د. آزاد أحمد علي
ينطلق شابان بسرعة وخفة ويدخلان الى ضاحية مدينة مهيبة, يصعدان برشاقة جبل صناعي على شكل هرم كبير مكون من مدرجات طينية متراكبة ومتصاعدة. في مشهد طقسي مثير يراقبان الملك والملكة وهما يمارسان فعل الجنس المقدس، الجسدان الملكيان مستلقيان تحت نور القمر الفضي، يراقبان الصبيان من خلف ستارة أعلى الزقورة ويتلصصان على حركات جسديهما بمتعة.
ينطلق شابان بسرعة وخفة ويدخلان الى ضاحية مدينة مهيبة, يصعدان برشاقة جبل صناعي على شكل هرم كبير مكون من مدرجات طينية متراكبة ومتصاعدة. في مشهد طقسي مثير يراقبان الملك والملكة وهما يمارسان فعل الجنس المقدس، الجسدان الملكيان مستلقيان تحت نور القمر الفضي، يراقبان الصبيان من خلف ستارة أعلى الزقورة ويتلصصان على حركات جسديهما بمتعة.
إنهما الصبيان الغريبان مجدي وآشار، الداخلان للتو عالم حضري مدهش ومعقد. المكان مدينة ماري التاريخية المستقرة على الضفة اليمنى لنهر الفرات الخالد، الزمان الألف الثاني قبل الميلاد.
هكذا وأيضاً برشاقة وهدوء ينقلنا الكاتب للعيش في ربوع مدينة ماري القديمة، يجتهد ويبدع لنقل القارئ الى عالم الماضي السحيق, عصر ممالك المدن, زمن ممالك المدن القديمة قبل حوالي أربعة آلاف عام.
إنها خطوة جريئة لكاتب سوري معاصر, ومحاولة نادرة لكاتب مجتهد في أن يقتحم عوالم الماضي ويكتب رواية معاصرة تدور كل أحداثها في الألف الثاني قبل الميلاد، إنها مجازفة نص لا يخلو من التجريب والإدهاش.
الأحداث التاريخية الواردة في متن الرواية قد تكون صحيحة, فهي على الأقل متوافقة ومتداخلة مع النصوص والوثائق التاريخية, ومنسجمة مع السرديات التاريخية المعتمدة على الألواح الطينية. الشخصيات أيضاً مأخوذة من التاريخ الحقيقي ومتلائمة مع المناخ العام، ومتشكلة عبر أحداث النص الروائي، تتفاعل الشخصيات بكثير من الموضوعية والدقة مع سياقات الحدث التاريخي، وتعيد تمثيل الأدوار لتشكل من جديد الإطار العام والبيئة الاجتماعية في ذلك العهد القديم.
قصر الطين رواية تاريخية من حيث الحدث الاجتماعي، والزمان الفراتي. أما المكان فهو المسيطر على البناء الروائي ، فالمكان هو الأكثر حضوراًُ ومساحة وسطوة في مجمل النص الروائي، سواء كانت المدينة المتمثلة بحاضرة “ماري” التاريخية، أو بشكل أكثر خصوصية: المكان القصر, قصر زمرليم الأعجوبة المعمارية في ذلك الزمن البعيد.
تبدأ الأحداث بادعاء الصبين أنهما أبناء الرب أنليل وأرسلهما الرب هدية للملك . . . إلا أنه في الواقع كانا من أبناء الأوساط الشعبية الساكنين في البوادي والأحراش المحاذية لنهر الفرات، واتفقا معا لدخول واقتحام عالم الحضر، عالم ماري. لتحقيق طموحاتهم الشخصية.
أخضع الملك وحاشيته الكهنوتية الصبيان للفحص، للتأكد من صحة أنهما أبناء الرب.
ولقد تبين لمجمع كهنة ماري في “العشارة” المجاورة، ما هما إلا أبناء بشر عاديين ولا يمتلكون مواصفات أبناء الأرباب، مما عرضهما لعقوبة العمل في تنظيف أقنية الري المتفرعة عن نهر الفرات بمحيط ماري.
