خالص مسور
إن كلمة (Culture) أي الثقافة باللغة اللاتينية، مقتبسة معناها من الحراثة وكسر الأرض البور، وتهيئتها لأستقبال بذورزراعات تفيد الناس والمجتمع، ومثلها تكسير جاهلية الإنسان الجاهل، وتهيئته لأستقبال أنوار العلم ومشكاته. ويعرف (تايلور) الثقافة بقوله (الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والإعتقاد والفن والأخلاق والقانون والتقاليد، وأي من القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع ما).- مجلة النهج- العدد- 14- ربيع 1998- ص- 257.
أما كلمة الثقافة العربية فهي مقتبسة من تثقيف الرمح أي تسويته وإزالة اعوجاجه، وجعله مستقيماً صالحاً للطعان والنزال. معنى هذا ان المثقف إنسان شرح الله صدره وأضاءه بنور العلم، وقومت اعوجاجات أفكاره وسلوكه، وأزيلت الزوايا المعتمة في أذهانه، من خلال معاناة ورحلة طويلة مضينة بين ضفاف أنهر الثقافة وقيعانها، ناهلاً من ذخائرها النفسية ومن رحيق عصارة أزهارها الفواحة، ليزداد عقله ألقاً يبدد به ظلام الجهل والتخلف، الذي ران على مجتمعه والذي هو بأمس الحاجة إلى خلاصة أفكاره النيرة وما يحمله من علم ومعرفة، ولذلك يسمى المثقفون عادة بالمتنورين أي أنهم مصابيح يشعون وسط دياجير وظلام الجهل والتخلف.
هناك -على الدوام- علاقة جدلية بين العلمي والوعي، إذ كلما أزداد المرء علماً، كلما أزداد وعياً، ونأى بنفسه عن المملكة الحيوانية، خائضاً في بحرالإنسانية الزاخر ومثلها الحضاري السائر.
وللثقافة الدور الأهم في تقدم المجتمعات الإنسانية قاطبة، فهي تسهم في صناعة الوعي وتنيرالدروب والعقول وتلعب دور المرشد والناصح الأمين، وتقي المرء من الإنزلاقات والمخاطر وعثرات الأزمان. ولهذا أرى أن على الثقافة الكردية أن تتوجه نحو استلهام التراث، والعقلانية، والإنفتاح، وثقافة التحرير والفكر المقاوم، وعدم السماح لترسيخ ظاهرة الفكرالإغترابي في المجتمعات الكردية، حيث العقلانية تدفع بالمجتمع نحو التطور والإرتقاء والعمل على نشر مثل هذه الثقافة المستنيرة، والقضاء على الفكر الغيبي التواكلي، وتعميق الفكر الإستراتيجي المخطط، وخلق مثقفين نوعيين ومتنورين، قادرين على التعاطي مع المستجدات، على مختلف الصعد وعلى الساحتين القومية والإجتماعية بشكل خاص.
يقول لينين عن المثقفي بأنهم ( أعين مجتمعاتهم ) فبعينيه يتحسس المرء طريقه في الظلام ويتلمسه، وبالثقافة تكتسب المجتمعات فرادتها وخصوصيتها المتميزة، بين المجتمعات الإنسانية وأقوامها فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
ويقول المفكر الإيطالي (غرامشي). ( إن المثقفين يشكلون أحد الجوانب الأساسية في البنية الفوقية لكل تشكيلة اقتصادية – اجتماعية.)
بينما نقول: أن المثقفين بالإضافة إلى هذا وذاك، فهم ضمائر أممهم وعناوين تغييرها ونهضتها، ومقايسس حضارتها وتقدمها، والروافع لرسالتها بين الأمم والأوطان الأخرى.
وإذا ما عدنا إلى حفريات الذاكرة التاريخية، سنرى أن السرعة القياسية في إنجاز حضارات الشعوب الأوربية ونهضتها من رقدة العدم الطويلة، كانت بفضل مساهمات إبداعية مما يدورفي عقول رجال متنورين حاملين لأفكارالنهضة والتقدم، كالنهضة الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي على يد ( ليوناردو دافنشي )، و( مايكل انجلو) و (رفائيل إيتان) وغيرهم، وفي فرنسا مثقفوا عصر الأنوار. (ديكارت) و (جان جاك روسو)، و (مولير). وفي اليونان القديمة. (سقراط) و (أرسطو) و(أفلاطون) و (ديوجين)… وفي مصر في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك الوالي المتنور (محمد علي باشا)، و المثقف البارز (رفاعة رافع الطهطاوي)، و(علي عبد الرزاق) و (محمد عبده) . . .الخ
تلك أسماء ثقافية لامعة في سماء حضارات العالم وتاريخ الشعوب، أسماء أيقظت أمماً من رقدتها وضخت دماء الخلود في شرايينها، وجلبت للبشرية الرخاء والخير العميم.
