د. آلان كيكاني
هل لديك أبناءٌ سيدي القارئ ؟
هل لديك أبناءٌ سيدي القارئ ؟
وهل أصيب أحدهم يوما بوعكة بسيطة ووجدت نفسك كيف تتقلب في الفراش ولا يستقر لك جفن ولا يرتاح لك بال حتى يبرأ من علته ؟ وهل شعرت كيف تتمنى من قلبك أن يأتيك ما به من أذى ؟ لا عيب في ذلك ولا خطأ . فالله سبحانه وتعالى حبب الأبناء بآبائهم ليقوموا على تربيتهم وعدم التهرب من الواجب تجاههم لتستمر الحياة , فلولا هذه المحبة والرحمة التي أودعها الله في قلوب الآباء والأمهات لانقرض الإنسان من على وجه الأرض . وعليه , هل هناك ذو عقل يدفع أبناءه باتجاه التهلكة ؟ يبدو هذا الأمر على درجة كبيرة من قسوة القلب ولكنه يحدث, بل ويحدث كثيراً عندما تهان الكرامات وتنتهك الأعراض , عندها يمكن أن تدفع أم ولدها إلى ميادين القتال رغم خطورة ذلك على حياته.
كثيراً ما رأينا الكرديات يدفعن أبناءهن إلى الالتحاق بساحات القتال دفاعاً عن الدم الكردي المراق والحق الكردي المغتصب والإنسان الكردي المهان. هذه تتكرر الآن في حمص, حيث آباء وأمهات يقومون بتشجيع أبنائهم على الخروج إلى المظاهرات رغم الإجرام الذي يحدث بحق المتظاهرين العزل .
نعم , هناك أمهات في حمص يوبخن أبناءهن إن هم تقاعسوا عن المظاهرات وهناك من يطلبن منهم الاستعجال في تناول الطعام أو الحمام كي لا يتأخروا عن رفاقهم المتظاهرين , بل وهنالك من يطلقن الزغاريد على من يستشهد من أبنائهن .
شادي زميل عمل حمصي وصديق عزيز كلما التقيه أسأله عن حال أم خالد جارته الحمصية التي كثيراً ما يحدثني عنها والأم لشهيد ولآخر معتقل ولآخر مفقود منذ بداية الأحداث يرد شادي بضحكته التي لا تفارقه : أم خالد مندسة حتى النخاع تحمل العصا في يدها وتمنع ما تبقى من أبنائها البالغين من الدخول إلى البيت مادامت هناك مظاهرة في الشارع . ويضيف ضاحكاً: من أبنائها من يتمارض أحياناً لتسمح له بأخذ قسط من الراحة .
كثيراً ما يغتم صدري ويكتئب قلبي وأنا أقلب صفحات النت أو أشاهد التلفاز لأرى شباباً في مقتبل العمر يسقطون قتلى بلا رحمة ولا شفقة وأبحث عمن يزيل الهم والكآبة عني فلا أجد وسيلة أنجع من الاجتماع بصديقي الحمصي فأجد عنده حاجتي ومبتغاي رغم أنه أولى بالهم والغم مني لأن البلاء الأكبر يدور على رؤوس أهله وأقربائه في حمص , أسأله اللقاء فيقول الباب مفتوح تعال , هو عفويي لا يحب المراسيم والإيتيكيت , بسيط لا يعقد الأمور , أراه فينسيني همومي بخفة دمه ودماثته رغم أن أهله يسكنون أكثر المناطق توتراً في حمص , أقول له هات ما لديك اليوم فيقول : اسمع , قُتِل شبيحٌ حمصيٌ وهناك في الآخرة تم فرزه إلى جهنم وبعد فترة اشتاق لأولاده وراح إلى مكتب البريد في جهنم ليتصل بعائلته وطالت مكالمته وعندما ذهب ليدفع ثمن المكالمة سأله الجابي : مع أية مدينة تكلمت ؟ فقال مع حمص . فرد عليه الجابي : من جهنم إلى جهنم مجاني . ونضحك .
ويستمر شادي بالحديث عند سؤاله عن أحوال أهل حمص فيقول : يخرجون , وفي آخر الشارع يرميهم الأمن بالرصاص الحي وتتطاير العيون وفتاة الأدمغة ويفرش الدم إسفلت الشارع دون أن تتثبط عزيمتهم أو تنهار قواهم أو تتوجس قلوبهم خيفة , يهربون , إلا أنهم سرعان ما يعودون مرة أخرى , يطلقون الشعارات , ويخرج عليهم الأمن والشبيحة مرة أخرى ويرشون عليهم زخات الرصاص الحي فيبتعدون , وفي آخر الشارع يجتمعون ويحصون أنفسهم ويحسبون عدد القتلى الذين سقطوا منهم ثم يبدؤون بقراءة الفاتحة على أوراحهم ويعيدون الكرة وكأن شيئاً لم يكن . وهكذا يعيدون المرة تلو الأخرى حتى يتعب رجال الأمن دون أن يعرف الكسل والملل منفذا إلى قلوب ثوار حمص .
