من صوفيا الى بغداد … دعوة للحب والتواصل الحضاري

  فوزي الاتروشي
وكيل وزارة الثقافة في العراق

صوفيا مدينة مكتنزة بالجمال وبينابيعها العذبة , تنام بحنان قرب جبل (فيتوشا) الشهير بهوائه النقي ومناخه الشافي من الامراض , و(صوفيا) اصلاً فتاة يونانية التجأت الى هذا الجبل طلباً للشفاء والعافية , ومنها اشتقَّ اسم هذه المدينة عاصمة بلغاريا.
حين دخلتها في زيارة رسمية يوم 11/4/2008 عادت بي الذكرى الى يوم23/8/1977 حين اكتحلت عيناي برؤيتها لاول مرة.
وبين التاريخين حقب من الاعوام الصعاب الحافلة بالعمل والانجاز والكتابة والتطلع الى الافضل ومواصلة رحلة الحياة بأصرار حتى بزغ فجر يوم 9/4/2003 معلناً تحرير العراق الذي منحناه من الحب ما يكفي لكي يفرح بنا اليوم ولكي يفرش لنا صدره المتراوح بين الجبل والسهل والهور .
قبل ان ابدأ مواعيد الزيارات الحًّ عليًّ القلب والعقل ان ازور معهد الطلبة الاجانب حيث درست قبل (25) عاماً اللغة البلغارية التي مازلت اتقنها ,  سألت عن مُدرستي (ماريا ماركوفا) التي كانت تتضامن معنا في تلك السنوات العجاف ضد نظام الحروب والدمار والوحشية في بغداد . هي منحتنا اكثر من اللغة متجاوزة ذلك الى الذوبان في همومنا الشخصية ونحن في الغربة في ريعان الشباب .
ولحسن الحظ وجدت من دلـًّني الى هذه الشخصيـــة الرائــــعة وهي تبلــــغ الان من العمر (74) عاماً . تحدثت اليها وكانت لا تصدق ماتسمع ولم يتسعها كل فرح الدنيا وهي ترى تلميذهـــــا الصغير يتذكـــــر بعد كل ما تراكم من السنين ومن الشجون والشؤون والمشـــــاغل فقالت “ان هذا الوفاء يدهشني ويدهشني اكثر انك مازلت تتكلم لغتنا بكل سلاسة” . ربما كانت هذه الكلمات هي الاكثر صدقاً والاكثر قوة في زيارتي الاخيرة الى هذا البلد العامر بالزهور وبمياه البحر الاسود وقوافل السياح التي تتوافد عليه .
قالت لي زميلتي الصحفية اليونانية (ايليني ليونتيتسي) التي درست ايضاً في بلغاريا وزارت العراق وكوردستان ان انعاش هذه الذكريات والاشياء والتفاصيل الجميلة في الذاكرة مهم جداً لكي تكتمل الزيارة بجانبها الانساني , فالعلاقات بين الناس مثل الزهور يتحتم رعايتها بالسقي وبما يغذيها ويطيل امد ازدهارها وانفتاحها وابتسامتها وبخلاف ذلك يحين اجلها بأسرع مما نتصور .
وهي على حق حين اكدت ان العلاقات الثقافية هي الارضية الصلبة لتنمية اواصر خضراء سياسية ودبلوماسية بين الدول فوشائج الثقافة تحصن ما عداها من مستويات العلاقة وقد تحميها في قادم الايام من الانقطاع .
لم اجد في بلغاريا ما يشعرني بالغربة فالتواصل على مدار اليوم مع منابر الثقافة والاعلام ومع الشخصيات السياسية والبرلمانية والمثقفين واعضاء الهيئة الادارية لـ “المنتدى العراقي” الذي يثابر لتنقية تقاسيم وجه العراق من الشوائب التي علقت به وللقيام بنشاطات تنعش اسم العراق في ذاكرة الشعب البلغاري .
هذا المنتدى قدم جملة من الاقتراحات التي تصبُّ في مجرى تطويره وتنمية عمله ولا يسعني هنا سوى مناشدة السفارة العراقية في بلغاريا لوضعها في دائرة الاهتمام .
