تأليف: محمد أوزون
ترجمة: دلاور زنكي
الأدب الكردي في تركيا وسوريا
ترجمة: دلاور زنكي
الأدب الكردي في تركيا وسوريا
قلت في مكان آخر من هذا البحث: إنّ النماذج الأدبية السابقة كتبت باللهجة “الكرمانجية الشمالية”. واللهجة التي يتحدث بها الأكراد في تركيا وسوريا هي اللهجة الدارجة في الاتحاد السوفياتي وقسم كبير من الأكراد في إيران والعراق. وهذه من أوسع اللهجات الكردية التي يتكلمها الأكراد وأقدم اللهجات التي صنفت بها المؤلفات ودونت الكتب علماً أن الكتاب الكلاسيكيين دونوا بها العادات والتقاليد…
وقد صارت هذه العادة أكثر ثراء وغزارة ولاسيما بعد عام 1900م.. وتعتقد أن هذا العهد من الانتعاش لم يَحِنْ إلا بعد ظهور صحيفة “كردستان” التي بدأ صدورها في القاهرة في الثاني والعشرين من شهر نيسان عام ثمانية وتسعين وثمانمائة وألف 22/4/1898م، وهذه هي الصحيفة الكردية الأولى التي تصدر؛ ويصبح الأكراد أصحاب جريدة. وفي كل عام يحتفلون بذكرى مولد هذه الصحيفة التي جعلوا تاريخ صدورها عيداً للصحافة الكردية أما في كردستان العراق فإنّ الثاني والعشرين من نيسان عطلة رسمية تعطل فيها الدوائر والمؤسسات الحكومية.(79)
وكان مدير الصحيفة المسؤول مقداد مدحت بدرخان. وقد صدر منها /31/ واحد وثلاثون عدداً. كانت بداية صدورها في القاهرة ثم فيما بعد في “جنيف” والقاهرة و”لندن” و “فولكستون” البريطانية ومرة أخرى في “جنيف” واستمر صدورها.(80)
كانت الجريدة تنشر باللغة الكردية واللغة العثمانية “التركية القديمة” وعم انتشارها في كل أنحاء كردستان. وكانت مواضيع الصحيفة في الغالب الأعم ثقافية وفلسفية وسياسية وأدبية وتاريخية. وكانت الصحيفة تنتقد سياسة النظام العثماني نقداً لاذعاً وعنيفاً وتناوئ الدولة وحكامها، وكُتِبَ في هذا المعنى دون هوادة… وكان جل كتاب هذا النقد من المحررين والمسؤولين في الصحيفة.
اهتمت الصحيفة اهتماماً كبيراً بالثقافة واللغة والأدب، فنشرت كتاب الملا أحمد خاني “مم و زين” على صفحاتها في أعداد متفرقة بلغت /21/واحداً وعشرين عدداً وازدانت صفحاتها بقصائد حاجي قادر كويي، ونشرت فيها قصائد: أمين عالي بدرخان شقيق مدحت بك و والد ثريا وجلادت وكاميران بدرخان. وتحت إشرافها كتب مقال طويل عن معجم يوسف ضياء الدين باشا باللغة الكردية والعربية (كردي-عربي).. وفي مجال التاريخ، كتبت مقالات طويلة عن جزيرة ابن عمر.. وعن أسرة الأمير بدرخان وأسرة صلاح الدين الأيوبي…(81) كانت لغة الصحيفة لغة شفافة نقية وكان لها أثر عظيم في نفوس الأكراد ومشاعرهم وفي أحوال كردستان. وفي استانبول صارت هذه الصحيفة موضع فخار واعتزاز لدى المهتمين بشؤون الثقافية واللغة.. لقد كانت الصحيفة رسول ثقافة ومعرفة وسفير الروح القومية والوطنية في كل الأوساط الكردية، حملت على صفحاتها عهداً جديداً من الانفتاح والازدهار، ومزيداً من الطموح والتطلع إلى مستقبل مشرق.(82)
لدى صدور “كردستان” انتعشت بشكل خاص أحوال النثر الكردي، وخرجت القصص الكردية القصيرة في ظاهرة استثنائية فتجذرت وتفرعت. ففي عام 1913م ظهرت في استانبول –أول مرة- قصة من الأدب الكردي باسم (قصة Çîrok) في عددين متتاليين من مجلة “روزي كرد” وكان كاتب هذه القصة فؤاد تمو أحد مؤسسي الجمعية الكردية “هيفي” في استانبول عام 1912م ومحرراً في مجلة “روزي كرد” وعلى الرغم من كل شيء أصدر أربعة أعداد من هذه المجلة مع أنه بمفرده يتحمل جميع الأعباء وقد ذاع صيته بفضل مقالاته في المجلة وبفضل هذه القصة القصيرة.(83) ويبدو لنا أن محرري وكتاب الصحيفة كانوا يسعون إلى تحسين اللغة والآداب الكردية تحت تأثير حركة التنظيمات العثمانية ولم يدخروا في ذلك جهداً. و “القصة” خير مثال وخير دليل على جهود بذلوها.. وهذه القصة جديدة وحديثة في أسلوبها ومضمونها وطريقة سردها ومفردات لغتها أي أنها ليست لها سابقة في عالم القصة القصيرة.
