على بدرخان بك، وحتى ” خيانته ” له لحظة هجوم العثمانيين عليه. 
ثمة ما يستوجب النظر في هذه النقطة المحرجة لأي باحث في تاريخ هذه الأسرة وشخصية أميرها الأشهر:
في نوعية القرابة: هناك خلط بين أن يكون يزدان شير  ابن أخي بدرخان بك، كما جاء في كتاب(… الوثائق العثمانية.ص118)، وفي مكان آخر( ابن عم بدرخان بك. ص 143 )، حيث العلاقة تختلف، وما نقرأه مثلاً في كتاب عثمان علي لحظة هجوم العثمانيين على بوتان، وتعاون يزدان شير معه، وكونه ( ابن أخيه ) ” 25 “
والأهم ما يأتي مالميسانج على ذكره في كتابه المذكور، بصدد صراعات داخل العائلة بين بدرخان بك ويزدان شير، كما يزعَم ( ففي سنة 1838 ساند الأمير بدرخان العثمانيين في حصار سعيد بك صاحب قلعة كَوركَيل لكي يستسلم، وسعيد بك خال يزدان شير، وكان لذلك دور في إهانة يزدان شير، وهناك أسباب أخرى..45).
وما يأتي المرجع الأثير في هذا المضمار وغيره بخصوص صلة بدرخان بحكم الإمارة وطبيعتها، في كتاب جويده المذكور، واستناداً إلى الرحالة لايار، وحكم الأمير للإمارة سنة ” 1835″ حيث يقول نقلاً عنه( كان الأمير سيف الدين شير الوريث الشرعي لإمارة بوتان وباسمه حكم الأمير بدرخان، وكان ابنه أسد الدين ( أردشير) محط اهتمام جميع الحكام الترك. أما الأمير بدرخان فقد أصر ألّا يعلم أحد من أتباعه الكرد باسم من يحكم.) حيث يصحح جويده معلومة تاريخية بقوله( من المفيد القول إن اسم الأمير الذي أشار إليه لايارد على أنه ابن سيف الدين شير لم يكن أسد الدين شير، بل عزالدين شير( يزدان شير). ص 169)..إلخ.
هذا يدفع بنا إلى مسار آخر في التاريخ، وهو دور القوة الفاعلة فيه، وكلف الضحايا وتبعاتها، أي نوعية الصلة بين الوسيلة والغاية، وهي النوعية التي نجد أثراً لها في تواريخ جل الشعوب” وبدءاً من تاريخ الفرس، العثمانيين، والعرب ” إذ طالما أن هناك إرادة تمثّل شعباً بكامله، تتمثل في كيفية الارتقاء بمستوه قيمياً، ومنحه حضوراً أكبر في التاريخ تجد الوسيلة هذه من يبرر لها.
أكان بدرخان في ” فعله ” استثناء “، أم يكون جراؤه قويماً، بغية الأصلح والأنسب لمصلحة شعب بكامله قومياً؟
من هذا المنطلق لا يمكن النظر إلى شخصية ما، وفي موقع كهذا، من جانب واحد، وتحديداً في مسار مؤثر في حركية الزمان نفسه، هذا الذي يجري تشخيصه في ضوء اعتبارات تكون المصلحة بمفهومها القاعدي معززة لتاريخ قادم ينحي السابق عليه بأفضليته.
من هذا المنطلق يمكن معاينة العالم السياسي ولاجتماعي في شخصية أمير بوتان لديه، وهو يتحدث عن شخصيته في كتابه المذكور” صص 49-52″ 
وما يأتي جويده  على ذكره في كتابه الشهير ( لا شك أبداً أن بدرخان هو الاشهر في العائلة العزيزية..ص168) والأهم( ما من شك أن بدرخان واحد من أعظم الزعماء الكرد الذين عرفهم التاريخ..ص172)، وصْف لا يستهان بمحتواه من قبل مؤرخ وباحث في لتاريخ، وهو من قومية أخرى: سريانية، ويعتد بشهادته التأريخية ” 26 “
في معمعان خطاب تاريخ مركَّب على هذه الشاكلة، يكون في مقدور الباحث في التاريخ أن يجد ما يحفّزه على النظر في الاتجاه الذي ينمي لديه المقدرة البحثية، ويهيب بقواه النفسية لأن تكون أمكن في التعبير عما يخطط له في ذهنه، ويمنحه حضوراً معرفية، وبدمغة علمية، يجد من يصغي إليه، ويفكر في الطريقة التي اختاره لنفسه منهجياً، وتوخاه هدفاً معترَفاً به في التاريخ، وهو ما استأثر به الباحث، وسخر تلك الجهود في هذا المنعطف التاريخي، وأراد تحميلَه بصمته التاريخية المختلفة.
