ستظل ذكراك علامة مضيئة يا صلاح!

دمشق ـ إبراهيم حاج عبدي

   مرات عديدة كتبت فيها عن كتب أصدرها الصديق العزيز صلاح برواري، كتبت عن ترجمته لقصائد شيركو بي كه س في “ملك الكلمات”، وعن ترجمته لقصائد “كزال احمد” في ديوان “قصائد تمطر نرجسا”، وعن ترجمات أخرى له لقصائد الشاعر فرهاد عجمو ومؤيد طيب وغيرهم…في كل مرة كان صلاح يقرأ المقال ويبدي إعجابه المقرون بملاحظات لغوية، وبنقد بناء، ولم أكن أتوقع، خلال تلك النقاشات، أنني سأكتب، ذات يوم مشؤوم، رثاء في هذا الصديق الودود عبر نص لن يقرأه أبداً.
   صباح اليوم الجمعة 26 نوفمبر، حين فتحت بريدي الإلكتروني وجدت رسالة مرسلة من عنوان الصديق صلاح برواري الذي لطالما تلقيت عبره أخبارا عن مشاريع جديدة له، وبيانات صحفية، وطرائف الكلام. لكن هذه المرة لم يكن خبرا سارا ولا دعابة من دعاباته ولا مقالا جديدا له، بل كان، ويا للحسرة، خبرا مقتضبا سريعا عن رحيله المؤلم، أرسله، هذه المرة، ابنه آلان. ولم تمضِ دقائق معدودة، كنت خلالها غارقا في تصديق أن تلك الضحكة ذبلت إلى الأبد، حتى هاتفني مدير مكتب الاتحاد الوطني الكوردستاني بدمشق عبد الرزاق توفيق ليؤكد النبأ الفاجع. خبر في سطر واحد يختزل محطات شاسعة ومتعرجة، وتجربة طويلة تشعبت وتفرعت وتنوعت، قضاها الراحل في البحث والتقصي والكتابة والترجمة ضمن عالم الحرف والكلمة الأليف الذي عايشه بلا كلل…ولا يخفى على أصدقائه أن صلاح، الذي تجاوز الخمسين بقليل، (مواليد 1957 في كركوك) كان في السنوات القليلة الأخيرة يضج بحماسة نادرة، وكأنه كان يسمع نداء قلبه الخفي عن رحيل قريب، فيبادر، بدأب شديد، إلى تشذيب وتنقيح وتدقيق مخطوطاته الكثيرة التي تجمعت في أرشيفه، ويدفعها إلى النشر حتى كانت حصيلة السنتين الأخيرتين فحسب، خمسة كتب.

    كنت أزور الصديق صلاح باستمرار في مكتب الاتحاد الوطني الكوردستاني بدمشق، وهو كان دائم الابتسامة، بشوشا، لطيفا؛ طيب المعشر، رقيق الحاشية، منهمكا، أبدا، في ترتيب القصاصات، وأرشفة المواد الصحفية أو كتابة بيان أو تصريح أو بلاغ على الكمبيوتر. كان يعيش وسط فضاء ملون من الأوراق والصحف والمجلات والكتب. لكنه كان يتأفف، قليلا، من حضوري، فبقدر سروره بزيارتي، كان يعلم بأنني سأغرق غرفته بدخان السجائر، هو الذي واظب على إتباع نظام صحي صارم. كان يدع ضيوفه على راحتهم ويفرض عليهم شرطا واحدا وهو ألا يدخنوا (وهو كان محقا في ذلك حرصا على سلامة الأصدقاء وسلامته) ولكنني كنت اخرق هذه القاعدة، في أحيان كثيرة، وهو كان يستسلم إزاء تصرفي، لأنه، بدماثته ولطفه، لم يكن قادرا على إغضاب صديق من اجل بضعة سجائر… فيتحمل الأمر على مضض ويمضي في سرد حكاياه وقصصه، وينثر ضحكاته في أرجاء المكان، وكنت، بدوري استغل لطفه هذا متناولا السيجارة تلو الأخرى، وربما قد حان الأوان لأن أقدم له اعتذارا متأخرا، رغم يقيني، بأنه، لو كان بيننا لما قبل هذا الاعتذار، فهو متسامح بلا حدود، لا يستطيع حمل الضغينة تجاه أحد، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بسيجارة.
    قبل نحو ثلاثة أشهر زار مكتب الاتحاد فاصطحبته معي، وذهبنا معا إلى السفارة العراقية بدمشق حيث أعطى كتابا لصديق له، ومن هناك ذهبنا إلى مقهى توليدو “طليطلة” الذي شهد ولادة الاتحاد الوطني الكوردستاني في منتصف سبعينات القرن الماضي. آنذاك، كانت بقايا الأمل لا زالت تسكن نظرته الوديعة، وراح يتحدث، بقليل من الوهن، عن مشاريعه القادمة، وعن طموحاته الكثيرة، لكن عيني لم تكن تخطأ غلالة الحزن التي طفت على محياه. كان يشعر أن ثمة قدرا مجهولا قاسيا يترقبه عند منعطف قريب، وكنت ألمح ظل هذا التوجس الخفي على زوايا الطاولة، فأبكي بصمت، وأمنع دمعة حرى من السقوط لئلا أخدش مشاعر هذا الصديق السائر بخطى وئيدة لمعانقة لموت! صديق سخر عمره للثقافة الكوردية، وأفنى زهرة شبابه لأجل قضية شعبه، وأمضى سنوات عصيبة في كوردستان وإيران إلى أن استقر منذ سنوات في دمشق حيث أسس مع رفيقة دربه الإعلامية والكاتبة لمعان إبراهيم أسرة متحابة: اثنان من أولاده يدرسان الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، بينما ابنته الوحيدة تتابع دراستها الثانوية في الصف العاشر.
    سنشتاق كثيرا إليك يا صلاح، ستشتاق إليك دروب دمشق وحواريها وشوارعها ومقاهيها من مقهى الروضة إلى دار المدى إلى دار الينابيع إلى حي المزرعة إلى نادي الصحفيين إلى ساحة شمدين وصولا إلى منزلك الغافي على منحدرات قاسيون حيث تعانقها الشمس عند شروقها الأول على المدينة، ستشتاق إليك دور النشر والمطابع والمكتبات وصالات الفن التشكيلي، وسيظل مكانك فارغا في أي مكان حللت فيه. لكن ذكراك ستظل علامة مضيئة في حلكة الأيام، ونبراسا لأصدقائك، وعونا لهم في سفر الكتابة والبحث والإبداع، وستبقى روحك مشعة في حدائق الحرف المقدسة، وسيبقى اسمك عنوانا للأصالة والإخلاص ممتدا من منطقة برواري حيث ولدت، إلى منطقة عفرين التي احتضنت رفاتك، وأرخّت لرقصتك الأخيرة؛ رقصة الحجل الموجع؛ الجميل!!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…

خوشناف سليمان

لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر…

تلقى المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، اليوم، بحزن، نبأ رحيل شقيق الزميلة رقية حاجي:

نايف أحمد حاجي
الذي وافته المنية في أحد مشافي هولير/أربيل عن عمر ناهز ٥٩ عامًا.

يتقدم المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بخالص العزاء للزميلة رقية حاجي، وللفنان حسين حاجي، وللناشط عبدالكريم حاجي، ولعموم عائلة…

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…