القامشلي من ذاكرة أنيس مديوايه

صبري رسول

أصدر السّيد أنيس حنا مديوايه، صاحب أقدم مكتبة في مدينة القامشلي، كتاباً عن القامشلي، تأريخاً وجغرافية، منذ نشوئها الأول عام 1925ولغاية 1958م، والكتاب صادر عن مطبعة اليازجي 2011م، ويقع في136 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف يتضمن صورة عن مدينة القامشلي مكررة على الغلاف الأمامي والخلفي بشكل متعاكس.

يختلف ترتيب العنوان الفرعي والرئيسي من غلاف الكتاب إلى الصفحة الأولى في الداخل، حيث على الغلاف جاء بالشكل الآتي: من ذاكرة أنيس حنا مديوايه، شاهد على العصر، القامشلي 1925-1958، أما في داخل الكتاب فجاء: القامشلي 1925-1958 ، من ذاكرة أنيس حنا مديوايه، شاهد على العصر.
وكوني أحد أبناء هذه المدينة، عشتُ فيها زمناً، ومازلتُ أتنفّسُ هواءها، وجدتُ نفسي مندفعاً إلى قراءة الكتاب، صفحة صفحة، متفحّصاً كلّ ما ورد فيه، وأرى أنّ الكتابة عن هذا الوليد المعرفي أمر ذات أهمية.
يشير الكاتب في عنوان الكتاب إلى تاريخٍ محدد ومدوّن بين 1925 و1958 ، التاريخ الأول هو بداية تأسيس هذه المدينة، والتاريخ الثاني سنة الوحدة  بين مصر وسوريا، لكن لم يسوّخ الكاتب سبب هذا التحديد، ومن ثم لم يلتزم بهذه الفترة الزمنية الممتدة لثلاث وثلاثين سنة، حيث يخرج كثيرا من هذا الإطار وكأنه يتنفّس زمنياً من خلال جغرافية المدينة، فيتحدّث عن مواضيع بعد الستينات والسبعينات.وكمثال، فرغم الإشارة إلى التاريخين في عنوان الكتاب نجد أنه يعنون تاريخ المسرح بين 1936 و1960 وهذا خروج من البحث العلمي، ولا يعطي انطباعاً بدقة الزمن الذي يبحث الكاتب فيه.
كما عَنْوَنَ الكاتبُ بحثاً بـ(النهضة الثقافية) وفي متنه لا نجد ما يشير إلى الثقافة، بل يتحدّث عن التعليم والتربية والمدارس، لذا يفضَّل لو كان العنوان(النهضة التعليمية).
فيما يتعلّق بالمعلومات والأخبار الواردة في الكتاب، ثمّة معلومات تدفع القارئ إلى تساؤلات مشروعة تطرح نفسَها بقوة: ما مدى مصداقية هذه المعلومة، وبما أن أي شاهد على العصر ليس بإمكانه التأكيد عليها إلا من خلال التوثيق الدقيق لمرجع، أو مصدر يذكر تلك المعلومة، ومنها:
يشير الكاتب إلى القرى المحيطة بالمدينة بأنها(يزيد عدد القرى حولها على ثلاثة آلاف قرية ونيف)ص10 ولا أظن أن هذه المعلومة دقيقة إلا إذا وردت في مصدرٍ إحصائيٍّ رسمي. وفي موضع آخر يتحدّث الكاتب عن التكاثر السكاني حينما أصبحت القامشلي منطقة عام1927م حتى التحمت القرى المجاورة بالمدينة((فكان أن ارتفع آنذاك عدد سكان المدينة بشكل مضطرد، إلى أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة ونيف))ص27 ،والسؤال: المقصود من(( آنذاك)) التاريخ المدوّن 1927 أم التاريخ الحديث؟ والكلام يحتاج إلى الدقة في التعبير أو الاعتماد على مرجع من مكتب الإحصاء السكاني.
لم يوثّق الكاتب هذه المعلومات التي وردت في الكتاب، وبما أنّ الكتاب يبحث عن تأريخ مدينة يتعلّق بتطورها السياسي والحضاري والفني والعمراني وغير ذلك، فأنه من الضرورة بمكان أنّ يوثّق ما يحتاج إلى التوثيق، ويذكر ما يتذكّره من أرشيف ذاكرته إذا لم يتوفّر التوثيق، وبوصفه شاهداً على العصر، فالأرقام الإحصائية قد تحتاج إلى دقة رياضية، كعدد سكان المدينة، وعدد القرى المجاورة، وعدد التلال والقلاع حولها. أما ذكر المصادر والمراجع في نهاية الكتاب ليس كافياً.
قد يجد القارئ نفسه أمام عدة ملاحظات تُسجَّل على أبحاث الكتاب، أو فصوله إن صحّ التعبير، حيث يعنون الكاتب كلّ فصل بعنوان فرعي، والملاحظات تلك تأتي وتتولّد من وصف الكاتب نفسه(شاهداً على العصر) لأن ذلك يتطلّب الموضوعية والدقة العلمية في المعلومة، والنّظرة الشاملة لتطور القامشلي منذ نشوئها وحتى 1958 التاريخ الذي ألزم الكاتب نفسه به بتسجيله على الغلاف.