والمثقفون الجادون – في العادة – مفرطوا الإحساس بفضل رؤاهم، المستنيرة تجاه قضايا مجتمعاتهم والإنسانية معاً، ويحسون بما لا يحس به غيرهم. ولهذا يتوجب على مثقفي الأمم وخاصة في العالم الثالث وبأخص الخصوص في كردستان الإلتزام بقضايا شعوبهم وأممهم، ومواصلة الجهاد ورفع راية ثقافة التحرير والمقاومة بالقلم والكتابة إن كانت بلادهم واقعة تحت استعمار واحتلال، مساهمة منهم في دعم حركات شعوبهم التحررية حتى نيلها حقوقها المشروعة وإيصالها إلى الحياة الحرة الكريمة، واضعين أقلامهم في خدمة هذا العمل النبيل، ساعين إلى تنوير أذهان الناشئة وتوعيتهم وزرع بذور الأمل، والتفاؤل، والمستقبل في نفوسهم، وأن يصبحوا قوة فاعلة ومؤثرة على الساحتين السياسية والإجتماعية معاً، وأن يكونوا على مستوى المسؤلية الملقاة على عاتقهم، واحتلال مواقعهم في طليعة مجتمعاتهم ويكونوا عيونها الساهرة التي لا تغفل أبداً. وأن يجدوا في أنفسهم القيادة والتنظيم في عملية النضال الوطني التحرري، وتجاوز المواقع الخلفية. ونبذ حالة الإغتراب والمثقف السلبي العاجز، وعدم الرضى بالوقوف موقف المتفرج واللامبالاة تجاه القضايا التي تمس وطنه وشعبه، وكذلك على القضايا الساخنة الجارية على الساحتين الوطنية والعالمية معاً.
وفي اعتقادي أن المثقف الذي يتعامل بمثل هذه المقاربات السلبية الخاطئة مع قضايا أمته، فلا يقصص عليها إن كان قاصاً، ولا يتغنى بأمجادها إن كان شاعراً، ولا يستثير عواطفها وأحاسيسها إن كان مغنياً . . .الخ. فلن يكون سوى مثقف رديئ الصنعة بار (الكارات) سرعان ما يفقد ثقة شعبه به والذي ما يلبث أن ينآى عن نتاجاته وما يكتب، إذ أن لشعبه عليه حقاً، وللسانه عليه حق، ولإنتمائه عليه حق، ولكن لا ينكر أن المثقف، أياً كان لا يستطيع التحرك بما فيه الكفاية دون وجود هامش من حرية الكتابة، وهذا هو حاله في العالم الثالث عموماً، أما المثقف الكردي – بشكل خاص – إن كان باستطاعته التحرك ولو لخطوة واحدة، فلتكن هذه باتجاه طموحات شعبه وما يريد، وألا يضع نصب عينيه تسلق الأبراج العاجية، وإلا فلن يغفر له أحد- عندئذ- زلته هذه، ومن المفيد أن نشير إلى أن الكثير من الكتاب والباحثين الكرد، قد قطعوا أشواطاً لا بأس بها اليوم نحو ثقافة جادة، ملتزمة ورصينة نوعاً ما، واضعين نتاجاتهم في خدمة قضايا شعوبهم وأممهم، وآخرون – ومما يؤسف له – لا يزالون يكتبون رياء ومفاخرة نتاجات خاوية على عروشها، لا تمت إلى ثقافة التحرير والصمود التي يحتاجها الكرد في هذه المرحلة الحساسة من تاريخهم. علماً بأن مجالات الكتابة في فضاءات الثقافة الكردية رحيبة واسعة، تنتظر من ينبش فيها ويكشف محتواها وكنوزها. فتضم بين ثناياها الكثير من امكانيات الإبداع والبحث والإستقصاء ويمكن منها استخراج الكثير من أحداث وريت، وتواريخ طمست، ولغة لم يستنفدها الشعر والنثر صورها وبلاغتها، ومأثورات شعبية لم يوفها أحد حقها من الدراسة بعد من وحكم وأمثال، وقصص وأساطير، لازالت