تتحدث القصة عن حياة صبي صغير اسمه “شويش” والد “شويش” راع مسكين بائس لا حول له ولا قوة. إنه في العاشرة من العمر. ولكنه طفل ذكي ولبيب لم يعرف له أماً… هو و والده يعيشان في الدرك الأسفل من الحاجة والفاقة.(84)
بهذه الصيغة يبدأ الكاتب قصته فيشد انتباه القارئ ويقسره على متابعة القراءة.. ولكن فرحة القراء لم تكتمل بمتابعة أحداثها حيث لم ينشر من القصة سوى جزء منها في عددين من الصحيفة التي لم يصدر منها سوى عددين.
في إطلالة عام 1900م أصبحت استانبول مسرحاً و وسطاً للسياسة الكردية وثقافتها. ها هي مدينة “استانبول” عاصمة الدولة العثمانية، المدينة الأثرية القديمة، مدينة البيزنطيين، الجسر القائم بين الشرق والغرب. قد أصبحت مقراً أساسياً للأكراد ومركزاً لحركاتهم الثقافية والسياسية. مرّ بنا آنفاً أن الدولة العثمانية حاولت بخبرتها وخططها أن تعزل الإمارات الكردية وتجردها من السلاح الحزب “العسكري والسياسي” وتزيلها وتنهي وجودها، فلما نجحت في سعيها، وهجّرت الأسر والعائلات الكبيرة، أسكنت العائلات الكبيرة جداً، العريقة التي كان لها تاريخ طويل الحكم وإدارة الإمارات الكردية في استانبول وأسندت إليها وظائف عالية في الدولة ومراكز رفيعة.. وهكذا أصبحت تلك الأسر عرضة للأنظار من جهة، ومن جهة أخرى دخلت عالماً جديداً من الحركات السياسية والثقافية والفلسفية والأدبية. وكانت أسر أخرى –سوى هذه الأسر- قد حضرت إلى استانبول واستقرت فيها لأغراض تجارية أو طلباً لتلقي العلوم والدراسة… لقد كانت استانبول “مركزاً” لكل هؤلاء.
