في ذات الليلة ، كانت تبدو لي تلك الكاتبة هادئة ، تماماً عكس طبيعتي . شاكست الصمت قبل أن ينشر ملله في جسمي ، ويتسلق جدران الحديث . ليلة كاملة ، أو نصفها أخذت أجول في ماض مراقب وحاضر مسلوب ، مفتشاً في بقايا تاريخ يواجه الخوف . نعم .. حدث كل هذا حين قرع جرس الفراغ . . بدأ اليقين يتسلل إلى ذاكرتي ، أيقظ جميع أوقاتي ملوحاً لي إلى باب يمر عبرها أجوبة صادقة لمن يبتغي ..
أوركيش تكتب الخاطرة والمقالة ، وقد دونت عشرات القصص الفلكلورية الكردية ، ومنذ ربيع عمرها وهي معجبة بالأستاذ عبد الرحمن الراشد ، وسليم بركات غير متجاهلة الأقلام الجديدة . لا تحبذ ذاك الكاتب الذي يحول قلمه إلى قلم حزبي . وقتها تجد الكاتبة إن رحلة الإبداع عنده انتهت . وهي تجد الرؤية الاجتماعية في المرأة هي بمثابة مادة سلعية برسم البيع والشراء . . فالمرأة عند الكاتبة في تعريف مقتضب سرٌ من أسرار الكون التي لازال الرجل لا يعرف رعدها من برقها وإشراقتها التي تضيء الكون . الغيرة لا تجد مكاناً في نفس الكاتبة فهي تشجع كل من تجد في نفسها الموهبة أن لا تبخل بعطائها على مجتمعها . المرأة الكردية في نظر أوركيش مقموعة بشكل فظيع جداً أكثر من زمن ( الحرملك والسلملك ) لهذا وخوفاً على سلطته – وقائياً – يعتبر الرجل الشرقي المرأة غير قادرة لأن تكون (منتجة سياسية واقتصادية واجتماعية ) الخ . ليست من أولوياتها طباعة مجموعة شعرية أو قصصية أو روائية باسم أوركيش .
كل هذا كان في سياق حديثها المتواتر فتعرفت على رأسمال الكاتبة قليلاً . سعيت أن أحول الحديث إلى أسئلة ! فأجوبتها كانت كفيلة أن تكشف في الكاتبة مجموعة معايير لم تتحدث في الكل . ربما خبأتها ذخيرة تستخدمها في وقت ،غير هذا الحوار .
س 1- منذ عامين دخلت عالم الكتابة من أوسع أبوابه…هل تعتبرين هذا الدخول متأخراً ؟
الكتابة لا تعرف الوقت والزمان , وهو كالبركان ينفجر في أية لحظة أو ساعة, وبالطبع يلعب التراكم الثقافي دوره الكبير في هذا الانفجار لدى أي كاتب, وهو ليس وليد اللحظة, و منذ نعومة أظفاري أحببت المطالعة بشكل خاص وأنا قارئة من الطراز الأول, وكان لدي ميل شديد للأدب, أكتب الخاطرة والقليل جداّ من الشعر, وأكتب المقالة, وقد دونت عشرات القصص الفلكلورية الكردية, ودرسنا في بواكير سنوات حياتنا قواعد اللغة الكردية, ونشرت البعض منه في مجلة )آسو) ولكنني أعتبره متأخراً لعدم توفر الظرف المناسب.
س 2- جمعت مجموعة ضخمة من القراء, فإن دل هذا دلّ على امتلاكك قدرة جيدة في الكتابة… بمن تأثرت في طريقة كتابتك أو لك رد آخر ؟
هذا شيء يسعدني حقاً أن أجد كماً من القراء, وهذا إن دل فإنه يدل على إقبال الشعب الكردي على القراءة في زمن الفقر, وعدم استطاعتنا شراء الكتب الباهظة الثمن, وفي زمن انتشار الفضائيات التي تجذب القارئ والمشاهد أكثر من القراءة, فالقراءة تتطلب جهداً من التركيز على بناء الجمل وإسقاطاتها وتحليل مدلولاتها, أما الرائي فتتلقفه بكل سهولة في أي مكان في المنزل أو غيره, أما بمن تأثرت فأنا أجد أن لكل كاتب بصمته الخاصة به كالبصمة الوراثية تماماً, ولكن هذا لا يمنع أنني معجبة بكتابات الأستاذ عبد الرحمن الراشد, أنيس منصور, سمير عطا لله, جهاد الخازن, نوال السعداوي, وسليم بركات والبعض من كتابنا وكاتباتنا الأكراد المتميزين فعلاً, ولكنني لا أتجاهل الأقلام الجديدة أيضاً.