تحفظ في الصدور وتنتظر من يفتح مغاليقها ليستخلص منها العبر والمآثر، ومفاهيم المجتمع الكردستاني وتاريخه، إلى مثل هذا فليتوجه المثقفون الكرد للبحث والإستقصاء وإجلاء الحقيقة، مهما كانت العوائق والصعاب، وبإمكان من لم تسعفه قواه منهم، استمداد العزيمة والقدرة من المثقف التركي ذاك الإنسان النبيل ( اسماعيل بيشكجي ) الذي لا يكاد يخرج من سجن إلا ليدخل آخر، في سبيل أفكاره الانسانية ودفاعه المجيد عن الكرد، الذين يشكلون جزءاً من هذه الإنسانية، فلم يرض الرجل لقوميته أن تضطهد قومية أخرى، ( و ليس حراً شعب يضطهد شعباً آخر)، فعمله هذا – والذي هو في نفس الوقت دفاعاً عن الشعب الكردي- يأتي كذلك في سياق الدفاع عن الشعب التركي ذاته، حتى يتمتع الشعبان بحريتهما الحقيقية كاملة وغير منقوصة. ونستطيع القول: بأن المثقفين الكرد كانوا يتوزعون – وحتى عهد قريب – بين لونين من ألوان الثقافة، ثقافة مقاومة والتزام بقضايا الشعب، مع امتدادات موازية لها على مستوى شعوب المنطقة بل الإنسانية كلها، أي أن الكرد يشتركون في هذه مع شعوباً أخرى كالشعب الفلسطيني المكافح مثلاً، وثقافة انتهازية منحرفة عن مسارها راحت تستجدي مساحات من الحرية، توفرت لها امكانية تقديم نتاجاتها خارج الفضاءات التي من المفترض أن تتواجد فيها، ويمثلها مثقفون يحملون في أفكارهم وعياً سلبياً للواقع الكردستاني، وسيكولوجية مهزومة من الأعماق بمفهومها الإقصائي الإنسلاخي، البعيد عن ثقافة المقاومة والتحرير، بتأثيرات خارجية، وبدافع من مصالحهم الآنية في آن واحد.
إن بروز ظاهرة المثقف الإنتهازي – السادي، الذي يستخدم ثقافته في سبيل رفع مكانته الإجتماعية وتعويض مركب النقص في شخصيته الموشحة بدثار الخوف والرعب، يعود إلى جذور تاريخية – سياسية موغلة في القدم، وقد أدت هذه الحالة – وبشكل عام إلى تهميش وتأخر ظهور المثقف الكردستاني الجاد، ويالتالي تخلفه عن ركب الالتزام وابتعاده عن ثقافة المقاومة والتحرير. وأعتقد أن الحالة الأخيرة أي ظاهرة المثقف الإنتهازي بدأت تنحصر كثيراً وبخطوات متسارعة، نتيجة لإنتشار الوعي القومي وللمستجدات التي حدثت على الساحة الدولية، وهبوب رياح العولمة والإنفتاح، الذي حدث على مستوى العالم ككل.
وتمتلك الثقافة الكردية مقومات استمرارها تاريخياً، مع إرادة ووعي الحفاظ على خصوصيتها تجاه ثقافات الأمم الأخرى، ولكن هذه الإستقلالية النظرية للثقافة الكردية تدفعها الثقافات الإقليمية إلى التفاعل وتبادل التأثير معها، فالخطورة هنا تكمن في عملية التذويب والصهر ضمن ثقافة الأقوى، ولا سيما في حالات تقاعس المثقف المقاوم عن واجباته في البحث والتوعية للمواطنين، عن طريق أبحاثه وكتاباته لترسيخ ما هو خصوصي ومميز من التراث الكردي في أذهان الناشئة الكردية، حيث يتعرض الفولوكلور الكردي إلى الإمحاء والتهميش وحتى الإستلاب وخاصة في مجال اللغة الفن وتغيير سيماءاتهما التاريخية، بإدخال قليل من التحريف إليها، حتى تبدو غير كردية.
