صدر مؤخراً عن مؤسسة سما للثقافة والفنون كتاب جديد، بعنوان حوار مع قاضي ثورة البارزاني، و هو عبارة عن حوار مع شاهد عيان على الثورة الكردية التي قادها المناضل الكردي الخالد الملا مصطفى البارزاني، وهو الملا عبد الله ملا رشيد الذي تم تعيينه قاضيا ًللثورة، لما يتمتع به من علم واسع، وثقافة هائلة، وهو أحد العلماء الكرد البارزين.
ولعل من أهم النقاط التي يقدم خلالها الملا عبد الله شهادته هو تناوله – وبالتفاصيل -واقع ما جرى بين سعيد آلجي ودكتور شفان، وهي شهادة جد مهمة.
ومما جاء في مقدمة المحاور:
حين تلتقي الملا عبد الله ملا رشيد وتصيخ إليه السمع ، فإنك لتشمّ رائحة التكايا الدينية ، وقرقعة السبّحات ، وترانيم الذكر وكرامات الأولياء ، وروائح البخور ،فحسب ، بل لتحسّ أنك وجهاً لوجه أمام التاريخ الكردي أيضاً..!.
ولا سيما حينما يروي لك الرجل لقاءاته بالأسماء المحفورة على صفحات التاريخ الكردي :
-الملا مصطفى البارزاني
– إدريس البارزاني
– البيشمركه
– أبطال ساسون
– عيسى سوار
– الأشاوس في معسكراتهم الجبلية وبطولاتهم الرائعة.
وهو عبر كلّ ذاك عنصر فاعل ، ولا أدل على ذلك أكثر من رده على سؤال المرحوم إدريس البارزاني: لم لم تكتب بالأحرف العربية؟
ليقول: اللاتينية هي المستقبل.. هكذا أكد جلادت..!
لقد انضمّ الرجل في العام 1959إلى صفوف البارتي ، و في أصعب الفترات طراً ،وألقي القبض عليه في العام 1962 بعيد الانفصال، وذاق مرارة السجن لمدة سبعة عشر يوماً ، لأن اسمه كان قد أدرج مع أسماء 130 كردياً من مناضلي البارتي ،كي ينضم بعد سفره إلى العراق ضمن صفوف البارتي الديمقراطي ، ويكون مسؤوله الأول سليمان عمر، ثم ليتولى مسؤوليته فيما بعد عمر بوطاني، ناهيك عن اشتغاله في عالم الكتابة، وما ترجمة كتاب ” كليلة ودمنة “إلى الكردية ، إلا ذات مغزى كبير، ناهيك عن جمعه نصوص ديوان ” ثورات الكرد ” منذ العام 1770 وحتى الآن إلا دليل على أن الرجل لم يأل جهداً من أجل قضيته.
هذه الوقفة الجديدة في محراب العالم الفقيه والأديب الكردي الملا عبد الله استعراض لرؤيته في الصوفية وعلاقة الكرد بهذا المذهب وسوى ذلك..
ويستمر المحاور قائلاً
وحقيقة ، أنه للحديث مع العلامة الملا عبد الله ملا رشيد نكهة جد خاصة.
فهذا المثقف الموسوعي الرائد، والخطيب المفوّه ذو الكلمات المؤثرة، في شؤون الدين والإنسان، بل وهو الكردي بامتياز، و رجل الدين المؤمن بامتياز، وهو الإنسان المحب لكل الخيّرين بامتياز أيضاً..
الحديث معه هو حوار مع الحكمة في أجمل صورها: ذاكرة متقدة، وبداهة حاضرة، ذكاء مشتعل ، ونبع سلسبيل من أعالي طود كردي باسق.
تلك وغيرها هي بعض صفات هذا الكردي الذي هو شاهد حقيق على ما يقارب قرناً من الزمان، إنه ذاكرة كردية كاملة بامتياز، شاهدٌ على الحلم وانكساراته، شاهدٌ على الخط البياني الكردي على امتداد ذلك الشريط الزمكاني كاملاً..!
مع هذا العلامة الجليل ، والمرجع الديني ، والأديب يعود محاوره إلى عالم المتصوفة، والنقشبنديين، بل وربما ذلكم إلى عوالم الثوار الكرد الغيريين، بحق.. !.