كانت الندوة السياسية مع المثقفين العراقيين مناسبة للمصارحة والمكاشفة حول وضع العراق الجريح بفعل قساوة الارهاب ووحشيته , وكنا جميعاً في الندوة مجمعين على ان مفخخات الارهابيين واحزمتهم الناسفة سوف تنسفهم اولاً من الذاكرة العراقية والانسانية قبل ان تنسف احلام وامال اطفال العراق بغد اجمل .
في اللقاء مع اربع صحف بلغارية ومع مجلة (عالم واحد – one world) كان التأكيد على موقع الثقافة ودورها في بلد يكاد يأكله الارهاب ومثلما في اليونان كان البلغار ايضاً مهمومين لما حصل لكنوز حضارة وادي الرافدين من نهب وسرقة وطرحوا اسئلة جدية حول اليات استعادتها وفي مقابلتي المطوًّلة مع صحيفة (مونيتور – Monitor) كان هذا الموضوع العنوان الرئيسي المكتوب بخط عريض .
سوف يكون مقالي قاصراً ان لم اتوجه من القلب بالشكر لطاقم السفارة العراقية في صوفيا الذي استقبلني بحنان واقام مأدبة عشاء تخللها الحديث الاخوي الشيق في مطعم بلغاري قدم الغذاء مطعًّماً بالفن التراثي وقدم الفن وجبة لتغذية النفس والقلب تأكيداً لمقولة ان الموسيقى غذاء العقول والقلوب ولغة الشعوب . فتحية صداقة لسعــــادة السفير (فوزي العبد الله) والملحق التجاري وسكرتير السفارة , اما الزميل (د. علي ميكائيل ساركي) فأنه تجاوز في لطفه وكرمه وعواطفه الساخنة الخط المألوف وقدم نموذجاً راقياً للسلوك الحضاري سواء في مرافقته لي في كل اللقاءات التي تضمنها جدول الاعمال او في نزهاته معي في شوارع مدينة اردت ان اكتشف ما طرأ من تغيير على شكلها وتفاصيل جسدها والوان ثيابهــــــا وتضاريس حياتها اليومية بعد كل هذه السنين . وكانت مفاجـــــأة حلوة من (د. علي) الملحق الثقافي العراقي انه دعاني الى منطقة (بانجاريفو) القريبة من صوفيا والاقرب الى قلبي منذ كنت شاباً في بلغاريا حين كنا نزورها لأكل السمك , المنطقة لم تتغير بعد كل هذه السنين والسمك الطازج مازال حاضراً , وكنت وانا اتتبع عيون الحــــاضرين في المطعم اتذكر (شــــارع ابو نؤاس) الذي كان ينـــــام ويصحو على نكهة السمك النهري اللذيذ واذا به اليوم مجرد قطعة من الذكرى . ولأن (د. علي ميكائيل) وزوجته البولونية المفروشة القلب للضيوف وطفله الجميل اعــــانوني بدعوتهم لي الى هذا الموقع الجميــــــل لأستحضـــار بيدر الذكريــــات اليًّ والاغتراف منه مجدداً , فلهم مني آية حب لا تفنى بل تسهم في تنمية علاقة عنوانها صداقة خضراء ودائمة ووعود بلقاءات قادمة . اما الفنان التشكيلي (نعمان الشيخ) فقد كان تكريمه لي فيه من الرومانسية ما جعلني انجذب اليه والى كلمــــاته المفعمة بالحيوية وهويسلمني صورة تجمعه مع زملائه خريجي معهد الفنون الجميلــــة لعام 1954 اي في العـــــام الذي رأت فيه عيوني النور , وكانت اللوحة الرائعة المتدفقة بالوان الحياة المتفائلة والتي اهداها اليًّ عنواناً للحب سيضاف الى الابد الى عناوين الحب والصداقة الحالمة والنقية التي احتفظ بها في القلب والذاكرة ولا حاجة لي لدفتر الهواتف والعناوين لتسجيلها لأنها داخلي مثلما النقش على حجر .