أسهب الكاتب في بعض المواضيع، حتى أفرد لها صفحات طوال، وأوجز في أخرى حتى مرّ عليها مرور الكرام، ففي البحث المعنون بـ(المساجد والكنائس) يذكر الكاتب تاريخ بناء أول جامع في القامشلي، ويؤكد بأن هناك عشرة مساجد فيها، ثمّ يذكر أسماء الشيوخ في القامشلي، لكنه لا يذكر أسماء هذه الجوامع، ولا تاريخ بنائها، ثمَّ ينتقل إلى تأريخ بناء أول كنيسة فيها، ويسهب القول فيذكر أسماء الكنائس كلَّها، وتاريخ بنائها، وأسماء أصحاب النيافة لكلّ كنيسة، مع تواريخ كلّ منهم. ورغم أنني لا أفرّق بين جامع وكنيسة، ولا أفضّل ديناً على دين، ولا مذهباً على مذهب، إلا أني أعتقد أن المبدأ العلمي يتطلب ذكر أسماء الجوامع وتواريخ بنائها. والأمر نفسه يتكرّر عند حديثه عن الحياة السياسية، فيعدّد الأحزاب والتنظيمات السياسية في المحافظة، ثمّ يفرد حديثاً خاصاً عن كل تنظيم، تعريفه وتأريخ نشوئه، والأوائل لكل تنظيم، ومن ثمَّ يسهب طويلاً في الحديث عن الحزب الذي ينتمي إليه، وعن مؤسّسه أنطون سعادة، وعن الذين انتسبوا إليه، على امتداد ستّ صفحات، لكنه عندما يتحدّث عن بعض التنظيمات الكردية فيستخدم عبارة(كما تواجدت بعض التنظيمات الكردية…) وتأويل هذه العبارة تشير إلى هامشية تلك التنظيمات، وفي تأكيده على التنظيم الآثوري، يضيف(وكذلك التنظيم الآثوري) مما يقلّل من أهمية مثل هذه التنظيمات. وواقع الحياة السياسية كان مختلفاً في سنتي 1957-1958 وفق مصادر أخرى من الذي عايشوا تلك الفترة. وهكذا نجد أنّ المساحة المتعلّقة بالحياة السياسية تتوسّع في صفحاتٍ لأنّ الأمر يتعلّق بالحزب الذي ينتمي إليه، بل أفرد صفحات عن حياة مؤسّس الحزب، أما إذا تعلّق الأمر بأحزاب أخرى وهي وليدة زمنٍ يدخل في الحيّز الذي سجّله على غلاف الكتاب، تتقلّص المساحة حتى تدخل في عنق جملة تشير إلى الهامشية وضعف التأثير، والأمر بخلاف ذلك.
وهذا يدلّ على انحياز الكاتب إلى ذاكرته الفكرية والاستناد عليها كموقف سياسي، وهذا من حقّه الشخصي كإنسان، لكن يقع على مسؤوليته كباحث طرح الأمور بموضوعية وحيادية دون انحياز، فبحثه ليس مذكراتٍ شخصية يذكر فيها ما يهمّه ويترك ما يريده.
ألحق الكاتب ستَ عشرة صورةً بكتابه ودون أن يدوّنَ في أيّة صورة منها المَعْلَم العمراني الذي تشير إليه الصورة، ولا تاريخها، كما تعود تسعُ صورٍ منها إلى تاريخ المدينة الحديث، وتدلّ على معالمها بعد 1958م الزّمن الذييقف عنده بحث الكاتب، وهذا خروج عن أصول البحث العلمي في التاريخ، والعمران والحضارة.
ثمّة أخطاء كتابية كثيرة وردت في الكتاب، وسأقف عند بعضها فقط، (فتناولت جزأ، والصّحيح جزءاً))ص5 (الذين لجأوا، والصحيح لجؤوا)ص12 (لم تقوى، والصحيح لم تقوَ)ص14، (الجهود المشكورة التي بذلها مديرية التربية، والصحيح بذلتها)ص39.(تداعى بعض من الشباب السريان ، والصيحيح دعا)ص67،(أُنشأت محطة لقطار الشرق، والصحيح أُنشئت)ص82، (كان يُعرَض فلماً سينمائياً، والصحيح فلمٌ أو فيلمٌ)ص85 ، إذا كانت الأخطاء جاءت سهواً، أو لم يدقّق الكاتب أبحاثه، أو كانت (كيبوردية) أو غير ذلك، قد نغفر له ذلك، لأنّ الكتاب ليس بحثاً في النحو والصّرف، أما أن يأتي التعبير باهتاً، وضعيفاً، وركيكاً، يلسمه القارئ في كلّ صفحة، وفي معظم الكتاب وكأنه مترجم من لغة أخرى، والمترجم لا يتقن اللغة العربية، فهذه ملاحظة تسجّل على الكاتب والكتاب الذي يفتقد التعبير الفني والجمالي.

كما أودّ القول أنّ ما ذكرتُه من ملاحظات وانطباعات عن الكتاب لا يقلّل من أهميته العلمية، كما لا أدّعي أنّ ملاحظاتي هي عين الصّواب، لأنها وجهة نظر لا أكثر، فكلّنا قد نخطئ أو نصيب، لذا فسيبقى الكتابُ، رغم كلّ النواقص والهفوات التي يحفل بها، مرجعاً هاماً، ومصدراً لكثير من المعلومات التي يحتاجها الباحث في شؤون هذه المدينة، بوصفه تأريخاً من ذاكرة محبٍّ لها، عاش فيها، وعاصر بداية تطورها الثقافي والسياسي والاقتصادي يومَ كانت بلدة صغيرة منسية بين قراها، وإلى أن أصبحت واحدةً من سبع مدنٍ كبرى في سورية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…