إنَّها الرِّيح ومضةٌ شعريةٌ في قساوة الحياة

صبري رســول

تأتي مجموعة ” إنَّها الرِّيحُ ” للشاعر والكاتب عمر كوجري ، بعد زمنٍ طويل من الانتظار ، حيث يكتبُ الشاعر في صحف ودوريات مختلفة ومنذ التسعينات ، وهي مجموعته الشعرية الأولى ، بعد مجموعته القصصية الأولى ( القطا تراقص النَّهر الجميل ) الصادرة عن دار المجد بدمشق عام 1992م .

تنقسم المجموعة إلى قسمين أ – أذكر التفاصيل جيداً . ب – من دفتر العائلة .
جاءَ عنوان المجموعة (إنَّها الرِّيح ) مراوغاً بالمعنى الشِّعري ، ( إنَّ ) هذا الحرفُ مطرقةٌ في التأكيد الكلامي في علم النّحو، يتصدَّر الجملة الاسمية لتوكيد المعنى ، وجرَّ معها في العنوان ضمير الأنوثة المفردة الغائبة ، دون الإعلان عنها ، وكأَنَّ كلّ آلامهِ منها ، وجاءتْ لفظة ( الرِّيح ) لبيان حال الشَّاعر الغارق في الألم  ، والرِّيحُ ، المفردةُ النّزقةُ ، تحمل في طيات معانيها العواصف والكوارث ، عكس المعنى إذا كانت جمعاً ( الرِّياح ) التي تأتي بالخيرات والنِّعَم على البشر ، فالكوجريةُ صارت ريحاً صَرْصَرَة تعصف بأوجاعه الكثيرة . أمّا لو كان العنوان ( كأنّها الريحُ ) لاختلف المعنى كليَّاً .
و جاء الإهداء كنصٍّ شعريِّ قصيرٍ : (إلى التي جرحتُها .. أنا والهواءُ كثيراً ) فقد جرَحَهَا الشَّاعرُ كثيراً بالتَّواطؤِ مع الهواء . فالإهداء مكثّفٌ ، ومعبّرٌ عن مرحلةٍ كاملةٍ من مراحل التَّألق العمري ، يلخِّصُ في الوقت نفسِه معاركَه الكثيرة مع الأنثى ، الحبيبة ، والصديقة ، و الزوجة . وينمُّ عن تعلّق الشّاعر بشخصية حبيبته التي تعيشُ معه بكلِّ  ” التفاصيل الصّغيرة ” التي يذكرها في القسم الأول ، واعترافه ذاك دلالة عودة الشّاعر إلى ذاته المتألمة.
القسم الأول يتضمن سبعة عشر عنواناً، منها أحد عشر عنواناً يتمدّد أكثرها إلى حجم الجملة الكاملة ، ولهذا التّمدّد علاقة لغوية بالفنّ الشعري ، ومعظمها يتكوّن من الجملة الاسمية التي تدلّ على الاستمرارية والثبات في المعنى ( أصابعي حين تشتعل بك ، عابر إلى عشب الجسد ، وردة حين نحرت القصيدة ، زبيبك الذي تعاصى …) ؛ وينكمشُ ستة عناوين في كلمةٍ واحدة ، انعكاساً لأنفاس الشّاعر المتلاحقة المتسارعة ،وهذا التباين يعكس حالة القلق الشعري لدى كوجري ، في القسم الثاني : (دفتر العائلة )  خمسة عناوين ، ثلاثة منها أسماء أولاده المختارة بعناية شعرية ، فكلُّ ولدٍ أتى معه بقصيدة مختلفة ، يزّيّن السّجل العائلي الذي بات ديواناً شعريّاً يؤرّخ مراحل تكوين العائلة ، والرابع لأمّهم دون تسميتها ، بينما القصيدة الأخيرة في دفتر العائلة عبارة عن ضمير واحد للمتكلم ( أنا) دون تفاصيل أخرى . وكأنّه يعلن بأنّ هذه المجموعة الشعرية هي ( أنا ) .
في هذه المجموعة تتسامى بعض القصائد إلى الشعرية المكثَّفة ، فينبثقُ منها وميض الصّورة ، متجسَّدةً الحالة الوَلَهيّةَ من العشق ، فيتماهى الحبيبان في سموِّ الحبّ ، ويذوبان في عرض الشارع ، ( … وأحيناً يسلّمنا لفسحات دمشق / التي تضيقُ../ ومن على مقعدِ الحديقة كانت تكفيني/ حقيبتكِ../ الحدُّ بين فخذكِ/ وفخذي) صـ26ــ . حبيبان ينتميان إلى أمكنة جغرافية متباعدة ، قامشلي ، دمشق ، لكنَّهما يخوضان مغامرةَ الحبِّ على مفترق الطّرق ، وكوجريّتُه ، الدمشقّيَّة ، الإدلبية ، الجزراوية ، لا فرق في ذلك ، تلاحقه بهمس العناق: اكتبني ، و انثرني /على حافة الكلام / ليقرَأَنا العابرون / …/ ما بيننا بحارُ الضّوء / ما بيننا كلامٌ سنُنجِزُه على الورق أو على السّرير) صـ30ـ . ويغدو الوصفُ الحسِّي سمةً من سمات الشِّعرية في نصوص المجموعة ، والوصف الحسّي في الشّعر ينوبُ عن النّقل الفوتوغرافي للواقع المتخيل ، ويضع القارئ أمام خيارٍ وحيد ، المشاركة في إعادة قراءة النّص ، وصياغته ، في محاولة لتقريب الصورة إلى ذهنه ، دون مراوغة :/ فتاة طافحة بأنوثتها / تهزُّ بدلال رأسَهُ / تشدُّ ياقة قميصه / زامة شفتيها إلى الأمام ..