بقلم: حمزة الحسن
1
ظاهرة الكاتب إبراهيم محمود في قراءة التراث، الواقع، العربي من موقع نقدي جسور ومغامر ظاهرة تستحق التعريف والاهتمام والقراءة لأنه يدخل مناطق معتمة خطرة مسكوت عنها أو لا تقال الا همسا أو لا تقال في الغالب مع انها الأكثر حركية في صنع التاريخ الحاضر والماضي.
1
ظاهرة الكاتب إبراهيم محمود في قراءة التراث، الواقع، العربي من موقع نقدي جسور ومغامر ظاهرة تستحق التعريف والاهتمام والقراءة لأنه يدخل مناطق معتمة خطرة مسكوت عنها أو لا تقال الا همسا أو لا تقال في الغالب مع انها الأكثر حركية في صنع التاريخ الحاضر والماضي.
والعربي والمسلم غير العربي الذي يقصي الجنس مثلا من حياته العامة ظاهرا يحلم بممارسته في الجنة، كما انه يقيم الدنيا ولا يقعدها من ملاحظة عادية أو كلمة يفسرها على أنها إهانة له، لكنه في السر يمارس كل أنواع الشبق المحرم بما في ذلك أشكاله الوحشية حين لا يكون هناك من يرى أو يسمع، وهذه الازدواجية وصنع الأقنعة تظهره في العلن بمظهر القديس والناصح والواعظ وصاحب الرسالة الأخلاقية لكنه في السر متهتك وخليع وكما قال النجاشي الحارثي المتوفى سنة 60 للهجرة وقبل نظريات فريد وتحليلات علي الوردي في الشخصية الازدواجية
إذا سقى الله قوما صوب غادية
فلا سقى أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساؤهمُ
والناكحين بشطي دجلة البقرا
السارقين، إذا ما جن ليلهمُ
والطالبين، إذا ما أصبحو السورا
المجتمعات القائمة على الوهم والستر والتخفي والجاه والمجاملات والخوف والمداراة ستنفجر بلا أدنى شك بحرب أو بدونها لان عناصر التفجير والتدمير داخلية ولا تحتاج سوى إلى فتيل أو شرارة أو عامل مفجر نسميه مرة” الفتنة” ومرة أخرى” الحرب” وثالثة ورابعة” القدر” والخ وهلم جرا، وإلا ليس من المعقول أن ينقلب الجار أو ابن المحلة أو الوطن وحشا بين لحظة وأخرى ويلتهم جاره أو يمزقه
هذه الوحشية المختبئة هي نتاج أزمنة طويلة من الكراهية المقنعة والكبت والكذب وثقافة التخويف كانت متربصة ومترصدة في انتظار غياب” القوة” كي تخرج كغوريلا تستحم بالدم، ولو كانت هذه العلاقات قائمة على مودة حقيقية واحترام الآخر المختلف لما ظهرت على هذا النحو البربري كما حصل عند شعوب كثيرة انهارت فيها الدول وأظهرت تماسكا متينا لأنه قائم ومؤسس على روابط صادقة وحقيقية: فلماذا ندفن رؤوسنا في الرمال؟
ولعل كتابه القيم ” الفتنة المقدسة” أو عقلية الخصومة من الكتب اللافتة للنظر حيث يفتح الكاتب والمفكر في هذا الكتاب صفحات منسية أو مقروءة قراءة عرقية أو حزبية أو مذهبية إما تمجد التاريخ أو جزء منه أو تحول الآخر المختلف إلى شيطان أو سوء مطلق
والتاريخ العربي الإسلامي زاخر بحروب وتناقضات وخلافات من هذا النوع حتى اليوم وفي كل عصر تأتي فرقة تعلن أنها الفرقة الوحيدة الناجية وتلغي الفرق الأخرى التي هي اسلامية أيضا أو تقلل من قيمتها، والمجتمعات العربية الاسلامية يكون مكون” الدم” عنصرًا فاعلا في حياتها ورمزا للشرف، البكارة، أو الثأر، أو الذبيحة: فهو مجتمع الأقنعة الدمائية