أعود إلى البيت بعد جرعة المهدئ من شادي وأنام لاستيقظ باكرا وأذهب إلى العمل حيث شادي , نِعمَ الأنيس , وخير جليس , أدور في أجنحة المستشفى ويعنّ لي شادي من أحد الممرات أحييه وأسأل عن حاله وأهله وقبل أن أقول له هات , يقول شادي : اسمع , كانت دورية للأمن تقصف باب السباع وكان هناك رجل يعود بدراجته الهوائية من العمل إلى بيته في حي باب السباع , وكان لا بد من أن يمر من وسط عناصر الأمن , تردد الرجل قليلاً قبل الوصول إلى الدورية ولكنه غامر وقرر المتابعة وعندما كان قريباً جداً تفاجأ به رجال الدورية فأمر قائد الدورية أحد عناصره بقتله فوراً قائلاً بصوت مدو : رش هالحيوان يا عسكري . ولكن سائق الدراجة قال بصوت هادئ : ليش الشباب عم يشطفوا سيدي ؟ فما كان من عناصر الدورية إلا أن ضحكوا ولم يمسوه بأذى .
من منا لم يتعامل مع الحمصيين , في الجامعة أو المعمل , في الجيش, أو في الغربة ؟ بل مَن منا ليس لديه صديق حميم منهم ؟ كلنا عرفنا أهل هذه المدينة الجميلة عن قرب , ووجدنا فيهم الحُسن في الخلق والرقي في الطبع واللطافة في التعامل والمعروف أنهم لا يميلون إلى العنف في حل مشاكلهم وهذا ما نجده في سلمية مظاهراتهم رغم استفزازات عناصر الأمن , ولولا أن بلغ السيل الزبى وزادت جرعة الإهانة إلى حد لا يمكن تحمله لما رأينا سكان هذه المدينة المسالمين يسطرون أروع ملاحم البطولة بصدورهم العارية فعناصر القوة والشجاعة هي كامنة في ضمير كل الشعوب ولكنها تحتاج إلى شرارة لكي تظهر , وهل من شرارة أقوى من تلك التي قام بها النظام الأمني في سورية عندما قام بإهانة المواطنين بطرق وحشية ومهينة للغاية في بداية الثورة وعلى مدارها منذ تسعة أشهر؟
أرى شادي خارجاً من المستشفى يدندن بفمه فرحاً ودون قصد أقول له هيا يا شادي فيقول : اسمع , هل تتذكر عضو مجلس الشعب الذي قال للرئيس: سورية قليلة عليك فمثلك يجب أن يقود العالم كله ؟ أقول له نعم , فيقول : كان لديه كازية حرقها له الحماصنة وكتبوا على جدارها : كازية واحدة قليلة عليك فمثلك يجب أن يقود منظمة أوبك . ونفترق ضاحكين رغم الركام من الهموم والمآسي في نفوسنا .
نعم , هناك أمهات في حمص يوبخن أبناءهن إن هم تقاعسوا عن المظاهرات وهناك من يطلبن منهم الاستعجال في تناول الطعام أو الحمام كي لا يتأخروا عن رفاقهم المتظاهرين , بل وهنالك من يطلقن الزغاريد على من يستشهد من أبنائهن .
شادي زميل عمل حمصي وصديق عزيز كلما التقيه أسأله عن حال أم خالد جارته الحمصية التي كثيراً ما يحدثني عنها والأم لشهيد ولآخر معتقل ولآخر مفقود منذ بداية الأحداث يرد شادي بضحكته التي لا تفارقه : أم خالد مندسة حتى النخاع تحمل العصا في يدها وتمنع ما تبقى من أبنائها البالغين من الدخول إلى البيت مادامت هناك مظاهرة في الشارع . ويضيف ضاحكاً: من أبنائها من يتمارض أحياناً لتسمح له بأخذ قسط من الراحة .
كثيراً ما يغتم صدري ويكتئب قلبي وأنا أقلب صفحات النت أو أشاهد التلفاز لأرى شباباً في مقتبل العمر يسقطون قتلى بلا رحمة ولا شفقة وأبحث عمن يزيل الهم والكآبة عني فلا أجد وسيلة أنجع من الاجتماع بصديقي الحمصي فأجد عنده حاجتي ومبتغاي رغم أنه أولى بالهم والغم مني لأن البلاء الأكبر يدور على رؤوس أهله وأقربائه في حمص , أسأله اللقاء فيقول الباب مفتوح تعال , هو عفويي لا يحب المراسيم والإيتيكيت , بسيط لا يعقد الأمور , أراه فينسيني همومي بخفة دمه ودماثته رغم أن أهله يسكنون أكثر المناطق توتراً في حمص , أقول له هات ما لديك اليوم فيقول : اسمع , قُتِل شبيحٌ حمصيٌ وهناك في الآخرة تم فرزه إلى جهنم وبعد فترة اشتاق لأولاده وراح إلى مكتب البريد في جهنم ليتصل بعائلته وطالت مكالمته وعندما ذهب ليدفع ثمن المكالمة سأله الجابي : مع أية مدينة تكلمت ؟ فقال مع حمص . فرد عليه الجابي : من جهنم إلى جهنم مجاني . ونضحك .
