قراءة في قصيدة (حين تتسمم القصائد) للشاعر المبدع بدل رفو

  جوتيار تمر دهوك – كوردستان العراق

النص بقلم الشاعر: بدل رفو المزوري
حين تتسمم القصائد
 على جسر ،
فوق نهر ،
ذي دفق عنيف…
يتمشى شاعر،
وفي مخيلته

تتراقص مئات القصائد قصائد
فجأة !!
هوت احدى قصائده
في النهر…
حينها ،
أجهش الشاعر بالبكاء
ورأه المارة،
ياله من  شاعر مخلص
لابياته التي غدت
زادا للاسماك
واذا بهذه الاسماك
تطفوا…
على سطح الماء…
ميتة 
تسممت من التهامها
للقصيدة…
قصيدة مسمومة كانت
حينها !!!
علم الناس
بأنها …
كانت قصيدة فاسدة
من شاعر فاسد
كتبت  في مدح
سياسي فاسد
في زمن فاسد.
____________
القراءة: جوتيار تمر
حين تتسمم القصائد
عندما يكون العنوان مبنياً على ظرفية زمانية قائمة مثل (حين) لابد ان يحمل في طياته تساؤلية استفزازية تجبرنا على تقصي الاتي، والذي جاء مؤدياً وظيفة قصدية حيث يعبر بشكل واضح عن وجهة نظر الشاعر تجاه موقف وحالة، وهو موقف لايخلو ابداً من انفعالية تنطوي عليه ابعاد فكرية وشعورية تمنطق ابعاجد النص العلائقية كمطية لمقصد الشاعر.
على جسر ،
فوق نهر ،
ذي دفق عنيف…
يتمشى شاعر،
وفي مخيلته
تتراقص مئات القصائد
القت الظرفية الزمانية بظلالها على الشاعر من حيث التوليفات الدلالية التي اتى بها بعد العنوان، حيث لامسنا نزوحه الى المكانية بصورة مباشرة، وضمن اطار جغرافي يمكن تأويله بتعددية مترتبة على ادراك مسبق بماهية المعجم البلاغي للشاعر، وهذا ما يتجلى بصورة واضحة في مدخل القصيدة التي اتت تبين لنا جغرافية التدوير اللفظي والمعنوي لدى الشاعر، فكانت الطبيعة ملتحمة بالرؤية الشاعرة، بل كانت متعاطفة تماماً معها، وعبرت عن الرؤية بجمالية شعرية اعتمدت على البناء القصصي، وبلغة سلسة لاتعقيد فيها، فكأن الشاعر هنا يعري الذات من اجل حفر حقيقة كامنة في اعماقه، ولايهم ان كانت الصورة التي سيخلفها بعد ايصال الفحوى الاساسي للرؤية، ولعل هذا ما جعله يستخدم الطبيعة كمدخل مكاني مرتبط بالزمانية السابقة، وضمن حركية ذاتية مبنية على الفعل الديناميكي القائم ( يتمشى) الذي هيأ ذهن المتلقي لتلقي الجرعة الاولى من تمخضات العنوان حين جنح الى ذكر مئات القصائد المتراقصة في مخيلته.
فجأة !!
هوت احدى قصائده
في النهر…
باغتنا الشاعر هنا بعنصر المفاجأة الذي عبر عن حركية غير متوقعة فأثرت على جغرافية التخيل لدى المتلقي الذي ربما كان يمني النفس بعبارات اكثر رقة بعد البداية الملتحمة بالطبيعة، لكن هذا قدر الشاعر دائما ليس هناك حدود لفرحه ولا لجرحه، وليس هناك قانون طبيعي يمكن ان يجعله اسيراً لماهيته، فهو الطبيعة نفسها وهو في الشعر القانون نفسه، ولعل الامر هذا يتجلى في تخليه عن تلك الصور الشاعرية المرجوة من (جسر، ونهر، ومخيلة شاعرية) وانجرافه نحو هاوية الفقد التي جعلتنا امام تحول متوحش لسير قانون الطبيعة، ف(هوت) هنا تبرز الحالة بشكل مستفيض دون الحاجة الى المزيد من التفسير والتأويل والتحليل، حيث نلامس فيها عمق الهوة التي تركتها القصيدة الغارقة في النهر.
حينها ،
أجهش الشاعر بالبكاء
ورأه المارة،
ياله من  شاعر مخلص
لابياته التي غدت
زادا للاسماك