في تلك الأيام كانت موجات من الأحاسيس الوطنية والشعور القومي قد ارتفعت… واستفاقت جميع القوميات التي كانت تخضع للدولة العثمانية، ولم يتخلف الأكراد عن هذه اليقظة. ونهض الذين كانوا في استانبول بقصد التجارة أو الدراسة وأصحاب الوظائف الكبيرة في الدولة بالواجب الذي تمليهِ عليهم قوميتهم الكردية. ونشط الوعي السياسي والشعور القومي لديهم فأسسوا –أول مرة- في استانبول جمعية كردية باسم: “كردستان عزمي قوي جمعيتي” (Kurdistan Azm-i Kavi Cemiyeti) (85) وبعد هذه الجمعية تأسست جمعيات أخرى مثل: “جمعية التعاون والترقي الكردية” (Kurd Teaun ve Terakki Cimiyeti) ، و (جمعية هيفي “الأمل” لطلبة الأكراد kurt Talebe Hêvî Cemiyeti (Kurd Tamim-i Maarif Cemiyeti), (Kurdistan Teali Cemiyeti). (86) وقد أصدرت هذه الجمعيات والمؤسسات صحفاً ومجلات مثل “كردستان” و”جريدة التعاون والترقي الكردية” و(“هتاوي كرد” و “روزي كرد”)[1] و “زين Jîn” وكانت هذه الصحف والمجلات الصادرة باللغة التركية العثمانية واللغة الكردية قد قدمت عملاً جليلاً للثقافة الكردية ولغتها وآدابها. ووسعت آفاقها ومهدت لانتشارها فترسخت أسس وقواعد اللهجتين الكبيرتين لهجة الشمال ولهجة الجنوب. ولا شك أن أهم هذه الصحف والمنشورات كانت مجلة ” الحياة Jîn” التي صدرت في خريف7/11/ عام 1918م. ونُشر منها /25/ خمسة وعشرون عدداً،(87) وكان صدورها تحت إشراف وتوجيه من: حمزة بك موكسي وممدوح سليم بك وانلي وعضوية جمعية (Kurt Teali Cemiyeti) وكانت هذه المجلة تنشر على صفحات مقتطفات من الأعمال الشعرية الكلاسيكية “التقليدية” لشعراء كـ “ملا أحمد الجزيري” و ملا “أحمد الخاني” و “سياه بوش” و “نالي” و “حاجي قادر كويي”، كما كانت تنشر أعمالاً من الكتابات الحديثة لمحرري المجلة مثل: توفيق سليماني (بيره ميرد) و “خليل خيالي” و “كمال فوزي”، و “عبدالرحمن رحمي بك هكاري”، و “عزيز يامولكي”، و”لاو رشيد”، و”حلمي بك صويركي”، و”إحسان نوري”، و”كاميران عالي بدرخان” .
للشاعر توفيق سليماني الذي غدا شاعراً شهيراً فيما بعد (بيره ميرد) شعر رقيق وخلاب، ويخيل إليّ أن عبدالرحمن رحمي هكاري أكبر من جميع الكتاب الذين زاولوا الكتابة باللهجة الكرمانجية، وأرى من الضرورة بمكان أن نتوقف قليلاً متأملين كتاباته الجذابة.. كان عبدالرحمن رحمي يكتب باللغة الكردية واللغة التركية كما أنه أتقن الحوار في السجع الكردي المسرحي وبرع فيه وكتبه بأسلوب عذب ونشره في مجلة “الحياة Jîn” تحت العنوان “ممي آلان”. ومن خلال العنوان يبدو لنا أن الكاتب قد نفذ عمله متأثراً بالملحمة المشهورة “ممي آلان” بيد أنه ليس بين العملين أية صلة أو قرابة قريبة أو بعيدة.. فهو يصور في غنائيته الحوارية المسرحية السجعية حياة الإنسان الكردي وتفكيره وأحاسيسه وموقفه- في عهد صلاح الدين الأيوبي- من الحروب الصليبية.. يقول في مسرحيته:
يأمر من أمير “هكار” بتسلح الأكراد لمواجهة الصليبين ومحاربتهم.. وكان “ممو” متأهباً للذهاب مع المقاتلين لخوض المعركة، والمسرحية تروى لنا الحوار الذي جرى بينه وبين والدته وزوجته التي تأهل بها قبل قليل من الوقت “عروس سبعة أيام” وقد عزم على الخروج إلى الحرب ومغادرة أمه وعروسه على الشكل التالي:
ممو: لقد مرت سبعة أيام على عرسنا
ليتني لا أفارقك
إنني ذاهب لحرب الكفار
فكفى عن البكاء يا ظبيتي
غزال: لقد غدا “ممو” اليوم جندياً
لقد استحال حبنا آهاتٍ
فخذني معك
وإلا فاقتلني ثم اذهب
ممو: كفى عن ذرف العبرات
إن العدو- اليوم- يترصدنا بحقده
يا عزيزتي الغالية
يا حبيبتي.. يا ظبيتي.. كفي عن البكاء.(88)
Memo: Îro heft e, dawet kirî
Xezayê ez ji te kirî
Ez diçime ber kafîrî
Xezala min, delala min bes bigirî.