ويستمر شادي بالحديث عند سؤاله عن أحوال أهل حمص فيقول : يخرجون , وفي آخر الشارع يرميهم الأمن بالرصاص الحي وتتطاير العيون وفتاة الأدمغة ويفرش الدم إسفلت الشارع دون أن تتثبط عزيمتهم أو تنهار قواهم أو تتوجس قلوبهم خيفة , يهربون , إلا أنهم سرعان ما يعودون مرة أخرى , يطلقون الشعارات , ويخرج عليهم الأمن والشبيحة مرة أخرى ويرشون عليهم زخات الرصاص الحي فيبتعدون , وفي آخر الشارع يجتمعون ويحصون أنفسهم ويحسبون عدد القتلى الذين سقطوا منهم ثم يبدؤون بقراءة الفاتحة على أوراحهم ويعيدون الكرة وكأن شيئاً لم يكن . وهكذا يعيدون المرة تلو الأخرى حتى يتعب رجال الأمن دون أن يعرف الكسل والملل منفذا إلى قلوب ثوار حمص .
أعود إلى البيت بعد جرعة المهدئ من شادي وأنام لاستيقظ باكرا وأذهب إلى العمل حيث شادي , نِعمَ الأنيس , وخير جليس , أدور في أجنحة المستشفى ويعنّ لي شادي من أحد الممرات أحييه وأسأل عن حاله وأهله وقبل أن أقول له هات , يقول شادي : اسمع , كانت دورية للأمن تقصف باب السباع وكان هناك رجل يعود بدراجته الهوائية من العمل إلى بيته في حي باب السباع , وكان لا بد من أن يمر من وسط عناصر الأمن , تردد الرجل قليلاً قبل الوصول إلى الدورية ولكنه غامر وقرر المتابعة وعندما كان قريباً جداً تفاجأ به رجال الدورية فأمر قائد الدورية أحد عناصره بقتله فوراً قائلاً بصوت مدو : رش هالحيوان يا عسكري . ولكن سائق الدراجة قال بصوت هادئ : ليش الشباب عم يشطفوا سيدي ؟ فما كان من عناصر الدورية إلا أن ضحكوا ولم يمسوه بأذى .
من منا لم يتعامل مع الحمصيين , في الجامعة أو المعمل , في الجيش, أو في الغربة ؟ بل مَن منا ليس لديه صديق حميم منهم ؟ كلنا عرفنا أهل هذه المدينة الجميلة عن قرب , ووجدنا فيهم الحُسن في الخلق والرقي في الطبع واللطافة في التعامل والمعروف أنهم لا يميلون إلى العنف في حل مشاكلهم وهذا ما نجده في سلمية مظاهراتهم رغم استفزازات عناصر الأمن , ولولا أن بلغ السيل الزبى وزادت جرعة الإهانة إلى حد لا يمكن تحمله لما رأينا سكان هذه المدينة المسالمين يسطرون أروع ملاحم البطولة بصدورهم العارية فعناصر القوة والشجاعة هي كامنة في ضمير كل الشعوب ولكنها تحتاج إلى شرارة لكي تظهر , وهل من شرارة أقوى من تلك التي قام بها النظام الأمني في سورية عندما قام بإهانة المواطنين بطرق وحشية ومهينة للغاية في بداية الثورة وعلى مدارها منذ تسعة أشهر؟
أرى شادي خارجاً من المستشفى يدندن بفمه فرحاً ودون قصد أقول له هيا يا شادي فيقول : اسمع , هل تتذكر عضو مجلس الشعب الذي قال للرئيس: سورية قليلة عليك فمثلك يجب أن يقود العالم كله ؟ أقول له نعم , فيقول : كان لديه كازية حرقها له الحماصنة وكتبوا على جدارها : كازية واحدة قليلة عليك فمثلك يجب أن يقود منظمة أوبك . ونفترق ضاحكين رغم الركام من الهموم والمآسي في نفوسنا .
أي تضحية تلك التي تقدمها حمص ! وأي فداء تفدي به ! وأي دماء تتكبدها ! وأي شباب تخسرها ! في سبيل حرية الوطن . لعمري إنها تستحق أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه , وتستأهل لأن تكون عاصمة الثورة والكرامة في العالم كله وليس في سورية وحدها .