وما زلت أتذكر ما قاله ذات يوم الشيخ عدنان حقي – في عزاء والدي المرحوم – على مسامع الكثيرين من حوله، وفي حضرة الملا عبد الله: “تصوروا أن هذا الكنز الكردي الثمين، غير قادر على مداواة عينيه اللتين نالت منهما السنون، فتحتاجان إلى عمل جراحي دون أن يلاقي هذا الكلام أصداءً في نفوسنا نحن الذين نال منها الصدأ الكثير…” و لا سيما أننا ، لا نحسُّ – عادةً – بمثل هذه الكنوز في حياتنا إلا بعد رحيلها، وبأسف ..!.
إن أكبر تكريم لرادة ثقافتنا وقادتنا المجرّبين، أن نقول لهم كلمة جميلة، محض كلمة جميلة، ويقيناً أن من يتنكر للسابقين عليه، يتنكر له اللاحقون به.. .!
ومن هنا، فإن الاهتمام بعلامة كردي بارز من طراز الملا عبد الله ، وهو الرجل الثمانيني ، والشاهد على أحداث زاخرة تعرض لها الكرد خلال بضعة العقود الماضية، لهي لفتة مهمة جداً إلى رجل كبير بعلمه، وثقافته، والدور النضالي الذي لعبه، خلال حياته ولا يزال حتى الآن، وإن كان الرجل يجاهر للأسف بأن أحداً من أصحاب دور النشر لا يكترث بمؤلفاته، هذه الدور التي تتهافت إلى طباعة أعمال لكتاب أقل موهبة وإبداعاً نتيجة هيمنة العلاقات الشخصية والمحسوبيات وسواها، وإن عدم تبني أحد لطباعة مؤلفات هذا الرجل يدل سلفاً من هو؟
ومما جاء في شهادةأحد تلامذته وهو أ. عبد الرحيم مقصود:
إن الحديث عن سيرة العلماء والعظماء ذو شجون ، فبعلمهم تنهض الأمم، وبمواقفهم الشجاعة ترتفع الهمم، وبقصصهم الممتعة تنبهر الألباب..
أجل ، إن الحديث عن الأستاذ الفاضل وسرد شيء من حياته لهو أمرٌ جدُ حسن ، وإنني لأشكر الأستاذ إبراهيم اليوسف على الحوار مع أستاذنا الفاضل وسرد شيء من مسيرة حياته وأفكاره.. فهو من الأوائل الذين عرّفوا بهذا العالم الجليل عبر شبكة الانترنت فجزاه الله خيراً على هذا العمل الطيب الجميل.
أما الحديث عن منهج ومدرسة أستاذي العلامة الجليل فقد تعلمنا من مدرسته ومنهجه أموراً كثيرة أذكر بعضاً منها:
1- حبّ العلوم الدينية والحديثة وتعلمها وتعليمها بالجد والاجتهاد والبحث والتنقيب والمطالعة والتدريس..
2- التحقيقات العلمية ومراجعة الأدلة والتأكد منها والحذر من الإسراع في الفتوى ، فكان لا يسرع بإصدار الأحكام سواء في الأمور الدينية أو السياسية أو الأخبار ، إلا بعد التأكد والتمحيص من جهات عدة.
3- أن لا نفتي حسب الأهواء والمصالح ، بل أن نفتي للحق سواء كان الحق بيد الصديق أو العدو أو من جنس ولون آخر.. فمثلاً كان يأتيه أناس لحل مشاكلهم من الأخوة العرب والكرد، فإذا كان الحق مع الأخ العربي قال له: أنت صاحب الحق لأن الشرع يقول كذا وكذا وعلى الأخ الكردي أن يعطيك..!
وإذا كان بالعكس قال للأخ العربي: الحق مع أخيك الكردي وينبغي عليك أن تعطيه حقه، فكان لا يحكم على المشكلة بالنظرة الدونية المتعصبة، وكان ينسى القومية والعشائرية إذا جاء الحق….!!