Xezal: Memo îro bû esker e
Evîna me bû keser e
Tu min bibe digel xwe, here
Yan bikuje, yan bikuj paşê here.
Memo:Tu bes rohnîkan bibarîne
Îro dijmin li me kîn e
Westana min layiq nîn e
Xezala min, delala min, bes bigirî.
وفي وسعنا أن نؤكد أن الأدب الكردي بكل صنوفه وأجناسه سار خطوات حثيثة نحو الكمال بعد الجهود المضنية التي بذلها كتاب ومحررو مجلة “الحياة Jîn”. كانت أعوام 1920م تمثل عهداً للفراغ والتشوش والعبثية لا يقع في إطار بحثنا لذلك سنتجاوزه ونضرب عنه صفحاً ولا نتطرق إليه. وكل ما في الأمر أن الأكراد لم يحققوا فيها هدفاً ولم يحركوا ساكناً ولكنّ عام 1923م كان له شأن كبير لدى أكراد تركيا وسوريا. ففي ذلك العام تأسست الجمهورية التركية وران صمت وركود على الأكراد الذين كانوا منكبين على مزاولة أدبهم ولغتهم.
وكردستان تركيا، وهي القسم الأعظم من مجمل أراضي كردستان، صاحبة الأدب الكردي الكلاسيكي مهد الحضارات في الشرق خمدت فيها كل حركة أدبية وركدت ريح الثقافة ونال الفساد كل شيء بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض العثمانيين. وأصاب العقم العقول فلم تعد تثمر أو تزهر. ولم يكن السبب في هذا وذاك إلا تبدل الأنظمة وتغير الحكومات والدساتير والنظريات السياسية.
وفيما قبل عام 1923م كان القسم الأعظم من كردستان داخلاً في حدود الدولة العثمانية وكان أصغر الأجزاء تحت الخطوط الإيرانية، وكان ذاك القسم الأعظم –داخل الإمبراطورية العثمانية- يتمتع بحكم نصف ذاتي ضمن إمارات كردية يدير شؤونها أمراء أكراد. وكان يطلق عليه الاسم الرسمي (الأيالة الكردستانية) ولم توجد آنذاك قوانين لقمع اللغة الكردية ومصادرة آدابها أو منعها من التداول. ولم يوجد أي حظر على أهلها، فلما أقام الكماليون جمهوريتهم انقلب كل شيء رأساً على عقب، في الوقت الذي كان الناس يتطلعون إلى عهد جديد من إطلاق للحريات وجلب الرخاء إلى البلاد. لكن الجمهورية الجديدة اثبت سياسة مجحفة وجائرة وغدرت بكل الآمال فأنكرت الوجود الكردي شعباً ولغة وزعمت ما زعمت وجعلت كل شيء يمت إلى الأكراد ممنوعاً ومحظوراً.(89)
لا شك في أن إنكار شعب كالشعب الكردي مهزلة ما بعدها مهزلة.. وتظهر لنا صورة المهزلة أكثر وضوحاً إذا علمنا أن الشعب الكردي من أقدم الشعوب في المنطقة وكبيراً في عدد نفوسه…
وهذا الموقف ليس هزلياً وحسب بل هو وحشي غارق في الوحشية والتنكر للإنسانية. لقد كانت أعوام 1924-1938م مكثت فيها البلاد في حرب لا هوادة فيها مليئة بالقتل والإبادة والبطش. ولم يفلح الأكراد في مقاومتهم ولم يستطيعوا أن يضعوا حداً لجور الطغاة في الانتفاضات التي كانوا ينهضون بها حيناً بعد آخر. وكان الأتراك يهزمون هذه الانتفاضات بدعم من الفرنسيين والإنكليز ومؤازرة من بعض الدول المجاورة. وعندما أقبلت الدنيا على مخاوف الحرب الكونية الثانية كان الأكراد قد هزموا، وكانت البلاد قد آلت خرائب وأطلالاً، وكان أكثر زعماء الحركات الكردية قد قتلوا أو أعدموا وكانت البقية الباقية قد ولت وفرت إلى خارج البلاد وبعد هذه الحروب عزلت كردستان وحجبت عن العالم الخارجي. فأتلفت آثارهم وحيل بينهم وبين التعليم. وطُمس كل ما يمت إلى الأكراد بصلة وأحرقت كتبهم وسجلات وآدابهم وتاريخهم وقطعت كل أواصرهم التي تربطهم بالماضي.(90)
(يتبع)
وكان مدير الصحيفة المسؤول مقداد مدحت بدرخان. وقد صدر منها /31/ واحد وثلاثون عدداً. كانت بداية صدورها في القاهرة ثم فيما بعد في “جنيف” والقاهرة و”لندن” و “فولكستون” البريطانية ومرة أخرى في “جنيف” واستمر صدورها.(80)
كانت الجريدة تنشر باللغة الكردية واللغة العثمانية “التركية القديمة” وعم انتشارها في كل أنحاء كردستان. وكانت مواضيع الصحيفة في الغالب الأعم ثقافية وفلسفية وسياسية وأدبية وتاريخية. وكانت الصحيفة تنتقد سياسة النظام العثماني نقداً لاذعاً وعنيفاً وتناوئ الدولة وحكامها، وكُتِبَ في هذا المعنى دون هوادة… وكان جل كتاب هذا النقد من المحررين والمسؤولين في الصحيفة.