وسلوك عقلية الخصومة ليس حكرا على التيارات والمذاهب الدينية ولكنها أيضا تشمل الأحزاب جميعا من يسار ويمين لأن الغالب على برامج هذه الأحزاب هو هيمنة المكون العدائي العقائدي التناحري وهي تدخل في حوار السلاح متى ما توفر السلاح والدعم، ففي مجتمع يمارس المتعة المحظورة ـ الشذوذ ـ في السر ويرتدي قناع القداسة في العلن هو مجتمع مهزوم من الداخل وخارج التاريخ لان دخول التاريخ هو دخول مشاركة وفاعلية وليس دخول جثة أو عربة تجرها حداثة مجلوبة من الخارج
إن كل عناصر ” الفتنة المقدسة النائمة” قائمة وهذه خاصية الوعي المحارب الذي لا ينتج معرفة لأنه مشغول بثقافة التصفية والسجال وآلام العصاب النفسي المتحول إلى” ثقافة” وفي تبديد الوقت في ضبط الخصم متلبسا بموقف” فكري”مختلف ، فتاريخ هذه المنطقة بكل مكوناتها العرقية هو تاريخ: قبيلة ضائعة
الغريب والمضحك في الامر انه رغم كل الدمار، يأتي من البلهاء والموتى في الحياة من يقول: لا توقظوا الفتنة. ترى ماذا سيحدث أسوأ مما حدث؟ قيل للأجرب لا تأكل البصل. قال: ليس أسوأ من الجرب
ولماذا نترك” الفتنة نائمة” ولا نوقظها ونفحص تاريخنا ونقاطه الساخنة الخلافية ونزيل حقول الألغام منه بدلا من تركها” نائمة” كي يأتي من يوقظها بطريقة رغبية وفق مصالح خاصة سياسية واقتصادية ودينية وغيرها وندخل في الاحتراب الأهلي؟
حين تنام الفتنة، أو بتعبير أدق حين تطمر أو تخفى أو تؤجل، يسود السكون وليس بالضرورة أن يكون السكون سلاما أو عدلا، لكن المشكلة اننا نريد للرغبة أن تنام أيضا كي يعم السكون ـ القائم على العصاب ـ في الجسد الخاص والعام، لكن ماذا يحدث لو استيقظت الفتنة من النوم؟ الجواب هو الاحتراب الأهلي. ولكن ماذا يحدث لو استيقظت الرغبة من النوم أو الكبت؟ في المجتمعات الشرقية آليات وتقنيات قمعية لإعادة الرغبة الى النوم أو السبات أو التلاشي من المظهر العام، لكن هذا مستحيل: الرغبة كالفتنة تحتاج إلى تلبية وحرية كي تعبر عن نفسها أو تدمر الجسد العام ـ المجتمع، الفتنة ـ أو الجسد الخاص، الرغبة ـ الفرد. والسؤال: لماذا نريد للعواطف والمشاعر والأفكار والقوانين أن تنام؟
النبي الكريم قال” الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها” لكنه لم يقصد حذف الجدل والحوار حول التاريخ والمجتمع والأسرة والقوانين والخلافات. إن قضايا كثيرة جوهرية وضعت ـ زورا ـ تحت عنوان الفتنة وكانت بطاقة حجز لحروب أهلية مقنّعة، مستترة، أو سافرة
الفتنة النائمة تعني ثقافة غير مفحوصة، ومراجعة للذات لم تتمم، وقراءة علمية للتاريخ لم تحدث، وقطيعة بنيوية مع الماضي لم تقع، وهذا هو الذي يسهل على سياسيين أميين وجهلة ورعاع من الإمساك بالسلطة السياسية في كل فترة : لأن المصدات هشة، ولأن الزجاج قابل للكسر، ولأن الألغام كثيرة وخطيرة وقابلة للانفجار ويمكن التلاعب بها
