الثقافة والشرائح المثقفة..!

دهام حسن

عندما يشرع واحدنا في تناول الثقافة بالتعريف، فلا مناص أمامه من دون أن يقتحم متاهة حقول التعريفات العديدة، فتكون النتيجة تشتيت فكر القارئ المتلقي أكثر من مدّه بزاد معرفي تعريفي، هذا عند تعريف الثقافة بمفهومها الواسع، فالثقافة في جانب من التعريف بها، هي مجموع القيم المادية والروحية التي ينتجها بنو البشر في سياق تاريخهم الاجتماعي.. وهذا التعريف المكثف والمقتضب يظلّ يكتنفه الغموض وعدم الوضوح، فهو يجمع بين المادي والروحي في آن، دون إيضاح وشرح لازمين لكي تتوضح الفكرة أو المفهوم، فلا بد هنا من فك وعرض هذا التعريف لاستيعابه.. ولهذا يبقى تعريف أدوارد تايلور في القرن التاسع عشر، هو التعريف المتداول والمستشهد به من قبل غالبية الباحثين إلى يومنا هذا لشموليته، فالثقافة بتعريف تايلور هي: (هذا الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والاعتقاد والفن والحقوق والأخلاق والعادات، وكل قدرات وأعراف أخرى اكتسبها الإنسان كفرد في مجتمع)..
تعريف (تايلور) يشمل ما يعنيه من أن أشكال بناء السكن ثقافة، الزيّ من اللباس، طريقة تناول الأطعمة، التمنطق بالخنجر، فضلا عما يصنعه الإنسان، وطرائق تفكيره في الحياة، وما يدونه من كتابات في أيّ فن كان من فنون الكتابة، جميعها يدخل في خانة الثقافة لهذا الكيان أو ذاك من المجتمعات، فضلا عن الجانب المعرفي، وأيضا الأخلاق والعادات والتقاليد، وما يكتسبه الإنسان من مجتمعه خلال سياق التاريخ كما أسلفنا..
 
أما الثقافة بمفهومها الضيق، فهي تقتصر على الجهد العقلي أو فلنقل تقتصر على النشاط الذهني للإنسان، كمن يكتب رواية أو نصا شعريا، أو يقدم بحثا علميا في ابتكار آلة تكنولوجية ما..
 
ولابأس هنا من إيراد تعريفين آخرين للثقافة لبعض رواد الفكر لاستيضاح المشهد، فمثلا (فيخته) يعرّف الثقافة من أنها بمثابة (ممارسة كل القوى من أجل هدف الحرية الكاملة) أي أن فيخته بتعريفه هذا يركز على إحدى الغايات الجليلة التي تسعى إليها الثقافة، وهي أن الحرية من أهم الأهداف التي تنشدها الثقافة في جانب من المسعى النضالي للإنسان، أو من أن الثقافة في أحد جوانبها يدلل الإنسان ويرشده للخلاص من هيمنة الفكر التقليدي في حالات الجهل والاستبداد، والانتقال به إلى رحاب الحرية اللاحب..
 
أما توماس هوبز فيركز على جانب الغاية من الثقافة فيراها :(عملا يبذله الإنسان لغاية تطويرية) فتعريف هوبز غير بعيد في بعض خلاياه عن التعريف السابق لفيخته، فكلاهما كما يبدو يبتغي تجاوز الحالة الراهنة فينشدان حالة تطويرية، فالثقافة هنا بمعالجة هوبز وسيلة لهدف تطويري ينشده الإنسان لتجاوز الحالة الراهنة، أي أن الثقافة تفتح الآفاق رحبة أمام الإنسان، وتمدّه بزاد معرفي بغاية التطوير نحو الأفضل والأرقى..
 
إن إنتاج ثقافة قوية لكي تكون زادا معرفيا تواكب التطور المضطرد للجيل، فلا بد من أخذ الظروف بالحسبان، وما يقتضي ذلك من إغناء الفكر بالتلاقح مع الثقافات الأخرى دون تغافل  المحلي المعيش، بحيث تغدو الثقافة المحلية إطارا مستوعبا لسائر القدرات الثقافية لأبناء أية أمة تنشد ثقافة قوية، فالثقافة تقوى بقدر قوة المحيط أوالبيئة التي تحتضنها كواقع وكمنطلق، فلا ثقافة مغلقة على ذاتها، أو تنسب إلى أمة محددة، فهي لا تلبث أن تمزق إطارها المحلي الضيق، لتنطلق إلى الفضاء الأرحب، ثم تغدو عالمية وإن انطلقت بداية من ديار معينة..
 
إن أي ثقافة في أي مجتمع في أي نظام هي البنية الفوقية لكل مكوّن من مكوّناته، وبالتالي فهي تعكس مجمل العلاقات الاجتماعية والأسس الاقتصادية السائدة في ذلك المكوّن، ولهذا فبالضرورة أن تأخذ الثقافة طابعا طبقيا، وتتمظهر برداء سياسي. تلتزم بهذه الجهة أو تلك، يقول ماوتسي تونغ: (إن كل ثقافة، وكل أدب، وكل فن، ينتمي إلى طبقة معينة، ويتبع خطا سياسيا محددا)
هذا ما نلمسه واضحا في التراث الماركسي، وما تربّت عليه أجيال عديدة..
 