اهتمت الصحيفة اهتماماً كبيراً بالثقافة واللغة والأدب، فنشرت كتاب الملا أحمد خاني “مم و زين” على صفحاتها في أعداد متفرقة بلغت /21/واحداً وعشرين عدداً وازدانت صفحاتها بقصائد حاجي قادر كويي، ونشرت فيها قصائد: أمين عالي بدرخان شقيق مدحت بك و والد ثريا وجلادت وكاميران بدرخان. وتحت إشرافها كتب مقال طويل عن معجم يوسف ضياء الدين باشا باللغة الكردية والعربية (كردي-عربي).. وفي مجال التاريخ، كتبت مقالات طويلة عن جزيرة ابن عمر.. وعن أسرة الأمير بدرخان وأسرة صلاح الدين الأيوبي…(81) كانت لغة الصحيفة لغة شفافة نقية وكان لها أثر عظيم في نفوس الأكراد ومشاعرهم وفي أحوال كردستان. وفي استانبول صارت هذه الصحيفة موضع فخار واعتزاز لدى المهتمين بشؤون الثقافية واللغة.. لقد كانت الصحيفة رسول ثقافة ومعرفة وسفير الروح القومية والوطنية في كل الأوساط الكردية، حملت على صفحاتها عهداً جديداً من الانفتاح والازدهار، ومزيداً من الطموح والتطلع إلى مستقبل مشرق.(82)
لدى صدور “كردستان” انتعشت بشكل خاص أحوال النثر الكردي، وخرجت القصص الكردية القصيرة في ظاهرة استثنائية فتجذرت وتفرعت. ففي عام 1913م ظهرت في استانبول –أول مرة- قصة من الأدب الكردي باسم (قصة Çîrok) في عددين متتاليين من مجلة “روزي كرد” وكان كاتب هذه القصة فؤاد تمو أحد مؤسسي الجمعية الكردية “هيفي” في استانبول عام 1912م ومحرراً في مجلة “روزي كرد” وعلى الرغم من كل شيء أصدر أربعة أعداد من هذه المجلة مع أنه بمفرده يتحمل جميع الأعباء وقد ذاع صيته بفضل مقالاته في المجلة وبفضل هذه القصة القصيرة.(83) ويبدو لنا أن محرري وكتاب الصحيفة كانوا يسعون إلى تحسين اللغة والآداب الكردية تحت تأثير حركة التنظيمات العثمانية ولم يدخروا في ذلك جهداً. و “القصة” خير مثال وخير دليل على جهود بذلوها.. وهذه القصة جديدة وحديثة في أسلوبها ومضمونها وطريقة سردها ومفردات لغتها أي أنها ليست لها سابقة في عالم القصة القصيرة.
تتحدث القصة عن حياة صبي صغير اسمه “شويش” والد “شويش” راع مسكين بائس لا حول له ولا قوة. إنه في العاشرة من العمر. ولكنه طفل ذكي ولبيب لم يعرف له أماً… هو و والده يعيشان في الدرك الأسفل من الحاجة والفاقة.(84)
بهذه الصيغة يبدأ الكاتب قصته فيشد انتباه القارئ ويقسره على متابعة القراءة.. ولكن فرحة القراء لم تكتمل بمتابعة أحداثها حيث لم ينشر من القصة سوى جزء منها في عددين من الصحيفة التي لم يصدر منها سوى عددين.