مصدات هشة أو غائبة ولا وجود لها: مثل طبقة سياسية رصينة وعلاقات ثقافية محترمة وجدية ومؤسسات مجتمع مدني، ومحكمة عليا مستقلة ـ على الأقل كما في باكستان ـ وبرلمان حقيقي وصحافة حرة، وحقوق فردية وعامة وقواعد عمل سياسي مشرع لها بقوانين وضمانات اجتماعية ودستور يعكس قيم البلد في زمن ما، وقوانين تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وخطط تنمية مستقبلية وغير ذلك من المصدات
أما إذا كان كل ذلك غائبا، فإن نخبة أو عصابة تستولي على الحكم في الليل وتباغت الجميع ببيان وبرنامج وسجون وقوانين جديدة: ليس لأن هؤلاء أقوياء، ولكن المصدات، الزجاج هش لذلك يسهل الاختراق والعبث والدمار دون ان نتعظ حتى من الدم الذي يفيض اليوم عن مساحة الصحراء الكبرى
إن تقديس الشهوة على سبيل المثال يسلك سلوكا ملتويا على صورتين: نفي الشهوة في التقليد الاجتماعي واعتبارها رجسا من عمل الشيطان، ومن جهة أخرى كونها الحقل الأوسع للتفكير والمخيال. فكم نحن بحاجة الى نقد وحشي يفكك ويحلل ويشرح لا يدين ويصم، لأن ثقافة الوصم لا تنتج معرفة، المعرفة تنتج في مواجهة معرفة أخرى ـ ماركس مثلا في مواجهة هيجل الخ ـ ثقافة الوصم تنتج عارا وشتيمة وتؤسس لكوارث
وعقلية الفتنة هي عقلية تهرب من تفسير منطقي للتاريخ بحيث تظل وقائعه الحقيقية” نائمة” ويمنع الاقتراب منها لذلك ما أن يستيقظ عفريت الفتنة ـ الوعي أو النار أو الخلاف ـ حتى تقوم من سباتها ونلعن مشعلها مع ان السبب الجوهري في يقظة الفتنة هو في صراع مذهبي طائفي عرقي حول تفسير التاريخ أو التواطؤ الصامت على اهمال حلقاته المركزية التي تظل قابلة للاشتعال في كل عصر وعادة تكون بمكون خارجي لكن تبقى الأسباب الداخلية هي المحرك الأصلي، فنحن نحجز سريرا لجغرافية الملذات حتى ما بعد الموت، الجنس في الجنة، رغم الرصانة السطحية
فالصراع لا يزال قائما حتى اليوم حول من أحق بالخلافة علي أم غيره، كما لو أننا لم نغادر جلسة السقيفة مع أن غالبية شعوب العالم قد قامت بقطيعة معرفية مع تاريخها وتم تفسيره والانتهاء منه. أي أننا نحتاج إلى مهمة كونية في: إعادة تفسير التاريخ، وتصحيح الحاضر، ورسم المستقبل، كي نعيش لحظة ـ فقط لحظة ـ هناءة
ان شعوب العالم لا تأخذ ماضيها إلى المقهى أو الساحل أو الحدائق لكي تعيش لحظة مسرة. حتى اليوم لا نزال نناقش قضية المرأة كضلع أعوج وفي الوقت نفسه نركع له في الغرف المغلقة بل في الهواء الطلق
من الفتنة المقدسة الى الشبق المحرم ـ والشبق ليس الهوس بل الرغبة الصافية ـ إلى الجنس في القرآن إلى تقديس الشهوة وكتب كثيرة أخرى تشكل قراءة معمقة وممتعة لتاريخ يراد له ان يظل ” نائما” كي يستيقظ في مرحلة قادمة على صورة صراع دموي، وقراءة لحاضر يصر كثيرون على أن يرجع إلى الماضي ـ الصالح ـ عكس كل شعوب الأرض لان صراع الأئمة والسحرة مستمر حتى اليوم بصور جديدة
في جماليات الصمت قراءة غير معهودة للصمت من النقد العربي. إن الكاتب إبراهيم محمود يؤكد في هذا الكتاب على أن الكلام ليس نقيض الصمت لكن الصمت هو كلام آخر.