وهنا في سياق المقال يقتضي منا أن نستجلي الوجه الثاني من الميدالية وأعني به (المثقفون).. فالثقافة تستحضر بالضرورة المثقف، وقد لاحظت من عنوان المقال، أني اعتبرت المثقفين يشكلون شريحة اجتماعية، فهم لا يشكلون طبقة، لأن الطبقات تعرف عادة بما تشغلها من مواقع في النظام الاقتصادي الاجتماعي، من حيث علاقاته بالإنتاج، وكيفية حصولها على نصيبها من الدخل، كقوى إنتاجية، وهذا هو جوهر العلاقات الإنتاجية، فالمثقفون كشريحة اجتماعية تتوزع على سائر الطبقات، لهذا فالمشارب الفكرية تتنوع لديهم..
 لكن يبقى المثقف هو المحلل الناقد، وهو صاحب رؤية نقدية، ويتميز بقراءاته الفكرية، وقدراته على مواكبة متغيرات الحياة، وسبر مغاور الواقع المعيش، بل المساهمة حتى في تشكله..
 
ومن هنا فالمثقفون يتوزعون في مواقع عديدة، فهناك المثقف العضوي، بتعبير غرامشي، مثل هذا المثقف ينخرط في وسطه الاجتماعي، ويتصدى لقضاياه، ولا يرى مكانه إلا خارج أبنية السلطة إن لم يزجّ به في المعتقلات.. وهناك المثقف النرجسي الذي عرفه علي حرب فرأى أن نرجسيته تتجلى (في تعامله مع ذاته عن إحساسه بمركزيته ومحوريته برسوليته ونخبويته بتفوقه واصطفائه) وهذا يبقى في برجه العاجي مسوّرا بأوهامه وعزلته، لا يرى سوى أن غيره ملوم إزاءه، وهو دوما على حق وصواب ..
 
وهناك المثقفون المحافظون الذين يتشبثون بالتراث أوالدين أو السلطة، فمنهم من يتميز بالثقافة الامتثالية تجاه السلطة سواء أكانت السلطة نظاما سياسيا، أو تنظيما حزبيا، فيقوم بقلب الحقائق، ورصد كل فكر جميل لتشويهه، ومنهم من يغرق في التراث فيعيش الماضي في فكره دون أن يبارحه، ومن هؤلاء  المحافظين من يكرس أو يؤسس لثقافة التطرف فيستبعد الاختلاف والتنوع، وبالتالي لا يسمح بأي ثقافة متسائلة مستفسرة، فيقع كثيرون أسرى هذه الثقافة  الأحادية، ويغدو بعضهم نهب الهوس، فيتصرف وفق ما يوحى إليه من قبل بعض الملقنين له دون فهم أو مساءلة، وهذا ما نلحظه في بعض المتطرفين الإسلامويين الذين يقدمون على العمليات الانتحارية وكأنهم مسلوبو الإرادة..
 

ومن نافل القول أخيرا.. التذكير بأهمية وجدوى العلاقة الجدلية بين حقلي الثقافة والسياسة، وهذا الموضوع لن نمضي فيه، لأنه سبق لنا أن وقفنا إزاءه بإفاضة في مقالات سابقة..ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو فقط التذكير بضرورة فسح مجال تفاعلي بين السياسة والمعرفة، أو السياسي والمفكر، فالواقع السياسي لا بد أن يتأثر ببنى الفكر والمعرفة، والفكر بدوره يؤثر في الواقع السياسي النضالي، فالحاكم أو القائد يعتبر سلطة سياسية، أما المثقف فيعد سلطة معرفية، ومن هنا ينبغي ألا تنقطع صلة التواصل بينهما، وبالتالي ينفتح المفكر على ما يطرحه السياسي فيتقبل منه ما يتقبله، المهم ألا يبقى في غياب عنه الحقل السياسي، كما ينفتح السياسي على النتاج الفكري للمثقف فيستأنس به ويتزود منه، أي أن كليهما يستفيد من ميدان الآخر ليطور بالتالي ذاته، ويحسّن من آلية عمله، ويتفهم أحدهما واقع الآخر، ولا يبقى أسير المجال الواحد الوحيد، لتأتي ثمرة النضال في كلا الحقلين يانعة ناضجة جراء تدامج الجهدين الفكري والسياسي، فالسياسة دون خلفية معرفية هراء، والقائد السياسي الناجح هو الذي يتمتع بخلفية معرفية، فيستأنس بالفكر في طريق نضاله الدائب والطويل، وهذا التواصل والتقاسم الوظيفي بين الجانبين الثقافي والسياسي لا بد منه..هذا إذا ما أردنا  للمثقف أو السياسي كليهما النجاح والصواب فيما اختطه لنفسه والنضال المثمر في الحقلين الثقافي والسياسي…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…