في إطلالة عام 1900م أصبحت استانبول مسرحاً و وسطاً للسياسة الكردية وثقافتها. ها هي مدينة “استانبول” عاصمة الدولة العثمانية، المدينة الأثرية القديمة، مدينة البيزنطيين، الجسر القائم بين الشرق والغرب. قد أصبحت مقراً أساسياً للأكراد ومركزاً لحركاتهم الثقافية والسياسية. مرّ بنا آنفاً أن الدولة العثمانية حاولت بخبرتها وخططها أن تعزل الإمارات الكردية وتجردها من السلاح الحزب “العسكري والسياسي” وتزيلها وتنهي وجودها، فلما نجحت في سعيها، وهجّرت الأسر والعائلات الكبيرة، أسكنت العائلات الكبيرة جداً، العريقة التي كان لها تاريخ طويل الحكم وإدارة الإمارات الكردية في استانبول وأسندت إليها وظائف عالية في الدولة ومراكز رفيعة.. وهكذا أصبحت تلك الأسر عرضة للأنظار من جهة، ومن جهة أخرى دخلت عالماً جديداً من الحركات السياسية والثقافية والفلسفية والأدبية. وكانت أسر أخرى –سوى هذه الأسر- قد حضرت إلى استانبول واستقرت فيها لأغراض تجارية أو طلباً لتلقي العلوم والدراسة… لقد كانت استانبول “مركزاً” لكل هؤلاء.
في تلك الأيام كانت موجات من الأحاسيس الوطنية والشعور القومي قد ارتفعت… واستفاقت جميع القوميات التي كانت تخضع للدولة العثمانية، ولم يتخلف الأكراد عن هذه اليقظة. ونهض الذين كانوا في استانبول بقصد التجارة أو الدراسة وأصحاب الوظائف الكبيرة في الدولة بالواجب الذي تمليهِ عليهم قوميتهم الكردية. ونشط الوعي السياسي والشعور القومي لديهم فأسسوا –أول مرة- في استانبول جمعية كردية باسم: “كردستان عزمي قوي جمعيتي” (Kurdistan Azm-i Kavi Cemiyeti) (85) وبعد هذه الجمعية تأسست جمعيات أخرى مثل: “جمعية التعاون والترقي الكردية” (Kurd Teaun ve Terakki Cimiyeti) ، و (جمعية هيفي “الأمل” لطلبة الأكراد kurt Talebe Hêvî Cemiyeti (Kurd Tamim-i Maarif Cemiyeti), (Kurdistan Teali Cemiyeti). (86) وقد أصدرت هذه الجمعيات والمؤسسات صحفاً ومجلات مثل “كردستان” و”جريدة التعاون والترقي الكردية” و(“هتاوي كرد” و “روزي كرد”)[1] و “زين Jîn” وكانت هذه الصحف والمجلات الصادرة باللغة التركية العثمانية واللغة الكردية قد قدمت عملاً جليلاً للثقافة الكردية ولغتها وآدابها. ووسعت آفاقها ومهدت لانتشارها فترسخت أسس وقواعد اللهجتين الكبيرتين لهجة الشمال ولهجة الجنوب. ولا شك أن أهم هذه الصحف والمنشورات كانت مجلة ” الحياة Jîn” التي صدرت في خريف7/11/ عام 1918م. ونُشر منها /25/ خمسة وعشرون عدداً،(87) وكان صدورها تحت إشراف وتوجيه من: حمزة بك موكسي وممدوح سليم بك وانلي وعضوية جمعية (Kurt Teali Cemiyeti) وكانت هذه المجلة تنشر على صفحات مقتطفات من الأعمال الشعرية الكلاسيكية “التقليدية” لشعراء كـ “ملا أحمد الجزيري” و ملا “أحمد الخاني” و “سياه بوش” و “نالي” و “حاجي قادر كويي”، كما كانت تنشر أعمالاً من الكتابات الحديثة لمحرري المجلة مثل: توفيق سليماني (بيره ميرد) و “خليل خيالي” و “كمال فوزي”، و “عبدالرحمن رحمي بك هكاري”، و “عزيز يامولكي”، و”لاو رشيد”، و”حلمي بك صويركي”، و”إحسان نوري”، و”كاميران عالي بدرخان” .