وفي صدع النص وارتحالات المعنى رؤية مبتكرة للطريقة الملتوية التي تظهر فيها النصوص وتموه على حقيقتها الأصلية، وفيه أيضا دراسة ممتعة عن” الانتحال” في الأدب العربي القديم والحديث، وكيف شوه المنتحلون القدماء تاريخ الشعر، والطرق التي يسلكها المنتحلون الجدد في اعادة صياغة قراءتهم على صورة أخرى مشوهة
كما حصل حين انتحل أحدهم قبل فترة قصيرة الفصل الأخير من روايتنا” سنوات الحريق” واختزلها بقصيدة بائسة دون ان يغير المناخ والمفردات والأسماء والجو، وبطريقة بدائية متخلفة تعود عليها في كل ما يكتب هو وغيره تفتقر حتى لأساليب الانتحال القديمة على يد خلف الأحمر مثلا وحماد الراوية في العصر العباسي
قراءة تجمع بين عمق الرؤية وبين لغة أدبية تشكل لوحدها غواية مدهشة حتى لو لم تقل شيئاً مع انها قالت ما لا يقال أو ما سكت عنه أو المحذوف والملغي والمستور؟ الفتنة في الجسد هي الغواية والرغبة الصافية، والفتنة في اللغة هي الحيرة والاضطراب، وفي القرآن تحمل أعمق الدلالات من الجمال إلى الإغراء إلى الفوضى. فلماذا نختصر مفاهيم الحياة بتفسير واحد رغبي ونؤجل هذه الألغام كي تنفجر في وقت لا نكون فيه مستعدين لحوار غير حوار الدم؟
فلا سقى أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساؤهمُ
والناكحين بشطي دجلة البقرا
السارقين، إذا ما جن ليلهمُ
والطالبين، إذا ما أصبحو السورا
المجتمعات القائمة على الوهم والستر والتخفي والجاه والمجاملات والخوف والمداراة ستنفجر بلا أدنى شك بحرب أو بدونها لان عناصر التفجير والتدمير داخلية ولا تحتاج سوى إلى فتيل أو شرارة أو عامل مفجر نسميه مرة” الفتنة” ومرة أخرى” الحرب” وثالثة ورابعة” القدر” والخ وهلم جرا، وإلا ليس من المعقول أن ينقلب الجار أو ابن المحلة أو الوطن وحشا بين لحظة وأخرى ويلتهم جاره أو يمزقه
هذه الوحشية المختبئة هي نتاج أزمنة طويلة من الكراهية المقنعة والكبت والكذب وثقافة التخويف كانت متربصة ومترصدة في انتظار غياب” القوة” كي تخرج كغوريلا تستحم بالدم، ولو كانت هذه العلاقات قائمة على مودة حقيقية واحترام الآخر المختلف لما ظهرت على هذا النحو البربري كما حصل عند شعوب كثيرة انهارت فيها الدول وأظهرت تماسكا متينا لأنه قائم ومؤسس على روابط صادقة وحقيقية: فلماذا ندفن رؤوسنا في الرمال؟
ولعل كتابه القيم ” الفتنة المقدسة” أو عقلية الخصومة من الكتب اللافتة للنظر حيث يفتح الكاتب والمفكر في هذا الكتاب صفحات منسية أو مقروءة قراءة عرقية أو حزبية أو مذهبية إما تمجد التاريخ أو جزء منه أو تحول الآخر المختلف إلى شيطان أو سوء مطلق
والتاريخ العربي الإسلامي زاخر بحروب وتناقضات وخلافات من هذا النوع حتى اليوم وفي كل عصر تأتي فرقة تعلن أنها الفرقة الوحيدة الناجية وتلغي الفرق الأخرى التي هي اسلامية أيضا أو تقلل من قيمتها، والمجتمعات العربية الاسلامية يكون مكون” الدم” عنصرًا فاعلا في حياتها ورمزا للشرف، البكارة، أو الثأر، أو الذبيحة: فهو مجتمع الأقنعة الدمائية
وسلوك عقلية الخصومة ليس حكرا على التيارات والمذاهب الدينية ولكنها أيضا تشمل الأحزاب جميعا من يسار ويمين لأن الغالب على برامج هذه الأحزاب هو هيمنة المكون العدائي العقائدي التناحري وهي تدخل في حوار السلاح متى ما توفر السلاح والدعم، ففي مجتمع يمارس المتعة المحظورة ـ الشذوذ ـ في السر ويرتدي قناع القداسة في العلن هو مجتمع مهزوم من الداخل وخارج التاريخ لان دخول التاريخ هو دخول مشاركة وفاعلية وليس دخول جثة أو عربة تجرها حداثة مجلوبة من الخارج