والمثقف الكردي الجاد، بشكل عام يعاني من ثقل القيود على حريته في التعبير والكتابة عن مشاكله وهمومه، الأمر الذي يؤدي به إلى إقصاء الخصوصي والإعجاب بالثقافات الإقليمية والمعولمة، ولا سيما أن هذا الخصوصي – كما قلنا – لا يزال بحاجة إلى الكثير من البحث والإستقصاء ليصار إلى بلورة مفاهيم تعزز الإنتماء إلى ثقافة وطنية أصيلة، ليست متحفية قارة، أو ماضوية مثقلة بالجمود والتحجر، بل ثقافة مشرعة النوافذ والأبواب على مختلف أنواع الثقافات الإنسانية الأخرى، تهدف إلى تحرير الإنسان الكردي سياسياً واجتماعياً، وترسيخ الوعي الديموقراطي لديه، والتفاعل بمقاربات موضوعية ايجابية مع ثقافات الشعوب الأخرى وخاصة المجاورة منها.فالهوية الثقافية يجب أن ترتبط بواقعنا الإجتماعي الراهن، وأن تعبر بشكل إبداعي أصيل عن حركة هذا الواقع ومفاهيمه، وأن تجسد تطلعات وآمال الشعب وخلق مثقفين ملتزمين بثقافة التحرير، يجدون في أنفسهم صفات القيادة والتضحية ومطلوب أيضاً من (الإنتليجنسيا) الكردية في هذه المرحلة التركيز أكثر على ابراز الجوانب السياسية – التاريخية – اللغوية في كتاباتهم بلغة الأم ونقلها أيضاً وترجمتها إلى لغات الشعوب المجاورة والعالمية كذلك، والعكس صحيح أيضاً، ليتسنى للكرد الإطلاع على ماضيهم فيبنون عليه حاضرهم، ويثبتوا للآخرين خصوصية وتفرد الشعب الكردي وإنه كبقية شعوب العالم يملك إرثاً وتاريخاً مجيدين ولغة يتكلمها (40) مليوناً من الأنفس، حيث الهوية الثقافية للكرد تتعرض اليوم لشتى أنواع الهجوم عليها، هجوم لا ينطلق من محاولات إنكار الثقافة والتراث الكرديين فقط، بل وإنكار كل ما له صلة بالكرد، حتى وصل الأمر بالبعض على إنكار وجوده أيضاً!.
هناك -على الدوام- علاقة جدلية بين العلمي والوعي، إذ كلما أزداد المرء علماً، كلما أزداد وعياً، ونأى بنفسه عن المملكة الحيوانية، خائضاً في بحرالإنسانية الزاخر ومثلها الحضاري السائر.
وللثقافة الدور الأهم في تقدم المجتمعات الإنسانية قاطبة، فهي تسهم في صناعة الوعي وتنيرالدروب والعقول وتلعب دور المرشد والناصح الأمين، وتقي المرء من الإنزلاقات والمخاطر وعثرات الأزمان. ولهذا أرى أن على الثقافة الكردية أن تتوجه نحو استلهام التراث، والعقلانية، والإنفتاح، وثقافة التحرير والفكر المقاوم، وعدم السماح لترسيخ ظاهرة الفكرالإغترابي في المجتمعات الكردية، حيث العقلانية تدفع بالمجتمع نحو التطور والإرتقاء والعمل على نشر مثل هذه الثقافة المستنيرة، والقضاء على الفكر الغيبي التواكلي، وتعميق الفكر الإستراتيجي المخطط، وخلق مثقفين نوعيين ومتنورين، قادرين على التعاطي مع المستجدات، على مختلف الصعد وعلى الساحتين القومية والإجتماعية بشكل خاص.
يقول لينين عن المثقفي بأنهم ( أعين مجتمعاتهم ) فبعينيه يتحسس المرء طريقه في الظلام ويتلمسه، وبالثقافة تكتسب المجتمعات فرادتها وخصوصيتها المتميزة، بين المجتمعات الإنسانية وأقوامها فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
ويقول المفكر الإيطالي (غرامشي). ( إن المثقفين يشكلون أحد الجوانب الأساسية في البنية الفوقية لكل تشكيلة اقتصادية – اجتماعية.)
