عبد الستار نورعلي
أصدر الأديب حميد الحريزي عدداً منَ الأقاصيص، التي أسماها (الروايات القصيرة جداً)؛ بسبب قصرها الشديد، وكثافة وضغط السرد، واعتمادها على حدث وزمان ومكان واحد، وشخصية محورية، وعدم الإفراط والإفاضة في وصف دقائق الأشياء والشخصيات والأماكن من حيث شكلها الخارجي، أو دواخل الشخصيات وصفاتها الذاتية، مثلما اعتادت الروايات الكلاسيكية والمعاصرة الطويلة الضخمة، وذات الأجزاء العديدة لبعضها. فقد أطلَّ علينا بهذه الروايات القصيرة جداً)، والتي يتراوح عدد صفحاتها مابين 11 و 25 صفحة. وقد يكون أول روائي يكتب أقاصيص بهذا الحجم، ويُنظِّر لها بتلك التسمية ليكونَ رائداً فيها.
في تاريخ الرواية في العالم، وأجناسها من حيث الحجم، عرفنا الرواية الطويلة والرواية القصيرة. ومن أبرز وأشهر الروايات القصيرة، وأهمها من الناحية التقنية للرواية ومناهجها وقواعدها في السرد والحبكة، هي رواية (رسائل من أعماق الأرض) لديستويفسكي الصادرة عام 1864 والمؤلفة من حوالي 82 صفحة، والتي أسماها أيضاً مترجمها أنيس زكي حسن عام 1959 بـ(الإنسان الصرصار)، ورواية الألماني توماس مان (الموت في البندقية) الصادرة عام 1912، التي ترجمها الى العربية كميل قيصر داغر عام 1979 والمتكوّنة منْ حوالي 101 صفحة، وقد اسماها على الغلاف بـ(رواية)، وفي متن تقديمه لها أطلق عليها اسم (الأقصوصة والقصة)، ورواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي الصادرة عام 1952 والمؤلفة من 105 صفحات.
وبالمقارنة مع صفحات روايات الأستاذ حميد الحريزي هناك فارق عددي في الصفحات، قد يدفع بعض النقدة الى رفض تسميته أقاصيصَه هذه بـ(الرواية القصيرة جداً)، وما هي إلا أقاصيص أو روايات قصيرة. بالاعتماد على المنهج النقدي في القصة القصيرة والأقصوصة. وكما أشار الأستاذ الدكتور أبو المعاطي فخري الرمادي، أستاذ الأدب والنقد الحديث، في بحثه الموسوم بـ(الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين) عام 2003 ، إذ أشار الى “أنّ الرواية القصيرة ليست بحجم القصة القصيرة، ولا بحجم الرواية الطويلة، وغير محكومة بعدد الكلمات، كما أشير الى الأقصوصة التي حُدِّدَت بين 10.000 كلمة و20.000 . كما أنها (الرواية القصيرة) تمتاز بسرد مكثّف، وشخصية محورية واحدة، أو شخصيتين، وحدث محوري واحد، ومكان وزمان محدّد، وهي أيضاً من الخصائص الرئيسة للقصة القصيرة والأقصوصة.”
لذا فإنْ نظرنا الى طول الروايات القصيرة جداً الحريزية (نسبة الى حميد الحريزي) فإنها تحمل نفس الخصائص، الشخصية المحورية مثل الكلب في مذكرات كلب، وضويّة في (أرض الزعفران)، وحامد في (هذيان محموم)، إضافة شخصيات أخرى تخدم المضمون وتطور الحدث وسيره حتى النهاية. وهناك حدث محوري واحد، وأحداث متفرعة منه ضمن التصاعُّد في الحبكة القصصية للوصول الى النهاية والمفاجأة كما في رواية (هذيان محموم)، والتي تؤدي دورها في الهدف الأساس من كتابتها، وفي التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية النقدية لمؤلفها، والتي دفعته الى تأليفها، ووضع الظواهر السلبية التي تأخذ بخناق البلدان وشعوبها نحو التخلُّف والانحلال والسقوط والظلم والانهيار. وهو الهدف الرئيس الذي جعله الروائي والشاعر والناقد المفكّر حميد الحريزي ضمن أهدافه في المساهمة بالتغيير الحضاري، وهو طريقه الذي اختاره في فنه الأدبي؛ لأنّ الأدب جزء أساس في نشر الوعي والثقافة والتطور والتحوّل الحضاري بين أبناء الأمة، لأهمية الكلمة الحرّة المناضلة، ووقعها بين الناس. فهو من الأدباء الملتزمين بصرامة وثبات بقناعاته الفكرية التقدمية.