البكاء ليس الا حتمية فرضتها الفطرة من جهة، وصقلتها الطبيعة من جهة اخرى، وكلاهما في حق الشاعر تبعث الالم، الشاعر بطبعه مرهف الاحساس رقيق متعاطف مع كل ما انساني، وهذا ما تبرزه لغته الممغنطة التي تدور في فلك رحب، لذا لن يكون لبكائه دهشة هنا، لكن ما يحاول ان يوصله الينا من خلال بكائه هو المقصد الاساس من البكاء نفسه، وهذا ما نتج عنه بصورة عفوية انجراف النص نحو تقريرية تفصيلية ابعدته قليلاً عن الشعرية، وادخلته ضمن الدائرة السردية التامة، لكن الامر نفسه كان ذا تأثير ايجابي على صيرورة النص، حيث هيأ المتلقي لقبول الوضعية الراهنة، وادخله ضمن الحدث، فاصبح يترقب كيف ستتعامل الاسماك مع القصيدة.
واذا بهذه الاسماك
تطفوا…
على سطح الماء…
ميتة 
تسممت من التهامها
للقصيدة…
قصيدة مسمومة كانت
هي اللحظة التي ترقبها المتلقي، والتي ربما لاتقدم له النهاية المرتقبة، لأن الغرضية الشعرية لاتقف عند التهام الاسماك للقصيدة، ولا عند المكونات الظاهرية التي يمكن ان يفسرها المتلقي من التهام الاسماك للقصيدة المسمومة وموتها المفاجئ، ومع ان الصورة هنا متوحشة ومعبرة بعنف عن الحالة النفسية الانفعالية التي وصل اليها الشاعر الا انها في الوقت نفسه تقدم لنا صورة حية عن ما يمكن ان يقصده الشاعر من هذا التمازج الصوفي بين كائن مائي وكلمات الشاعر، وهي بذلك تضعنا امام حقيقة غير مكتملة، لابد وان يتم تفسير الحدث ضمن اطار جغرافي اكثر تحديداً، وضمن ماهية اكثر وضوحاً لتكتمل الصور الحسية المرافقة لتلك الصور الخيالية المنبثقة من المكونات الطبيعية للنص.
حينها !!!
علم الناس
بأنها …
كانت قصيدة فاسدة
من شاعر فاسد
كتبت  في مدح
سياسي فاسد
في زمن فاسد.
تستمر اللعبة الزمانية بالقاء ظلالها على مديات النص، وتمد الشاعر بالرؤى الملتحمة بالواقع من جهة، وبالرؤى الذاتية المتمثلة بموقف الشاعر تجاه الحدث/ الحالة من جهة اخرى، وهذا ما يجعل الشاعر في حكمه على القصيدة بانها مسمومة امراً مقبولاً من حيث المبدأ، لكونه يعبر عن حالته الذاتية وموقفه تجاه الحدث، لكنه حكم ناقص بعد لم يكتمل لأن صوره تحتاج الى تأطير جغرافي اكثر، ولهذا نجد الشاعر يباشر بعملية التعري التامة التي تجعل من الرؤية واضحة امام المتلقي، حيث كانت السمكة ممر وصفي لكائن اخر يتسلح بنفس سلاح الشاعر ( الكلمة) لكنه لايسخرها مثلما يفعل هو، فهذا الذي سطقت قصيدته في النهر قدم كلماته على انها طعم فاسد، ولأنها كانت في الاصل تعبر عن واقع فاسد سواء أكان هذا الواقع متمثلاً بشخص ام مجموعة، فانها لابد ان تنفضح وهذا ما جعل الشاعر الذي بدأ قصيدته بظرفية زمنية ينهيها بزمنية قائمة، ومع ان الصورة الاجمالية للنص اكتملت ظاهراً الا ان هناك تساؤلات يمكن ان تتوالى على ذهن المتلقي، حيث نجد في استمرارية الحدث الشعري تناقضاً من حيث الرؤية التي تنقل لنا صورة الشاعر وهو يبكي ويتألم عند فقده للقصيدة، على الرغم من كونها قصيدة مسمومة، وكأني بالشاعر هنا يريد ان يصور لنا الحالة الانفصامية التي يعيشها هكذا شاعر، بحيث يتوجع لفقدان قصيدة ولكن لايتوانى في مدح من لايستحق من اجل طموح فردي ولو على حساب الشعر نفسه، وما يمكن ان يجعلنا نتخطى تلك الرؤية هو معرفة التداخل الحاصل بين الشعرية والشاعر في النص حيث لدينا شاعر يمثل في بنية النص الشعري النثري، ولدينا قصيدة شعرية نثرية كتبها شاعر يرى هكذا شاعر في النص.
ـــ
ملاحظات:
1 ـ تخطيط صورة الشاعر بريشة الفنان الكوردي الشاب اراز بالته
2 ـ نشرت القصيدة باللغة الكوردية في جريدة ئه فرو والتي تصدر في مدينة دهوك كوردستان العراق ،العدد 133 بتاريخ 2932006
3 ـ نشرت  ترجمة القصيدة في جريدة الزمان اللندنية العدد 2330

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ…

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…