بينما نقول: أن المثقفين بالإضافة إلى هذا وذاك، فهم ضمائر أممهم وعناوين تغييرها ونهضتها، ومقايسس حضارتها وتقدمها، والروافع لرسالتها بين الأمم والأوطان الأخرى.
وإذا ما عدنا إلى حفريات الذاكرة التاريخية، سنرى أن السرعة القياسية في إنجاز حضارات الشعوب الأوربية ونهضتها من رقدة العدم الطويلة، كانت بفضل مساهمات إبداعية مما يدورفي عقول رجال متنورين حاملين لأفكارالنهضة والتقدم، كالنهضة الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي على يد ( ليوناردو دافنشي )، و( مايكل انجلو) و (رفائيل إيتان) وغيرهم، وفي فرنسا مثقفوا عصر الأنوار. (ديكارت) و (جان جاك روسو)، و (مولير). وفي اليونان القديمة. (سقراط) و (أرسطو) و(أفلاطون) و (ديوجين)… وفي مصر في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك الوالي المتنور (محمد علي باشا)، و المثقف البارز (رفاعة رافع الطهطاوي)، و(علي عبد الرزاق) و (محمد عبده) . . .الخ
تلك أسماء ثقافية لامعة في سماء حضارات العالم وتاريخ الشعوب، أسماء أيقظت أمماً من رقدتها وضخت دماء الخلود في شرايينها، وجلبت للبشرية الرخاء والخير العميم.
والمثقفون الجادون – في العادة – مفرطوا الإحساس بفضل رؤاهم، المستنيرة تجاه قضايا مجتمعاتهم والإنسانية معاً، ويحسون بما لا يحس به غيرهم. ولهذا يتوجب على مثقفي الأمم وخاصة في العالم الثالث وبأخص الخصوص في كردستان الإلتزام بقضايا شعوبهم وأممهم، ومواصلة الجهاد ورفع راية ثقافة التحرير والمقاومة بالقلم والكتابة إن كانت بلادهم واقعة تحت استعمار واحتلال، مساهمة منهم في دعم حركات شعوبهم التحررية حتى نيلها حقوقها المشروعة وإيصالها إلى الحياة الحرة الكريمة، واضعين أقلامهم في خدمة هذا العمل النبيل، ساعين إلى تنوير أذهان الناشئة وتوعيتهم وزرع بذور الأمل، والتفاؤل، والمستقبل في نفوسهم، وأن يصبحوا قوة فاعلة ومؤثرة على الساحتين السياسية والإجتماعية معاً، وأن يكونوا على مستوى المسؤلية الملقاة على عاتقهم، واحتلال مواقعهم في طليعة مجتمعاتهم ويكونوا عيونها الساهرة التي لا تغفل أبداً. وأن يجدوا في أنفسهم القيادة والتنظيم في عملية النضال الوطني التحرري، وتجاوز المواقع الخلفية. ونبذ حالة الإغتراب والمثقف السلبي العاجز، وعدم الرضى بالوقوف موقف المتفرج واللامبالاة تجاه القضايا التي تمس وطنه وشعبه، وكذلك على القضايا الساخنة الجارية على الساحتين الوطنية والعالمية معاً.