وعلى الرغم لما تعرضا له من انتكاسة إلا أنهما أصرا على البقاء في ماري العاصمة: “لكن مجدي كان يفكر بقطيعه الذي في الصحراء, فمنذ الأمس كان يفكر بمناسبة انقضاء شهر على وجوده في ماري, بالدافع المجنون الذي حمله إليها ليصبح عامل تعزيل, وقد فكر بإنفاق شيكلاته في المعبد والعودة الى الصحراء, لكن شيئاً ما, شيء عميق وغامض وواثق, كان يسخر من فكرته وكان يميل الى الانسياق وراء هذا الشيء الذي يثبته هنا, لكنه كان يحتاج لمؤازرة صديقه آشار. قال بطريقة مواربة:
– أتدري يا آشار . . الحياة في ماري رائعة, ويجب ألا نتخلى عنها فرد عليه هذا بوثوقية قاطعة مما فاجأته.
– بالتأكيد . . يجب ألا نفكر في هذا الأمر إطلاقاً . . ” ص64
في سياق تنامي الأحداث وتطورها تتوطد العلاقة بين الشابين والملكة التي تظل تعتقد بأنهما أبناء الرب أنليل.
يصعد مجدي سلم الحياة العسكرية فيتحول الى أهم فرسان ماري وقائد جيش الشمال، أما آشار فيظل يتعلم علوم الدين ويبقى أقرب الى لحياة المدنية والفنية، فيتقن فن النحت ونحت التماثيل. يصنع التماثيل الفخارية ويطلع على أسرار المعتقدات في ماري، وبخاصة الكتابة والعلوم الدين.
آشار الطالب الكهنوتي يقرأ بعين ناقدة علوم الدين في ماري ويطور من مداركه وتتطور معها شكوكه، ليصل أخيراً الى حد الالتقاء مع جماعة إيديولوجية معارضة تختفي في أدغال ماري وتنبئ وتدعو الى التغيير، تغيير كامل المنظومة المعتقدية لماري وسكانها.
يعيد آشار صياغة المعتقد الديني لماري, وينطلق من فكرة ـ أسطورة ربة الينبوع فيجعل منها حقيقة. ربه الينبوع التمثال – الآية الفنية. يجعل التمثال يعمل بطريقة تقنية، تتفجر الماء من الجرة التي بين يديها الناعمتين. يثبت آشار في ليلة ظلماء هذه الربة “التمثال الرخامي” في معبد القصر. وبعد أن تدفق الماء من هذا التمثال الجميل بدأت تضطرب المنظومة المعتقدية – الإيديولوجية لمجمل مملكة ماري.
هنا يقوم النص الروائي بوظيفتين الأولى منها الكشف عن بساطة وآليات تشكل المعتقدات الدينية الأولى وأشكال التعبد في المجتمعات الرافدية القديمة. والثاني دور الأفراد المميزين أمثال آشار ومجدي وغيرهم في صياغة الفكر الديني نفسه عبر التاريخ، بل في إبداعه كاستجابة اجتماعية إنسانية, وإجابة معرفية على تساؤلات الخلق والكون واستمرارية الحياة. وعندما تتبنى ماري المعتقد الجديد تعلن عليها الحرب وتنهار المملكة ويدمر قصر زمرليم.
يمكن القول بإيجاز أن رواية قصر الطين هي من أوائل النصوص الحديثة التي تعالج الحياة الاجتماعية والفكرية ونمط الحياة الاقتصادية في الممالك السورية القديمة إبان الألف الثاني ق م، وهي بحد ذاتها محاولة نادرة من حيث قدرتها على إعادة تركيب وتصوير الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة التي لا نعرف عنها شئ سوى بعض المدونات والروايات العامة.
وما تم إنجازه في النص ويسجل له، هو قوة صياغة معطيات المكان, وجغرافيا الحدث.