إن كل عناصر ” الفتنة المقدسة النائمة” قائمة وهذه خاصية الوعي المحارب الذي لا ينتج معرفة لأنه مشغول بثقافة التصفية والسجال وآلام العصاب النفسي المتحول إلى” ثقافة” وفي تبديد الوقت في ضبط الخصم متلبسا بموقف” فكري”مختلف ، فتاريخ هذه المنطقة بكل مكوناتها العرقية هو تاريخ: قبيلة ضائعة
الغريب والمضحك في الامر انه رغم كل الدمار، يأتي من البلهاء والموتى في الحياة من يقول: لا توقظوا الفتنة. ترى ماذا سيحدث أسوأ مما حدث؟ قيل للأجرب لا تأكل البصل. قال: ليس أسوأ من الجرب
ولماذا نترك” الفتنة نائمة” ولا نوقظها ونفحص تاريخنا ونقاطه الساخنة الخلافية ونزيل حقول الألغام منه بدلا من تركها” نائمة” كي يأتي من يوقظها بطريقة رغبية وفق مصالح خاصة سياسية واقتصادية ودينية وغيرها وندخل في الاحتراب الأهلي؟
حين تنام الفتنة، أو بتعبير أدق حين تطمر أو تخفى أو تؤجل، يسود السكون وليس بالضرورة أن يكون السكون سلاما أو عدلا، لكن المشكلة اننا نريد للرغبة أن تنام أيضا كي يعم السكون ـ القائم على العصاب ـ في الجسد الخاص والعام، لكن ماذا يحدث لو استيقظت الفتنة من النوم؟ الجواب هو الاحتراب الأهلي. ولكن ماذا يحدث لو استيقظت الرغبة من النوم أو الكبت؟ في المجتمعات الشرقية آليات وتقنيات قمعية لإعادة الرغبة الى النوم أو السبات أو التلاشي من المظهر العام، لكن هذا مستحيل: الرغبة كالفتنة تحتاج إلى تلبية وحرية كي تعبر عن نفسها أو تدمر الجسد العام ـ المجتمع، الفتنة ـ أو الجسد الخاص، الرغبة ـ الفرد. والسؤال: لماذا نريد للعواطف والمشاعر والأفكار والقوانين أن تنام؟
النبي الكريم قال” الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها” لكنه لم يقصد حذف الجدل والحوار حول التاريخ والمجتمع والأسرة والقوانين والخلافات. إن قضايا كثيرة جوهرية وضعت ـ زورا ـ تحت عنوان الفتنة وكانت بطاقة حجز لحروب أهلية مقنّعة، مستترة، أو سافرة
الفتنة النائمة تعني ثقافة غير مفحوصة، ومراجعة للذات لم تتمم، وقراءة علمية للتاريخ لم تحدث، وقطيعة بنيوية مع الماضي لم تقع، وهذا هو الذي يسهل على سياسيين أميين وجهلة ورعاع من الإمساك بالسلطة السياسية في كل فترة : لأن المصدات هشة، ولأن الزجاج قابل للكسر، ولأن الألغام كثيرة وخطيرة وقابلة للانفجار ويمكن التلاعب بها
مصدات هشة أو غائبة ولا وجود لها: مثل طبقة سياسية رصينة وعلاقات ثقافية محترمة وجدية ومؤسسات مجتمع مدني، ومحكمة عليا مستقلة ـ على الأقل كما في باكستان ـ وبرلمان حقيقي وصحافة حرة، وحقوق فردية وعامة وقواعد عمل سياسي مشرع لها بقوانين وضمانات اجتماعية ودستور يعكس قيم البلد في زمن ما، وقوانين تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وخطط تنمية مستقبلية وغير ذلك من المصدات
أما إذا كان كل ذلك غائبا، فإن نخبة أو عصابة تستولي على الحكم في الليل وتباغت الجميع ببيان وبرنامج وسجون وقوانين جديدة: ليس لأن هؤلاء أقوياء، ولكن المصدات، الزجاج هش لذلك يسهل الاختراق والعبث والدمار دون ان نتعظ حتى من الدم الذي يفيض اليوم عن مساحة الصحراء الكبرى