ومن خصائص الرواية القصيرة، كما حدّدها البعض من النقاد، أنها تميل الى السخرية والكوميديا والاستفزاز، وهو ما نقرأه في روايات الحريزي كـ(مذكرات كلب)، و(هذيان محموم)، أو تميل الى التراجيديا مثل رواية (أرض الزعفران)، ورواية (مقايضة). وكلُّ هذا يتناوله حميد الحريزي ضمن تعريته للواقع الاجتماعي والسياسي والديني السائد على الساحة العراقية والعربية، بأسلوب النقد الفني الأدبي الجميل، وهو مايمكن لنا اعتباره ضمن أدب الواقعية النقدية. فهو لا يصرَح ، وإنّما يُلمّح ويُرمِّز، ويترك للقارئ التأويل – رواية مذكرات كلب (النقد الاجتماعي)، وروايتي أرض الزعفران ومقايضة (النقد السياسي) – لكنّه في (هذيان محموم) يُصرّح من خلال الحوارات بين الشخصيات المُتخيَّلة، ويوجّه سهام نقده ورفضه الواقعَ السياسيَّ والاجتماعيّ والديني، وانتشار الخرافات والأساطير، والتفسيرات غير العقلانية للدين وشرائعه وسيطرتها على العقول، وكلّ هذا على لسان شخصيات الرواية.
لقد سبق للروائي والشاعر والناقد حميد الحريزي أنْ أصدر رواية طويلة بثلاثة أجزاء (محطات: العربانة، كفاح، البياض الدامي) رواية غطّتْ فترة زمنية طويلة، تاريخية سياسية اجتماعية، تمتد من أربعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، من خلال تأريخ الحزب الشيوعي العراقي. وهو الذي جعل الرواية طويلة جداً؛ لتغطية هذه الفترة، وذلك لكثرة الأحداث وضخامتها وخطورتها وأثرها الكبير الخطير على العراق والعراقيين، وكذلك لكثرة الشخصيات، وصراع الأفكار والإرادات.
لكننا نجده اليوم يتوجه الى الرواية القصيرة ذات الحبكة المكثفة والمركزة، والشخصية المحورية الواحدة أو أكثر بقليل، والزمن المضغوط، والمكان المحدّد. وهو لم يكتفِ بذلك، بل طلع بجنسٍ روائيٍّ آخر خارج منْ رحم الرواية القصيرة، مع احتفاظه وحرصه على الخصائص الفنية لها – وقد مررنا على بعضها – وأطلق عليها تسمية (الرواية القصيرة جداً). ثمّ نظَّرَ لها بعدد من الدراسات المستندة والمُفسّرة والشارحة للرواية في العالم، وتاريخها وظروف ظهورها وتطورها من الطول والضخامة والأجزاء المتعدّدة الى الرواية القصيرة، والأسباب التي تكمن وراء هذا التطور، المرتبط عضوياً بالتطور البشري والحضاري والاجتماعي والتكنولوجي، حتى وصل العالم الى ما هو عليه الآن من ضغط الحياة وسرعة حركتها، التي أثّرت بشكل عميق جداً وطبيعي على سرعة الملاحقة البشرية لما يجري، وهذا طبيعي بطبيعة الحياة، التي جعلت الإنسان لا يستطيع ملاحقة كلّ شيء، ومنها الآداب والفنون، فلم يعد يمتلك الوقت الفائض الطويل ليقرأ الطوال من الروايات، والدراسات، والمقالات، والقصائد المعلقات، والاستماع الى الأغاني، والمقطوعات الموسيقية الطويلة لساعات، بل يستطيع خلال دقائق معدودة أن يستمتع بعدد منها، فلم يعد بمقدوره إهدار وقته في الاستماع الى أغنية واحدة بطول ساعة أو ساعتين. وهذا التطور فوق إرادة الإنسان واختياراته.