إن قصر زمرليم كمكان وكجغرافيا هو مكان حقيقي ولو كان أثرا في الوقت الراهن. وهو قصر الطين نفسه الذي يشكل عنواناً للرواية، هذا القصر الأعجوبة كان من أشهر القصور في المشرق خلال تلك الحقبة، أوسعها وأكثرها غرفاً وقاعات، وأعلاها جدرانا مزينة باللوحات..
لقد استطاع الكاتب أن يعيد إنتاج وتشكيل الحياة التاريخية شبه المتخيلة في نص معاصر، وكان قادراً أن يلم بتفاصيلها وتعرجاتها، وأن يخرج لنا بنص روائي وبناء درامي هادئ شديد الإقناع والسلاسة. فالرواية جاءت كاحتفاء بالمكان، وبالمكان الأثري تحديداً, احتفاءً على درجة عالية من القيمة الفنية والأدبية.
ــــــــــــــــــــ
· قصر الطين ـ رواية
· عبد الناصر العايد
· الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008
إنها خطوة جريئة لكاتب سوري معاصر, ومحاولة نادرة لكاتب مجتهد في أن يقتحم عوالم الماضي ويكتب رواية معاصرة تدور كل أحداثها في الألف الثاني قبل الميلاد، إنها مجازفة نص لا يخلو من التجريب والإدهاش.
الأحداث التاريخية الواردة في متن الرواية قد تكون صحيحة, فهي على الأقل متوافقة ومتداخلة مع النصوص والوثائق التاريخية, ومنسجمة مع السرديات التاريخية المعتمدة على الألواح الطينية. الشخصيات أيضاً مأخوذة من التاريخ الحقيقي ومتلائمة مع المناخ العام، ومتشكلة عبر أحداث النص الروائي، تتفاعل الشخصيات بكثير من الموضوعية والدقة مع سياقات الحدث التاريخي، وتعيد تمثيل الأدوار لتشكل من جديد الإطار العام والبيئة الاجتماعية في ذلك العهد القديم.
قصر الطين رواية تاريخية من حيث الحدث الاجتماعي، والزمان الفراتي. أما المكان فهو المسيطر على البناء الروائي ، فالمكان هو الأكثر حضوراًُ ومساحة وسطوة في مجمل النص الروائي، سواء كانت المدينة المتمثلة بحاضرة “ماري” التاريخية، أو بشكل أكثر خصوصية: المكان القصر, قصر زمرليم الأعجوبة المعمارية في ذلك الزمن البعيد.
تبدأ الأحداث بادعاء الصبين أنهما أبناء الرب أنليل وأرسلهما الرب هدية للملك . . . إلا أنه في الواقع كانا من أبناء الأوساط الشعبية الساكنين في البوادي والأحراش المحاذية لنهر الفرات، واتفقا معا لدخول واقتحام عالم الحضر، عالم ماري. لتحقيق طموحاتهم الشخصية.
أخضع الملك وحاشيته الكهنوتية الصبيان للفحص، للتأكد من صحة أنهما أبناء الرب.
ولقد تبين لمجمع كهنة ماري في “العشارة” المجاورة، ما هما إلا أبناء بشر عاديين ولا يمتلكون مواصفات أبناء الأرباب، مما عرضهما لعقوبة العمل في تنظيف أقنية الري المتفرعة عن نهر الفرات بمحيط ماري.
وعلى الرغم لما تعرضا له من انتكاسة إلا أنهما أصرا على البقاء في ماري العاصمة: “لكن مجدي كان يفكر بقطيعه الذي في الصحراء, فمنذ الأمس كان يفكر بمناسبة انقضاء شهر على وجوده في ماري, بالدافع المجنون الذي حمله إليها ليصبح عامل تعزيل, وقد فكر بإنفاق شيكلاته في المعبد والعودة الى الصحراء, لكن شيئاً ما, شيء عميق وغامض وواثق, كان يسخر من فكرته وكان يميل الى الانسياق وراء هذا الشيء الذي يثبته هنا, لكنه كان يحتاج لمؤازرة صديقه آشار. قال بطريقة مواربة:
– أتدري يا آشار . . الحياة في ماري رائعة, ويجب ألا نتخلى عنها فرد عليه هذا بوثوقية قاطعة مما فاجأته.