4- الاعتراف بالخطأ وقبول النقد والنصيحة من الصغير والكبير والشكر عليها فكان الأستاذ يقول: لا تتبعوا شخصي ، إنما اتبعوا الدليل ، فإن كنت مخطئاً فلا تأخذوا به ، بل صححوه لي. والحديث يقول : «واقبل الحقَّ ممن جاء به صغيراً أو كبيراً وإن كان بغيضاً بعيداً، واردد الباطل ممن جاء به صغيراً أو كبيراً، وإن كان حبيباً قريباً». (1)
6- لم يمنعنا الأستاذ من التعلم من المشايخ والعلماء والاستفادة منهم مهما كانت اتجاهاتهم ومذاهبهم، ومهما خالفوه في الرأي ، فقد كان يزورهم ويتحاور معهم ويصلي وراءهم..
وهو يرى أنه من الخطأ الكبير أن يتعصب الرجل لأستاذه وشيخه مهما كان شأنه، بل عليه البحث عن الحقيقة، وليأخذها حتى لو كانت عند مخالفيه!! ، وكان يضع لنا هذه القاعدة الذهبية التي نادى بها الإمام بديع الزمان النّورسي: (خُذ ما صَفا ..دَعْ ما كَدر).
7- الأستاذ يعلمنا أن لا نهجر العلماء بسبب بعض أخطائهم كما قال القائل:
من ذا الذي ما ساءَ قط ومن له الحســنى فقط
ومن هنا فهو يهاجم المشكلة والخطأ، ولا يهاجم الشخص بل يذكر خطأه ويصححه ويذكر محاسنه.. كما فعل مع علامة الشام فكان يقول عنه: (نحن لسنا معه فيما قال، ولكننا نحن معه مائة درجة إلا واحدة).
فمثلاً: في البحر يوجد كثير من المنافع، كالجواهر والمرجان والأسماك، وتوجد أيضاً أفاعٍ تؤذي، فهل نترك البحر ومنافعه، بسبب بعض الأفاعي؟ هل هذا إنصاف؟ و على هذا الأساس فهو يتمثل بقول بديع الزمان النورسي: إن أستاذكم ليس معصوماً عن الخطأ، بل من الخطأ الاعتقاد أنه لا يخطئ.
ولكن وجود تفاحٍ فاسد في بستان لا يضرّ بالبستان، ووجود نَقد مزوّر في خزينة، لا يسقطُ قيمة الخزينة.
8- علمنا الأستاذ أن نتمسك بمبادئنا وثوابتنا وأن نصبر على المكاره حفاظاً على المبادئ، وأن لا نغيرها كالحرباء لمصلحة دنيوية زائلة..! أو لأشخاص خانوا شعوبهم وأوطانهم وباعوا أنفسهم لعبيد مثله..
9- أن نكون أحراراً في أفكارنا حتى نبدع.. وأن لا نتذلل لأحد سوى الله وحده، وأن لا نتقيد بالأشخاص والأحزاب والجماعات دينية كانت أو قومية.. لأن الأحزاب أو الجماعات إنما يريدون منك أن تتبعهم في كل شيء في الصحيح والسقيم! ، مستدلاً بقوله تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[المؤمنون:53].
ولكنه لا يفتأ يقول أيضاً: إذا وجد حزب أو جماعة معتدلة من أهدافهم الحرية، والسماح لمنتسبيهم بالنقد والتنقل بين الجماعات الأخرى والاستفادة منها، فحينئذ يحبذ الانتساب، وإلا فالاستقلالية أفضل حتى لا يخسر المرء ضالته المنشودة.
10- علمنا أستاذنا أن لا نطلب الجاه، والاحترام من الناس فكان يقول: لا تسمحوا أن يقبّل الناس أيديكم، ولا أن يقوموا لكم لأن هذه ليست الغاية من ديننا ودعوتنا، وإنما الغاية هي تعليم الناس الخير وإخراجهم من ظلمات الجهل والتقليد.. إلى نور العلم والتجديد..
وأخيراً:
من هنا فإنني أناشد دور النشر في كردستان العراق للمبادرة بطباعة مؤلفات هذا الكاتب الذي تنوع إبداعه، بل وهو شاهد عيان مهم على حقبة تاريخية بارزة من تاريخ الكرد المعاصر.