الأمام كثيراً / لتنعَمَا بشفتيه المرتجفتين /  وبأنفَةِ الفتوة يشدُّها إليه / فتسيلُ بكلِّها عليه )صـ36ـ
كما لا تتوانى النّصوص في رسمِ العلاقة بإيحائية كوجرية ؛ فالكوجريةُ الطافحةُ بالأنوثة ريحٌ تعصفُ بالشَّاعر، لكنّه تحتَ وطأة جمال الأنثى ، يقع في معتقل الدّهشة ، فيترك قطيعَ أغنامه في صقيع الجزيرة وقيظها ، باحثاً عن دفءٍ مختبئٍ في جغرافية المرأة ، فيأتي النَّصّ الشّعري أحياناً كثيرة لابساً عباءة السّرد ، ليقصَّ للمتلقي تفاصيل الحدث الشّعري . ( هكذا سأحزم قلبي ، وآتي إليكِ / أترك صمت القرية / ومواويل الكبار ، والساقية التي ما روتني / أترك طقوسي وصلواتي وأشيائي القليلات / أهرب إليكِ ..إليكِ وحدكِ ) صـ55ـ . هكذا يحاولُ الشاعر  اكتشاف مناطق بكر في الحسّ الشعري ، بوجدانية سامية ، وكأنّ ليس للشعر موطنٌ إلا الوجدان.
وفي دفتر العائلة ، يظنُّ أنَّ هذه العائلة لم تكن سوى قبيلةَ عشقٍ مشرّدة ، تكوّنتْ ، تنثرتْ ، التأمتْ ، زادتْ ، تشرّدتْ ، دون أنْ تقرّر مصيرها ، كانتْ قشّة طاشت بها الرّيح ، وجاء كلُّ فردٍ دون موعد ، ليكتوي بنار الحياة ، و يشاغب من أجل البقاء ، فيجعل كوجري من القصيدة ساحة مفتوحة للمعاني المتدفقة بسلاسة الشلال ، حتى لو تعلّق الأمر بهمومِ النّاس اليومية . 
وحدها الأمّ تمدّهم بالحياة المتدفقة ( كيف تحمّلتِ كلّ هذه السنين / رعونتي / وما زالت في يدكِ أصابعُ / وفي قلبكِ متّسعٌ لي / وللأولاد .. وللفرح .)صـ100ــ .
أمّا ما يتلق بالنَّص الآخر ، أو ما يُسمَّى بالنَّص الموازي ، في المصطلح  النّقدي ، يمكن القول  بأنّه نصٌّ مضطرب ، يحيط بتلابيبه الارتباك ، فغلافُها ، باعتباره زخرفة الرسالة الشعرية يوحي بالغموض العاتم ، صمّمتها جيهان خير ، وكأنّها تعرف حجم الارتباك في مواضيع النّصوص ، فمساحةٌ بيضاء تحتلُّ ثلثي الصّفحة ، تتوسط في ثلثه الأوسط الجنوبي لوحةٌ فنيّة لا تُبرِزُ كثيراً ملامحَ الرجل الهارب من المجهول إلى المجهول ، كأنَّ لا اتّجاه له ، وهي للشاعر طه خليل .
ما يُؤْخَذُ على المجموعة أنّ فنية الطّباعة لا ترتقي إلى الجودة الفنية العالية بما يليق الشّعر في بريقه الجامح  رغم إصدارها على نفقة مؤسسة كبيرة ( مؤسسة سما الثقافية ـ دبي – الإمارات ). فقد جاءت فنية عرض العناوين خافتةً وخجولةً، بحجم خطّها المشابه بحجم خطّ النصّ. فالعنوان ، باعتباره العتبةَ الدّالة إلى النّص ، والمدخل الفاصل ، بين القارئ والقصيدة ، ينبغي أنْ يكونَ المصباحَ المنير إلى فضاء النّص ، من حيث الحجم والمغايرة على الأقلّ ، لكن لم يأتِ العنوانُ معه ما يأخذ بيد القارئ ، فبقي متكئاً على الدلالة اللغوية وحدها .
أخيراً ، يقفُ القارئ ، في نهاية قراءته للمجموعة ، يتنفّسُ حسراتٍ ، وهزائمَ ، مشاركاً مع النصّ في وجدانياته الطاغية ، وجدانياتٌ يريد الشاعر أنْ يطرحها على النّاس ، في وقتٍ ، لا أحد يهتمُّ بالوجدان إلا الشّعراء .
 