وبما أنّ هذا التقدّم الحياتي الاجتماعي والتكنولوجي والتغيير ينسحب على كلّ نشاط إنساني، ومنها الفنيّ بالضرورة، فإنه يأخذ الرواية وتطورها أيضاً في طريقه. وبهذا ساد في الاتجاه الأدبي القصصي فنُّ القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية. وعليه اتجه حميد الحريزي لخلق لون روائي جديد، بما أنه وعى القفزة النوعية في التقنيات العلمية، وتغيّر الإنسان معها. وهي نظرة مستقبلية لا تختلف عن كلّ التطورات التي جرت في عالم الأدب نثراً وشعراً.
يقول الحريزي ضمن تعليله لأهمية الرواية القصيرة جداً – كما يرى ويدعو – في دراسة تنظيرية لهذا الجنس تحت عنوان (الرواية القصيرة جداً، موجبات الولادة، واشتراطات التجنيس) في صحيفة الحقيقة العدد 2699 /4.7.2024 :
“الإنسان في عصرنا الحالي مشغول دوماً بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لا تترك له المشاغل اليومية إلّا حيزاً محدوداً جداً من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموماً، مما جعل الرواية القصيرة جداً من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للإنسان ، وحمايته من الوحدة والتوحّد وجفاف الروح وتصحُّر المشاعر وغلاظة السلوك.”
كما يشير في موقع آخر من الدراسة، بعد ذكره لتاريخ الرواية عالمياً وظروف وأسباب انتشارها بطولها القديم الضخم، يشير الى متطلبات الواقعية التطورية الحياتية والتقنية للمجتمعات والناس، وربط كلّ ذلك بالصراع الطبقي، وبالبرجوازية بالذات، وتفاعلات حركة المجتمع مع حركتها والتغييرات الناتجة عنها سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، وبالضرورة أدبياً وفنياً لأنهما ضمن البنية التحتية للأنظمة الاجتماعية. ومن هذه المتطلبات المتعلقة بالتطور الحاصل في واقع يومنا هذا، برزت الحاجة الماسة لتطور الرواية، ومن رحم الرواية القصيرة كلونٍ روائيّ شائع، مثلما القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية، وكلِّ المتعلقات الفنية الأخرى. فيقول:
“هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكلّ فعالية إنسانية، في عالم لاهث، راكض، خاطف السرعة، في كلّ شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتُّع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للإنسان، كالأفلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية، لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للإنسان الراكض دوماً. وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعاً شديد الاختزال من الرواية، وما أسميناه بالرواية القصيرة جداً.”
ربما يعترض البعض من الأدباء والنقاد على هذا، مستندين الى الاشتراطات والقواعد والخصائص المنهجية للرواية، وللرواية القصيرة التي تنطبق ايضاً على روايات الحريزي القصيرة (جداً) مع فارق الطول بينها – كما ذكرنا سابقاً – ، إلّا أنّ الذي مرَّ بالأدب العربي على طول تاريخه الطويل من تطورات وتحديثات وتجديد، شكلاً ومضموناً، وفق التطور الاجتماعي والحضاري والزمني: الشعر الأندلسي، الموشحات، البند، شعر المهجر، الشعر الحر/شعر التفعيلة، قصيدة النثر، الومضة … إضافة الى التطور الفني في الموسيقى والغناء، والمسرح، والقصة (القصة القصيرة جداً)، والمقالة، فما الغرابة في أنّ تتطوّر الرواية مع الزمن بناءً على ما نشهده من قفزة تطورية حضارية تقنية اجتماعية، كما مرَّ ذكره، لتبرز الرواية القصيرة جداً، مع الاحتفاظ بحقّ النقد، والرأي والرأي الآخر، أي بين حقّ الرفض والقبول والحوار، كلُّ منْ موقفه وقناعاته الفنية. وهو ما يهدف اليه حميد الحريزي رائداً لها.