 ————-
         
اليونان والعراق … صداقة تستحق التنمية

فوزي الاتروشي
 وكيل وزارة الثقافة في العراق

اليونان دولة منتشرة ثقافياً في العالم فحيثما وجدت جالية يونانية يجد المرء معها لمسات التاريخ والحضارة والكنوز السحيقة في القدم , فاليونانيون يسرحون في بقاع الارض وهم يفتخرون بعراقة التاريخ .
لذلك وجدت معالم الاسى والاسف كلما ذكرت ان كنوز المتاحف العراقية تعرضت للسرقة والنهب واننا في وزارة الثقافة بصدد استردادها بطرق شتى .
في اللقاء مع الاحزاب اليونانية والتجمعات الثقافية ومع المنابر الاعلامية كان هذا الموضوع حاضراً . فوجدتهم يسألون عن (اور) و(بابل) و(المتحف الوطني) ومشاريع وافكار الحكومة العراقية ومعالم الحضارة وعناوين العراقة في العراق . انهم في سؤالهم عن حاضر العراق لا ينسون تاريخه وماضيه .
رئيس احد الاحزاب اليونانية ذكر لي انه مستعد لدعوة المسؤولين الثقافيين لكل الاحزاب اليونانية للتداول في هذا الامر ومساندة العراق لأستعادة كنوز تاريخه لأن حضارة العراق لا يمكن ان تضيع حتى في المتاحف وكانت نقطة الالتقاء الكبيرة بين كل المحافل التي التقيتها انها مستعدة لأحياء اسبوع ثقافي عراقي – يوناني على مستوى عال من المهنية والنوعية بحيث يكون مدخلاً لفهم جديد للمجتمع اليوناني لحقيقة ما يدور في العراق . 
في اليونان كما في عديدة اخرى ثمة تعتيم على الاشياء الجميلة في العراق من فن وادب وابداع ومظاهر الحياة والمنجز الفكري , بسبب سيادة ضباب الارهاب وغبار الاطلاقات النارية ودوي الهاونات وانهار الدماء التي تسببها المفخخات .
لا احد يعلم ان جدار الارهاب الاعمى لم يستطيع ولن يستطيع ان يمنع براعم الورود من الانفتاح على الشمس والندى ان ارادة الحياة لدى العراقيين فيها من العزم والتصميم ما يكفي لكي يجعل الارهاب يلقى حتفه . حين شرحت لهم ما جرى في بغداد في يوم المسرح العالمي وكيف ان فناني المسرح العراقيين هرعوا سيراً على الاقدام بسبب انقطاع مظاهر الحياة في بغداد ذلك اليوم  للمشــــاركة في الاحتفال الرائع الذي اقامتـــــــــه مديرية السينما والمسرح والذي حفل بالورود الحمراء وابتسامات الامل من الفنانات والفنانين وبالعروض المسرحية والموسيقية , اقول حين شرحت تفاصيل ذلك اليوم للاصدقاء اليونـــــــــانيين , كان ذلك مبعث اندهاش واعجـــــــاب للصحفية (يوركيا داما) التي سبق ان زارت كوردستــــان العراق وللصحفية (ئيليني ليونتيتسي) التي اعرفها منذ (16) عاماً وسبق لها ان زارت المنطقة وهي على معرفة جيدة بأحوال العراق .
اليونانيون لا سيما نخبتهم الثقافية لهم حساسية تجاه امريكا وذلك يعود لأعتبارات تاريخية على الاغلب حيث ساندت امريكا تركيا ابان الهجوم التركي على اليونان عام 1972 بسبب المسألة القبرصية وقد واجهت هذه الاشكالية حيثما ذهبت خلال زيارتي لليونان , ولكن حين نشرح لهم ملابسات القضية العراقية وتعقيداتها وسياقات تطورها الى الحد الذي استدعى العامل الخارجي لدحر الدكتاتورية , فأن مسؤولي الاحزاب في اليونان ومثقفيهم يتفهمون الخطأ في العراق ويستوعبون خطورة اللجوء الى الاحكام المسبقة والجاهزة على الشعب العراقي واحزابه المشاركة في العملية السياسية .
يبقى ان لليونانيين حلقة وصل بنا نحن العراقيين فهم يعترفون بعراقة البلدين اليونان والعراق وبأوجه الشبه بين الحضارتين اليونانية والعراقية ويقولون نحن اصدقاء في العراقة والقدم وهذا جسر يمكن المرور عليه لبناء صداقة خضراء وعامرة بالامل , فالعراق ظل على مدى (35) عاماً من الدكتاتورية على قطيعة مع نفسه ومع الجوار ومع العالم وقد آن له ان ينطلق نحو كل زوايا الارض بأثوابه الحقيقية وبتقاسيم وجهه الخالية من الرتوش لبناء وتنمية كنز من الصداقات المثمرة .

اثينا – اليونان  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…