إن تقديس الشهوة على سبيل المثال يسلك سلوكا ملتويا على صورتين: نفي الشهوة في التقليد الاجتماعي واعتبارها رجسا من عمل الشيطان، ومن جهة أخرى كونها الحقل الأوسع للتفكير والمخيال. فكم نحن بحاجة الى نقد وحشي يفكك ويحلل ويشرح لا يدين ويصم، لأن ثقافة الوصم لا تنتج معرفة، المعرفة تنتج في مواجهة معرفة أخرى ـ ماركس مثلا في مواجهة هيجل الخ ـ ثقافة الوصم تنتج عارا وشتيمة وتؤسس لكوارث
وعقلية الفتنة هي عقلية تهرب من تفسير منطقي للتاريخ بحيث تظل وقائعه الحقيقية” نائمة” ويمنع الاقتراب منها لذلك ما أن يستيقظ عفريت الفتنة ـ الوعي أو النار أو الخلاف ـ حتى تقوم من سباتها ونلعن مشعلها مع ان السبب الجوهري في يقظة الفتنة هو في صراع مذهبي طائفي عرقي حول تفسير التاريخ أو التواطؤ الصامت على اهمال حلقاته المركزية التي تظل قابلة للاشتعال في كل عصر وعادة تكون بمكون خارجي لكن تبقى الأسباب الداخلية هي المحرك الأصلي، فنحن نحجز سريرا لجغرافية الملذات حتى ما بعد الموت، الجنس في الجنة، رغم الرصانة السطحية
فالصراع لا يزال قائما حتى اليوم حول من أحق بالخلافة علي أم غيره، كما لو أننا لم نغادر جلسة السقيفة مع أن غالبية شعوب العالم قد قامت بقطيعة معرفية مع تاريخها وتم تفسيره والانتهاء منه. أي أننا نحتاج إلى مهمة كونية في: إعادة تفسير التاريخ، وتصحيح الحاضر، ورسم المستقبل، كي نعيش لحظة ـ فقط لحظة ـ هناءة
ان شعوب العالم لا تأخذ ماضيها إلى المقهى أو الساحل أو الحدائق لكي تعيش لحظة مسرة. حتى اليوم لا نزال نناقش قضية المرأة كضلع أعوج وفي الوقت نفسه نركع له في الغرف المغلقة بل في الهواء الطلق
من الفتنة المقدسة الى الشبق المحرم ـ والشبق ليس الهوس بل الرغبة الصافية ـ إلى الجنس في القرآن إلى تقديس الشهوة وكتب كثيرة أخرى تشكل قراءة معمقة وممتعة لتاريخ يراد له ان يظل ” نائما” كي يستيقظ في مرحلة قادمة على صورة صراع دموي، وقراءة لحاضر يصر كثيرون على أن يرجع إلى الماضي ـ الصالح ـ عكس كل شعوب الأرض لان صراع الأئمة والسحرة مستمر حتى اليوم بصور جديدة
في جماليات الصمت قراءة غير معهودة للصمت من النقد العربي. إن الكاتب إبراهيم محمود يؤكد في هذا الكتاب على أن الكلام ليس نقيض الصمت لكن الصمت هو كلام آخر.
وفي صدع النص وارتحالات المعنى رؤية مبتكرة للطريقة الملتوية التي تظهر فيها النصوص وتموه على حقيقتها الأصلية، وفيه أيضا دراسة ممتعة عن” الانتحال” في الأدب العربي القديم والحديث، وكيف شوه المنتحلون القدماء تاريخ الشعر، والطرق التي يسلكها المنتحلون الجدد في اعادة صياغة قراءتهم على صورة أخرى مشوهة
كما حصل حين انتحل أحدهم قبل فترة قصيرة الفصل الأخير من روايتنا” سنوات الحريق” واختزلها بقصيدة بائسة دون ان يغير المناخ والمفردات والأسماء والجو، وبطريقة بدائية متخلفة تعود عليها في كل ما يكتب هو وغيره تفتقر حتى لأساليب الانتحال القديمة على يد خلف الأحمر مثلا وحماد الراوية في العصر العباسي
قراءة تجمع بين عمق الرؤية وبين لغة أدبية تشكل لوحدها غواية مدهشة حتى لو لم تقل شيئاً مع انها قالت ما لا يقال أو ما سكت عنه أو المحذوف والملغي والمستور؟ الفتنة في الجسد هي الغواية والرغبة الصافية، والفتنة في اللغة هي الحيرة والاضطراب، وفي القرآن تحمل أعمق الدلالات من الجمال إلى الإغراء إلى الفوضى. فلماذا نختصر مفاهيم الحياة بتفسير واحد رغبي ونؤجل هذه الألغام كي تنفجر في وقت لا نكون فيه مستعدين لحوار غير حوار الدم؟
* روائي عراقي
بعض نتاجات الكاتب والباحث ابراهيم محمود