رواية (هذيان محموم) نموذجاً:
هي آخر رواية قصيرة جداً أصدرها الروائي والشاعر والناقد والباحث حميد الحريزي، بخمسٍ وعشرين صفحةً. تدور حول الشخصية المحورية الرئيسة وهو المؤلف (حامد): فهل هو مشتق من اسم الروائي نفسه (حميد)؟ أظنني لا أحيد عن الصواب؛ فبمقارنة بين شخصية حامد وأفكاره، ومواقفه وتطلعاته، حول الواقع الحياتي سياسياً واجتماعياً ودينياً، وبين ما نعرفه عن الأديب حميد الحريزي، أقول جازماً أنّه هو، لكنْ في إطار قصة فنتازية خيالية، وأراد من خلالها أنْ يكون حاضراً بجزء من شخصيته؛ ليعرض هذه الآراء والأفكار والتطلعات والآمال من خلال النقد الإيجابي لا السلبي، ضمن الإتجاه الأدبي بما يُسمى (الواقعية الاجتماعية النقدية).
يخرج بطل الرواية حامد على دراجته الهوائية ليجلب الثلج بعد انقطاع التيار الكهربائي ودرجة الحرارة أكثر من 55، وعند عودته الى البيت يقع مغشياً عليه، فيدخل في غيبوبة وحمى شديدة، ليبدأ في الهذيان بكلام غريب. وهو ما يدفع أهله الى الاعتقاد بأنه على مشارف الرحيل النهائي، فيأتي شيخ معمم ليقرأ عليه أدعية وصلوات عسى أن يعود الى وعيه، مع أنّ حامد لا يؤمن بهذه الأمور، ولم تنفع الأدعية، وجاؤوا بطبيب، ولم ينفع، فقال الطبيب لعائلته أن يتهيأوا لما هو أسوأ (موته). وأثناء ذلك كله كان حامد يسمعهم ويرد عليهم، ويهذي، إذ تراءى له كيف مات وكيف شيّعوه، وكيف دفنوه، وقرأوا عليه، وما شاهده في القبر، والتقى بموتى قربه. ثم ينتقل الى الآخرة بعد الحساب ليلتقي بفلاسفة ومفكرين وشعراء وكتاب، وحكام وخلفاء، والأنبياء والصالحين، مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين، والبابا، وأناس عاديين، فيتحاور معهم بما كانوا يطرحونه في حياتهم من أفكار وآراء ومواقف دينية وسياسية واجتماعية، وما جرى للبشرية بسببها من خلاف وصراع وحروب وضحايا. وفي النهاية يعترف الجميع بالأخطاء، وأثر ذلك على البشر في تفسيراتهم لما قدّم هؤلاء من معتقدات وتعاليم وشرائع، وكانت جميعها لصالح الإنسان ومنفعته، فيجتمعون معاً في وفاق ووئام وسلام في الآخرة. كما يستشهد خلال هذه الحوارات بأقوالهم واشعارهم. وفي نهاية الرواية (المفاجأة) يرجع حامد الى وعيه ليخبره أهله بما جرى له.
الرواية تمتاز بقصرها الشديد (جداً)، وتكثيف الحدث المحوري، والتركيز على مضمون فكريٍّ مُركّز، من خلال النقد الاجتماعي الفكري، ومحاولة تقويم الواقع السائد في المجتمعات البشرية من خلال تلك الأطروحات، ومنها مجتمعنا، وذلك بالمصالحة التي تمت بين الجميع في الآخرة، واجتماعهم معاً، وهذا أملٌ من الحريزي، يريد من خلاله أن يُبيّن بأنّ كلَّ الأديان والأنبياء والصالحين والفلاسفة والمفكرين على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتوجهاتهم ظهروا وكافحوا ونشروا أفكارهم، وتحمّلوا منْ أجلها ما تحملوا، كان منْ أجل خير الإنسان في كلّ مكان وزمان، انما العيب والخطأ والذنب يقع على عاتق المفسّرين وشيوخ التأويل وفق مصالحهم ومنافعهم ومواقعهم، وخبث البعض.
الرواية بقصتها الفنتازية الخيالية متأثرة وتسير على نفس النهج – برأيي الشخصي – بـ(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري 363-449 ه، و(التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي 382-426 ه، و(الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي اليجري 1265-1321 م، والتي جميعها تعتمد على الخيال والرحلة الى العالم الآخر والالتقاء بالشعراء والكتاب وغيرهم، والحوار بينهم والاستشهاد باقوالهم ومناقشتها معهم، مثلما نقرأ في (هذيان محموم)، مع الفارق أنّ تلك الكتب مُسهبة في كتابتها، ضخمة في حجمها، وهي كتب أدبية وليست روايات.
عبد الستار نورعلي
تموز 2024