للشاعر توفيق سليماني الذي غدا شاعراً شهيراً فيما بعد (بيره ميرد) شعر رقيق وخلاب، ويخيل إليّ أن عبدالرحمن رحمي هكاري أكبر من جميع الكتاب الذين زاولوا الكتابة باللهجة الكرمانجية، وأرى من الضرورة بمكان أن نتوقف قليلاً متأملين كتاباته الجذابة.. كان عبدالرحمن رحمي يكتب باللغة الكردية واللغة التركية كما أنه أتقن الحوار في السجع الكردي المسرحي وبرع فيه وكتبه بأسلوب عذب ونشره في مجلة “الحياة Jîn” تحت العنوان “ممي آلان”. ومن خلال العنوان يبدو لنا أن الكاتب قد نفذ عمله متأثراً بالملحمة المشهورة “ممي آلان” بيد أنه ليس بين العملين أية صلة أو قرابة قريبة أو بعيدة.. فهو يصور في غنائيته الحوارية المسرحية السجعية حياة الإنسان الكردي وتفكيره وأحاسيسه وموقفه- في عهد صلاح الدين الأيوبي- من الحروب الصليبية.. يقول في مسرحيته:
يأمر من أمير “هكار” بتسلح الأكراد لمواجهة الصليبين ومحاربتهم.. وكان “ممو” متأهباً للذهاب مع المقاتلين لخوض المعركة، والمسرحية تروى لنا الحوار الذي جرى بينه وبين والدته وزوجته التي تأهل بها قبل قليل من الوقت “عروس سبعة أيام” وقد عزم على الخروج إلى الحرب ومغادرة أمه وعروسه على الشكل التالي:
ممو: لقد مرت سبعة أيام على عرسنا
ليتني لا أفارقك
إنني ذاهب لحرب الكفار
فكفى عن البكاء يا ظبيتي
غزال: لقد غدا “ممو” اليوم جندياً
لقد استحال حبنا آهاتٍ
فخذني معك
وإلا فاقتلني ثم اذهب
ممو: كفى عن ذرف العبرات
إن العدو- اليوم- يترصدنا بحقده
يا عزيزتي الغالية
يا حبيبتي.. يا ظبيتي.. كفي عن البكاء.(88)
Memo: Îro heft e, dawet kirî
Xezayê ez ji te kirî
Ez diçime ber kafîrî
Xezala min, delala min bes bigirî.
Xezal: Memo îro bû esker e
Evîna me bû keser e
Tu min bibe digel xwe, here
Yan bikuje, yan bikuj paşê here.
Memo:Tu bes rohnîkan bibarîne
Îro dijmin li me kîn e
Westana min layiq nîn e
Xezala min, delala min, bes bigirî.
وفي وسعنا أن نؤكد أن الأدب الكردي بكل صنوفه وأجناسه سار خطوات حثيثة نحو الكمال بعد الجهود المضنية التي بذلها كتاب ومحررو مجلة “الحياة Jîn”. كانت أعوام 1920م تمثل عهداً للفراغ والتشوش والعبثية لا يقع في إطار بحثنا لذلك سنتجاوزه ونضرب عنه صفحاً ولا نتطرق إليه. وكل ما في الأمر أن الأكراد لم يحققوا فيها هدفاً ولم يحركوا ساكناً ولكنّ عام 1923م كان له شأن كبير لدى أكراد تركيا وسوريا. ففي ذلك العام تأسست الجمهورية التركية وران صمت وركود على الأكراد الذين كانوا منكبين على مزاولة أدبهم ولغتهم.
وكردستان تركيا، وهي القسم الأعظم من مجمل أراضي كردستان، صاحبة الأدب الكردي الكلاسيكي مهد الحضارات في الشرق خمدت فيها كل حركة أدبية وركدت ريح الثقافة ونال الفساد كل شيء بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض العثمانيين. وأصاب العقم العقول فلم تعد تثمر أو تزهر. ولم يكن السبب في هذا وذاك إلا تبدل الأنظمة وتغير الحكومات والدساتير والنظريات السياسية.