وفي اعتقادي أن المثقف الذي يتعامل بمثل هذه المقاربات السلبية الخاطئة مع قضايا أمته، فلا يقصص عليها إن كان قاصاً، ولا يتغنى بأمجادها إن كان شاعراً، ولا يستثير عواطفها وأحاسيسها إن كان مغنياً . . .الخ. فلن يكون سوى مثقف رديئ الصنعة بار (الكارات) سرعان ما يفقد ثقة شعبه به والذي ما يلبث أن ينآى عن نتاجاته وما يكتب، إذ أن لشعبه عليه حقاً، وللسانه عليه حق، ولإنتمائه عليه حق، ولكن لا ينكر أن المثقف، أياً كان لا يستطيع التحرك بما فيه الكفاية دون وجود هامش من حرية الكتابة، وهذا هو حاله في العالم الثالث عموماً، أما المثقف الكردي – بشكل خاص – إن كان باستطاعته التحرك ولو لخطوة واحدة، فلتكن هذه باتجاه طموحات شعبه وما يريد، وألا يضع نصب عينيه تسلق الأبراج العاجية، وإلا فلن يغفر له أحد- عندئذ- زلته هذه، ومن المفيد أن نشير إلى أن الكثير من الكتاب والباحثين الكرد، قد قطعوا أشواطاً لا بأس بها اليوم نحو ثقافة جادة، ملتزمة ورصينة نوعاً ما، واضعين نتاجاتهم في خدمة قضايا شعوبهم وأممهم، وآخرون – ومما يؤسف له – لا يزالون يكتبون رياء ومفاخرة نتاجات خاوية على عروشها، لا تمت إلى ثقافة التحرير والصمود التي يحتاجها الكرد في هذه المرحلة الحساسة من تاريخهم. علماً بأن مجالات الكتابة في فضاءات الثقافة الكردية رحيبة واسعة، تنتظر من ينبش فيها ويكشف محتواها وكنوزها. فتضم بين ثناياها الكثير من امكانيات الإبداع والبحث والإستقصاء ويمكن منها استخراج الكثير من أحداث وريت، وتواريخ طمست، ولغة لم يستنفدها الشعر والنثر صورها وبلاغتها، ومأثورات شعبية لم يوفها أحد حقها من الدراسة بعد من وحكم وأمثال، وقصص وأساطير، لازالت تحفظ في الصدور وتنتظر من يفتح مغاليقها ليستخلص منها العبر والمآثر، ومفاهيم المجتمع الكردستاني وتاريخه، إلى مثل هذا فليتوجه المثقفون الكرد للبحث والإستقصاء وإجلاء الحقيقة، مهما كانت العوائق والصعاب، وبإمكان من لم تسعفه قواه منهم، استمداد العزيمة والقدرة من المثقف التركي ذاك الإنسان النبيل ( اسماعيل بيشكجي ) الذي لا يكاد يخرج من سجن إلا ليدخل آخر، في سبيل أفكاره الانسانية ودفاعه المجيد عن الكرد، الذين يشكلون جزءاً من هذه الإنسانية، فلم يرض الرجل لقوميته أن تضطهد قومية أخرى، ( و ليس حراً شعب يضطهد شعباً آخر)، فعمله هذا – والذي هو في نفس الوقت دفاعاً عن الشعب الكردي- يأتي كذلك في سياق الدفاع عن الشعب التركي ذاته، حتى يتمتع الشعبان بحريتهما الحقيقية كاملة وغير منقوصة. ونستطيع القول: بأن المثقفين الكرد كانوا يتوزعون – وحتى عهد قريب – بين لونين من ألوان الثقافة، ثقافة مقاومة والتزام بقضايا الشعب، مع امتدادات موازية لها على مستوى شعوب المنطقة بل الإنسانية كلها، أي أن الكرد يشتركون في هذه مع شعوباً أخرى كالشعب الفلسطيني المكافح مثلاً، وثقافة انتهازية منحرفة عن مسارها راحت تستجدي مساحات من الحرية، توفرت لها امكانية تقديم نتاجاتها خارج الفضاءات التي من المفترض أن تتواجد فيها، ويمثلها مثقفون يحملون في أفكارهم وعياً سلبياً للواقع الكردستاني، وسيكولوجية مهزومة من الأعماق بمفهومها الإقصائي الإنسلاخي، البعيد عن ثقافة المقاومة والتحرير، بتأثيرات خارجية، وبدافع من مصالحهم الآنية في آن واحد.
إن بروز ظاهرة المثقف الإنتهازي – السادي، الذي يستخدم ثقافته في سبيل رفع مكانته الإجتماعية وتعويض مركب النقص في شخصيته الموشحة بدثار الخوف والرعب، يعود إلى جذور تاريخية – سياسية موغلة في القدم، وقد أدت هذه الحالة – وبشكل عام إلى تهميش وتأخر ظهور المثقف الكردستاني الجاد، ويالتالي تخلفه عن ركب الالتزام وابتعاده عن ثقافة المقاومة والتحرير. وأعتقد أن الحالة الأخيرة أي ظاهرة المثقف الإنتهازي بدأت تنحصر كثيراً وبخطوات متسارعة، نتيجة لإنتشار الوعي القومي وللمستجدات التي حدثت على الساحة الدولية، وهبوب رياح العولمة والإنفتاح، الذي حدث على مستوى العالم ككل.