” يتبع “
متابعة مصادر وإشارات
14-ميشيل فوكو: نظام الخطاب، ترجمة: د. محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2007، ص 25 .
15-ب.د: صلاح محمد سليم محمود: دراسات حول تاريخ الكرد الحديث والمعاصر، بالكردية والعربية، منشورات بالو، دهوك، 2022، ص24.
نقرأ ما يعزز هذه السياسة التفريقية من قبل الساعين إلى تشتيت شمل الكرد، وإلى الآن (إن الصراع بين أفراد الأسر الكوردية الحاكمة في الإمارة ليس لأنانية وطموح بعض الأمراء الكورد فقط نتيجة تلك السياسات العثمانية، تلك السياسات التي كانت ترمي إلى بذر الشقاق بين الأمراء الكرد.ص27. ب. ع . )
16-المصدر نفسه، ص 173.
17-د. صلاح محمد سليم هروري: الأسرة البدرخانية : نشاطها السياسي والثقافي 1900-1950، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 2006، ص11، الطبعة الكردية الأصلية، منشورات اتحاد الكتاب الكرد، دهوك، 2010، ص7. 
18-د. صلاح محمد سليم محمد: تاريخ الكرد المعاصر: نظرة علمية، منشورات جزيري،دهوك، 2018،ص8.  
19- مالميسانج: بدرخانيو جزيرة بوتان وحاضر اجتماعات الجمعية العائلية البدرخانية، ترجمة: شكور مصطفى، وزارة الثقافة ، أربيل، 1998، ص3-7. 
20-عبدالله العروي: مفهوم التاريخ 1-الألفاظ والمذاهب-2-المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط4، 2005 ، ص 17 .
21- التاريخ الجديد” إشراف جاك غودي “: ، ترجمة وتقديم : د. محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،ط1، 2007 ، ص 467 .
22-هاكان أوز أغلو: في المصدر المذكور، ص 103-104 .
23- وهو ما نتلمس مأثرة واقعة كهذه في عبارة(يقابل تعدُّد المجتمعات عددٌ مماثل من السرديات، الأمر الذي يفرز خريطة من التواريخ. ولجغرافيا الأزمنة هذه تاريخ..)
ينظَر حول ذلك: كريستيان غراتالو: هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى ؟ ترجمة: د. الهادي التيمومي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط1، 2018 ، ص 77 .
24-هناك التباس في موضوع تأريخ استلام الأمير بدرخان لحكم الإمارة، فعنوان الكتاب يبدأ من ” 1835 ” وضمناً نقرأ ” 1821 ” ( ص49. ب. ك )وكذلك في ( دراسات حول تاريخ الكرد الحديث والعاصر. ص43-175، مثلاً )،ونجد هذا التأريخ في تقديم الدكتور بوتاني لـ ( صفحات من تاريخ الكرد وكوردستان الحديث في الوثائق العثمانية… ص10) واستفسرت عن ذلك من الباحث نفسه، فأعلمني بأن الصحيح هو ” 1835 ” حيث تبين معي لاحقاً خطأ هذا التاريخ ” أي 1821 ” وذلك في مكالمة تلفونية البارحة” 14-3/ 2024 ” فاقتضى التنويه، من باب توضيح الالتباس المذكور. ونتلمس تأكيداً لتاريخ ” 1835 ” كما ورد مثلاً في كتابه ( إمارة بوتان..ب . ك، ص 50)،
25- د. عثمان علي: دراسات في الحركة الكوردية المعاصرة 1833- 1946 ” دراسة تاريخية وثائقية “، تقديم: د.محمد هماوندي، منشورات التفسير، أربيل، 2003، ص 46 .
26- يقتفي أثر هذا الوصف عثمان علي في مصدره المذكور ” ص   ” وكذلك د. سعد بشير اسكندر: قيام النظام الإماراتي في كوردستان وسقوطه ” ما بين منتصف القرن العاشر ومنتصف القرن التاسع عشر “، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2005، في الفصل الخامس: الأمير بدرخان وتشكيل الكونفدرالية الإماراتية الكبرى 1838- 1947، ص 306 …إلخ

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…