– بالتأكيد . . يجب ألا نفكر في هذا الأمر إطلاقاً . . ” ص64
في سياق تنامي الأحداث وتطورها تتوطد العلاقة بين الشابين والملكة التي تظل تعتقد بأنهما أبناء الرب أنليل.
يصعد مجدي سلم الحياة العسكرية فيتحول الى أهم فرسان ماري وقائد جيش الشمال، أما آشار فيظل يتعلم علوم الدين ويبقى أقرب الى لحياة المدنية والفنية، فيتقن فن النحت ونحت التماثيل. يصنع التماثيل الفخارية ويطلع على أسرار المعتقدات في ماري، وبخاصة الكتابة والعلوم الدين.
آشار الطالب الكهنوتي يقرأ بعين ناقدة علوم الدين في ماري ويطور من مداركه وتتطور معها شكوكه، ليصل أخيراً الى حد الالتقاء مع جماعة إيديولوجية معارضة تختفي في أدغال ماري وتنبئ وتدعو الى التغيير، تغيير كامل المنظومة المعتقدية لماري وسكانها.
يعيد آشار صياغة المعتقد الديني لماري, وينطلق من فكرة ـ أسطورة ربة الينبوع فيجعل منها حقيقة. ربه الينبوع التمثال – الآية الفنية. يجعل التمثال يعمل بطريقة تقنية، تتفجر الماء من الجرة التي بين يديها الناعمتين. يثبت آشار في ليلة ظلماء هذه الربة “التمثال الرخامي” في معبد القصر. وبعد أن تدفق الماء من هذا التمثال الجميل بدأت تضطرب المنظومة المعتقدية – الإيديولوجية لمجمل مملكة ماري.
هنا يقوم النص الروائي بوظيفتين الأولى منها الكشف عن بساطة وآليات تشكل المعتقدات الدينية الأولى وأشكال التعبد في المجتمعات الرافدية القديمة. والثاني دور الأفراد المميزين أمثال آشار ومجدي وغيرهم في صياغة الفكر الديني نفسه عبر التاريخ، بل في إبداعه كاستجابة اجتماعية إنسانية, وإجابة معرفية على تساؤلات الخلق والكون واستمرارية الحياة. وعندما تتبنى ماري المعتقد الجديد تعلن عليها الحرب وتنهار المملكة ويدمر قصر زمرليم.
يمكن القول بإيجاز أن رواية قصر الطين هي من أوائل النصوص الحديثة التي تعالج الحياة الاجتماعية والفكرية ونمط الحياة الاقتصادية في الممالك السورية القديمة إبان الألف الثاني ق م، وهي بحد ذاتها محاولة نادرة من حيث قدرتها على إعادة تركيب وتصوير الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة التي لا نعرف عنها شئ سوى بعض المدونات والروايات العامة.
وما تم إنجازه في النص ويسجل له، هو قوة صياغة معطيات المكان, وجغرافيا الحدث.
إن قصر زمرليم كمكان وكجغرافيا هو مكان حقيقي ولو كان أثرا في الوقت الراهن. وهو قصر الطين نفسه الذي يشكل عنواناً للرواية، هذا القصر الأعجوبة كان من أشهر القصور في المشرق خلال تلك الحقبة، أوسعها وأكثرها غرفاً وقاعات، وأعلاها جدرانا مزينة باللوحات..
لقد استطاع الكاتب أن يعيد إنتاج وتشكيل الحياة التاريخية شبه المتخيلة في نص معاصر، وكان قادراً أن يلم بتفاصيلها وتعرجاتها، وأن يخرج لنا بنص روائي وبناء درامي هادئ شديد الإقناع والسلاسة. فالرواية جاءت كاحتفاء بالمكان، وبالمكان الأثري تحديداً, احتفاءً على درجة عالية من القيمة الفنية والأدبية.
ــــــــــــــــــــ
· قصر الطين ـ رواية
· عبد الناصر العايد
· الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008
· عدد الصفحات179 ـ قطع متوسط