وتمتلك الثقافة الكردية مقومات استمرارها تاريخياً، مع إرادة ووعي الحفاظ على خصوصيتها تجاه ثقافات الأمم الأخرى، ولكن هذه الإستقلالية النظرية للثقافة الكردية تدفعها الثقافات الإقليمية إلى التفاعل وتبادل التأثير معها، فالخطورة هنا تكمن في عملية التذويب والصهر ضمن ثقافة الأقوى، ولا سيما في حالات تقاعس المثقف المقاوم عن واجباته في البحث والتوعية للمواطنين، عن طريق أبحاثه وكتاباته لترسيخ ما هو خصوصي ومميز من التراث الكردي في أذهان الناشئة الكردية، حيث يتعرض الفولوكلور الكردي إلى الإمحاء والتهميش وحتى الإستلاب وخاصة في مجال اللغة الفن وتغيير سيماءاتهما التاريخية، بإدخال قليل من التحريف إليها، حتى تبدو غير كردية.
والمثقف الكردي الجاد، بشكل عام يعاني من ثقل القيود على حريته في التعبير والكتابة عن مشاكله وهمومه، الأمر الذي يؤدي به إلى إقصاء الخصوصي والإعجاب بالثقافات الإقليمية والمعولمة، ولا سيما أن هذا الخصوصي – كما قلنا – لا يزال بحاجة إلى الكثير من البحث والإستقصاء ليصار إلى بلورة مفاهيم تعزز الإنتماء إلى ثقافة وطنية أصيلة، ليست متحفية قارة، أو ماضوية مثقلة بالجمود والتحجر، بل ثقافة مشرعة النوافذ والأبواب على مختلف أنواع الثقافات الإنسانية الأخرى، تهدف إلى تحرير الإنسان الكردي سياسياً واجتماعياً، وترسيخ الوعي الديموقراطي لديه، والتفاعل بمقاربات موضوعية ايجابية مع ثقافات الشعوب الأخرى وخاصة المجاورة منها.فالهوية الثقافية يجب أن ترتبط بواقعنا الإجتماعي الراهن، وأن تعبر بشكل إبداعي أصيل عن حركة هذا الواقع ومفاهيمه، وأن تجسد تطلعات وآمال الشعب وخلق مثقفين ملتزمين بثقافة التحرير، يجدون في أنفسهم صفات القيادة والتضحية ومطلوب أيضاً من (الإنتليجنسيا) الكردية في هذه المرحلة التركيز أكثر على ابراز الجوانب السياسية – التاريخية – اللغوية في كتاباتهم بلغة الأم ونقلها أيضاً وترجمتها إلى لغات الشعوب المجاورة والعالمية كذلك، والعكس صحيح أيضاً، ليتسنى للكرد الإطلاع على ماضيهم فيبنون عليه حاضرهم، ويثبتوا للآخرين خصوصية وتفرد الشعب الكردي وإنه كبقية شعوب العالم يملك إرثاً وتاريخاً مجيدين ولغة يتكلمها (40) مليوناً من الأنفس، حيث الهوية الثقافية للكرد تتعرض اليوم لشتى أنواع الهجوم عليها، هجوم لا ينطلق من محاولات إنكار الثقافة والتراث الكرديين فقط، بل وإنكار كل ما له صلة بالكرد، حتى وصل الأمر بالبعض على إنكار وجوده أيضاً!.
وقد نلمس شيئاً من الركود الثقافي وندرة الحالة الإبداعية لدى الكرد وهذا يعود على برأيي إلى أن الخطاب الثقافي الكردي، لن ينفلت بعد من إسار القديم وعدم الإنحراف عما هو مرسوم له سلفاً، أي ترسيخ النمطة في الفكر والممارسة وغياب المشروع الثقافي، ووجود الامية واللغة الموحدة، مما ادى إلى ضعف الدور الفعال للخطاب الثقافي وتهميشه وهيمنة ثقافة الفضائيات الاستهلاكية، وإلى حالة الابداع والمتلقي من الجمهور الحاضن للثقافة، وهنا علينا الإقتراب بجدية من قضايا الناس والإلتزام بمستوى راق من المضمون والفكر، وإضافات ماهو جديد وعدم اجترارماهو موجود. كما يتوجب أن يكتب المثقف في جو من الحرية الثقافية وأن تكون العلاقة بين المبدع و الجمهور علاقة تفاعل إيجابي بناء.