وفيما قبل عام 1923م كان القسم الأعظم من كردستان داخلاً في حدود الدولة العثمانية وكان أصغر الأجزاء تحت الخطوط الإيرانية، وكان ذاك القسم الأعظم –داخل الإمبراطورية العثمانية- يتمتع بحكم نصف ذاتي ضمن إمارات كردية يدير شؤونها أمراء أكراد. وكان يطلق عليه الاسم الرسمي (الأيالة الكردستانية) ولم توجد آنذاك قوانين لقمع اللغة الكردية ومصادرة آدابها أو منعها من التداول. ولم يوجد أي حظر على أهلها، فلما أقام الكماليون جمهوريتهم انقلب كل شيء رأساً على عقب، في الوقت الذي كان الناس يتطلعون إلى عهد جديد من إطلاق للحريات وجلب الرخاء إلى البلاد. لكن الجمهورية الجديدة اثبت سياسة مجحفة وجائرة وغدرت بكل الآمال فأنكرت الوجود الكردي شعباً ولغة وزعمت ما زعمت وجعلت كل شيء يمت إلى الأكراد ممنوعاً ومحظوراً.(89)
لا شك في أن إنكار شعب كالشعب الكردي مهزلة ما بعدها مهزلة.. وتظهر لنا صورة المهزلة أكثر وضوحاً إذا علمنا أن الشعب الكردي من أقدم الشعوب في المنطقة وكبيراً في عدد نفوسه…
وهذا الموقف ليس هزلياً وحسب بل هو وحشي غارق في الوحشية والتنكر للإنسانية. لقد كانت أعوام 1924-1938م مكثت فيها البلاد في حرب لا هوادة فيها مليئة بالقتل والإبادة والبطش. ولم يفلح الأكراد في مقاومتهم ولم يستطيعوا أن يضعوا حداً لجور الطغاة في الانتفاضات التي كانوا ينهضون بها حيناً بعد آخر. وكان الأتراك يهزمون هذه الانتفاضات بدعم من الفرنسيين والإنكليز ومؤازرة من بعض الدول المجاورة. وعندما أقبلت الدنيا على مخاوف الحرب الكونية الثانية كان الأكراد قد هزموا، وكانت البلاد قد آلت خرائب وأطلالاً، وكان أكثر زعماء الحركات الكردية قد قتلوا أو أعدموا وكانت البقية الباقية قد ولت وفرت إلى خارج البلاد وبعد هذه الحروب عزلت كردستان وحجبت عن العالم الخارجي. فأتلفت آثارهم وحيل بينهم وبين التعليم. وطُمس كل ما يمت إلى الأكراد بصلة وأحرقت كتبهم وسجلات وآدابهم وتاريخهم وقطعت كل أواصرهم التي تربطهم بالماضي.(90)
(يتبع)
[1] – ف-ف مينورسكي وأيضاً ف-نيكيتين يترجمان “نهار الكرد” مثل “اليوم الكردي”، “انظر ف-ف-مينورسكي، الأكراد، ص18، ف-نيكيتين، الأكراد موسكو 1964م-ص290” باللهجة الكردية الكرمانجية تُلفظ كلمتا “اليوم” و “الشمس” بكلمة واحدة “روز”. أما في الملاحظة المنشورة باللغة الألمانية في مجلة “Die Welt des Islam” الترجمة لتسمية “نهار الكرد” صحيحة “انظر:Die Welt des Islam, Berlin.1913, Band.I, Heft 3/4, S.221.” بعد منع “نهار الكرد” بّدل ناشرو المجلة كلمة “روز” والتي هي باللهجة الكرمانجية بكلمة “هتاوي” بالصورانية وهي تحمل نفس المعنى الأول لكلمة “روز” باللهجة الكرمانجية وذلك تحسباً للمصاعب. المصدر:جليلي جليل “نهضة الأكراد الثقافية والقومية-في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين” نقله عن الروسية: بافي نازي و د.ولاتو و كدر.رابطة كاوا للثقافة الكردية .العدد:9.بيروت-1986.الهامش:ص100.-المترجم