==================
إنّها الرّيح
المجموعة الشّعرية الأولى للشّاعر عمر كوجري
النّاشر : مؤسسة سما  للثقافة و الفنّ ، إمارات.
إصدار 2008م  دار هيرو – لبنان .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: إدريس سالم

 

يطرح مازن عرفة في روايتيه «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية» أسئلة إنسانية وجودية عميقة؛ عن الحرب والموت، التهجير القسري والمنفى، الغربة الداخلية والعزلة النفسية، مرارة الذكريات عن بلاد مدمّرة والحنين لحياة اختفت، يكاد أن يتحوّل إلى نوستالجيا مرضية. هي أسئلة عن معنى الكينونة الإنسانية، في عوالم الحروب العبثية الوحشية المستمرّة في مجتمعاتنا، بارتباطها بعوالم…

مروة بريم

 

نهارات الشّتاء قصيرة، تكاد تتساوى حصتها الزمنية في البقاء، مع وميض النجوم البعيدة، حينما كانت تشرخ زجاجَ أعيننا بإحصائها ونحن صغار، ثم تغافلنا بالخفوت، وتختفي.

حينها كان الوقتُ فَيوضًا كافيًا لفعل كل شيء، لكنّه الآن أضيق من أن يحتمل صغائر بوحنا، يشيح بوجهه ويمضي في تدفق عجول كنهرٍ يدفعه الشّوق للوادي، وتتزاحم احتياجاتنا فوق رفوف التّأجيل.

في…

عبد الجابر حبيب

 

في المذبحِ،

يُغسلُ خطايا الأرضِ

بحنوّ الكهنةِ،

وبرجاءِ الأراملِ،

لكن، لم يتوقّعْ أن يأتي

من خبّأ جحيمه تحتَ قميصٍ مستعار،

ففجّرَ التوبةَ،

وذرّى جسدَ الغفرانِ في الهواء!

حتى جعلَ من الركوعِ موتاً،

ومن “آمين” طلقةً.

 

***

 

في كنيسةِ مار إلياس،

ارتجفتِ الأيقوناتُ،

تشقّقتْ ملامحُ القدّيسين،

مزّقتْ مريمُ عباءتَها،

وصاحت من خلف الخشبِ:

“يا بنَ الإنسان،

مَن سلّمكَ أمرَ الحياةِ والموتِ؟”

 

***

 

انحدرَ الضوءُ من قلبِ الناقوس،

مثل خيطٍ من ذهبٍ قديم،

احترقَ في…

نظّم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بالتعاون مع اتحاد كتاب كردستان سوريا أمسية ثقافية احتفاءً بتوقيع إصدارين أدبيين لكل من الكاتبتين يسرَى زبير إسماعيل وليلاس رسول، وذلك في مدينة إيسن الألمانية، وسط حضور نوعي من المهتمين بالشأن الثقافي من كتاب وشعراء وصحفيين ومتابعين للشأن الأدبي الكردي.

افتتحت الأمسية بتقديم الكاتب خورشيد شوزي لمجموعة الشاعرة…