متاهة الصَّمت.. قصّة قصيرة

صبري رسول

ترسمُ المشهدَ بريشتها الصَّغيرة، وتظلّله بألوان الصَّمت. فتَظهر الحيويةُ بدون ضجيج كصورة فتوغرافية.
لا تُظهِرُ ما يوحي بأنَّها ترسمُ بطلبٍ من أحدٍ، تُتقنُ عملها بمهارةٍ عالية، وتتّخذ من الصَّمت مكاناً للمرسم ، وطقساً شخصياً لعملها الفني.

دخلنا القرية صباحاً، كنا ثلاثة، نبحثُ عن أحوالِها التي باتت محيّرة للنَّاس، بين مصدّق ومشككٍ بها؛ فمنهم من يراها صورة أسطورية، رغم ما بها من مظاهر الزَّمن الحالي المنفلت من قيود الحسابات، ومنهم من يراها حالة منقادة بفعل المسيّرين لأحوالها. دخلناها عند انصراف الناس لشؤونهم اليوميّة، فوجدناها غارقة في الصَّمت الضبابي الكثيف، لم نسمع صياح الديوك، ولا خوار الأبقار، ولا ثغاء الأغنام، لم نسمع صياح الأطفال؛ ومظاهرُ الحركة الطبيعية القوية باديةٌ عليها.
في البيادر الفسيحة كانت الحصادات الخضراء تعمل نشيطة، غبار التّبن يرسم حزماً بيضاء خلفها، والفلاحون يقدمون لها أكواماً من الحصيد، لكن لم نسمع لها هديرا ولا صوتَ أحدٍ ينادي الآخر، كلٌّ يؤدّي عمله بإتقانٍ؛ في الطريق الترابي بين القرية والنبع كانت الفتيات يتمايلنَ بقاماتهن الرشيقة في طريقهن إلى نبع القرية، ذاهبات وعائدات حاملاتٍ جرارهن على أكتافهن، لم نسمع ما يجري بينهن من أحاديث ودردشات، ولا أغنياتٍ شعبية تنشدُها الرّيفيات في أعمالِهن. في مزارع الكروم كان الفلاحون يعملون بنشاط ، منهم من يبني سياج المزرعة بحجار بازلتية سوداء، ومنهم من يقطف عناقيدَ عنبٍ ويجمعها في سلالٍ من قصب، ولم نلحظ بأنهم يتحدثون مع بعضهم، ولم نسمع لهم كلاماً وكأن على رؤوسهم الطير. في الطّرف القصيّ من القرية وعلى الصخرة المنبطحة قرب النَّهر كانت النساء يغسلنَ الصُّوف بضربات من العصي، وينشرنَه على أكياس الخيش وقصب البردي المفترش على حافة النّهر، والصغار حولهن يقفزون ويسبحون في البرك الصغيرة، و لم نسمع شيئاً من هذه الحركة.
وحده الصّمت سيد الموقف، وكأنَّ النَّاس قد ابتلعَوا ألسنتهم، أو كأنَّ الكلام بات محرَّماً عليهم؛ سحناتهم معجنة بتقاسيم بصمات الشَّمس.
مظاهر العمل والحياة اليومية تؤكد استمرارية طبيعية لنشاط النَّاس. وحدَها كانت تلك الفتاة الصّغيرة جالسة على كرسيٍّ صغير أمام أحد البيوت الطينية الواطئة، ترسمُ المشاهد القروية بألوانٍ زاهيَّةٍ، تلوّنُ سراويل الفلاحين بالرمادي الكالح، وتنشر غسيل الصُّوف بلون القطن اللامع، وتصفُّ عناقيد العنب بالأحمر الدَّكن، وتترك البيوت متناثرة بفوضوية على كلّ الجهات، لكنها كانت تعمل وفق قانون فتنة الصَّمت الذي يغلّفُها بثقله الضبابي. ترسمُ المشهدَ، وتظلّله بألوان الصَّمت. لاحظنا قبل مغادرتنا القرية بأنَّنا ننتقل إلى عالم السّكوت، فلم نعُد نتحدَّث مع بعضنا، نكتفي بتسجيل عوالم النَّاس بصمت.
asia966@hotmail.com

الرّياض في 1512009م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

كان في صدري شرفة تطل على سماوات بعيدة،
أعلق عليها أمنياتي كفوانيس صغيرة،
حتى وإن كانت الحياة ضيقة، كنت أزيّنها بخيوط من الأمل،
أجمع فتات الفرح، وأصنع منه أحلامًا تكفيني لأبتسم.
كنت أعيش على فكرة التغيير، أتنفسها كل صباح،
وأخطط، وأتخيل، وأصدق أن الغد قد يجيء أجمل.

أما الآن…
فالنوافذ مغلقة، والستائر مثقلة بغبار الخيبات،
وألواني باهتة، وفرشاتي صارت ثقيلة بين…

عِصْمَتْ شَاهِينْ اَلدُّوسَكِي

وَدَعَتُ فِي نَفْسِي ضِيقَ الْحَيَاة

وَأَلَمَّ الْأحْزْانِ والْجِرَاحَات

أَذْرُفُ الدُّمُوعَ بِصَمْتٍ

كَأَنِّي أَعْرِفُ وَجَعَ الْعَبَرَات

أُصِيغُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَحْدَتِي

بَيْنَ الْجُدْرَانِ أَرْسُمُ الْغُرْبَات

 

**********

يَا حِرمَاني الْمُكَوَّرِ فِي ظَلَامي

يَا حُلُمي التَّائِهِ فِي الْحَيَاة

كَمْ أشْتَاقُ إلَيْكَ وَالشَّوْقُ يُعَذِّبُنِي

آَهٍ مِنْ شَوْقٍ فِيه عَذَابَات

لَا تَلَّومْ عَاشِقَاً أَمْضَى بَيْن سَرَابٍ

وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أَجْمَلَ الذِّكْرَيَات

**********

أَنَا الْمَلِكُ بِلَا تَاجٍ

أَنَا الرَّاهِبُ بِلَا بَلَاطٍ

أَنَا الْأَرْضُ بِلَا سَمَوَات

وَجَعِي مَدُّ الْبَحْرِ…

ميران أحمد

أصدرت دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع مؤخراً المجموعة الشعرية الأولى، للشاعر الإيزيدي سرمد سليم، التي حملت عنوان: «ملاحظات من الصفحة 28»، وجاءت في 88 صفحة من القطع المتوسط.

تأتي هذه المجموعة بوصفها التجربة الأولى للشاعر، لتفتح باباً على صوت جديد من شنكال، يكتب من هوامش الألم والذاكرة الممزقة، بلغة جريئة تشبه اعترافاً مفتوحاً على الحياة…

حاوره: إدريس سالم

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من…