س 3- تكاد تكون إسقاطات الحركة السياسية تلقي بظلالها على التجمع الثقافي ؟ هذا ما كان مكشوفاً في مقالتك ” جولات المثقفين” ؟
هذا صحيح فالثقافة الحزبية طاغية على الساحة الأدبية بشكل ملفت جداً بالرغم من وجود عدد قليل من الكتاب المستقلين, وهذا يعود لعدم وجود اتحاد كتاب لدينا ليجمع الجميع تحت مظلة واحدة, ومع الأسف بدا لنا أن البعض منهم يتصرف بمنطلق الحزبية الصرفة دون ترشيح الأفضل, وفي نظري طالما أصبح الكاتب قلم حزبي انتهت رحلة الإبداع عنده, لأن الكتابة مشروع حر لا يتقيد بالشروط الحزبية والمنهج الحزبي.
س 4- التجمعات النسوية عادة تعرفنا عليها من خلال جمعيات تهتم بالشأن النسوي ماذا لو استطعتم أن تجمعوا أنفسكم كمثقفين نساء دون الابتعاد عن الشأن العام ؟
في الحقيقة المرأة الكردية مقموعة بشكل فظيع جداً أكثر من زمن ( الحرملك والسلملك ) والمرأة تساهم أيضاً مع الرجل في وصد هذه القيود أكثر من ذي قبل, ولا زالت المرأة برسم البيع والشراء بسبب المهور الغالية, ولا تسعى لتحرير نفسها من القيود الاجتماعية الخاطئة والبالية, ولازالت المرأة بحاجة لأن تنتزع حقوقها أكثر وتكون نداً للرجل في عموم مجالات الحياة سياسياً واجتماعياً, وثقافياً ولن تستطيع المرأة التقدم طالما الرجل هو من يرسم لها طريقها, والتجمع النسوي المثقف حلم بالنسبة لي, وللأسف الشديد من خرجن مؤخراً باتحادات للنساء الكرديات لحد الآن لم نسمع أصواتهن أو لم نجد نشاطاً اجتماعياً مثمراً لحد الآن بالرغم من التهويل الكبير الذي لم يأخذ صداه.
س 5- الكتابة مشروع ُحر له أبوابٌ عديدة… متى ستفكر أوركيش بكتابة رواية ؟
ليس مهماً لدي أن تطبع مجموعة شعرية أو قصصية أو روائية باسم أوركيش ولكن المهم ماذا أبدعت أوركيش في الكتابة و أين تمضي فيه, ومدى فاعلية هذه الكتابة وتأثيرها في المجتمع, وما هي الرسالة التي يجب أن توصلها, أعتقد أن هذا المشروع سيتأجل لأجل غير مسمى.
س 6- الحراك الثقافي المرأوي يكاد يكون سلحفاتي, فلا يشهد لها أي تحرك في الشأن الاقتصادي بالمطلق والسياسي مهمّش والثقافي محبط ؟
صحيح لأن المرأة الكردية لا تجد في نفسها الجرأة لأن تخوض غمار هذه المسالك باستثناء بعض النساء اللواتي غامرن واتهمن بـ ( اللا أخلاقية ) كونهن سياسيات وعلى المجمل تتصف المرأة العاملة بنفس الأوصاف, ولأن الرجل الشرقي نفسه لا يريد لهذا الأمر أن يحدث, و تصبح المرأة منتجة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لأنه خائف على سلطته, وبرجه العاجي من الانهيار.
س 7- الكاتبة أوركيش لا تنطلق إلاّ وهي متسلحة بالأخلاق والمبادئ الكردية المتأصلة مع إيمانها بعصر السرعة المذهل كيف تستطيعين التوفيق ؟
إن السرعة في العمل شيء منتج فعلاً, ولكن السرعة لا يعني التسرع في إطلاق أحكام خاطئة على الآخر بمجرد النظر إلى صورة جامدة, ولا يعني التخلي عن المبادئ والأخلاق التي تربينا عليها, وبكوني أم والأمومة تأخذ الحيز الأكبر من وقتي أسرق لحظات نوم طفلتي كي أكتب ولكن المثل يقول أن تصل متأخراً خيرُ من أن لا تصل أبداً.
س 8- المرأة الكردية سرُّ طويل الأمد, أتستطيع الكاتبة أن تكشف لنا بضعة أسرار من تاريخ المرأة الكردية الناصع ؟
بالطبع المرأة سرٌ من أسرار الكون التي لازال الرجل لا يعرف رعدها من برقها واشراقتها التي تضيء الكون, كالملكة نفرتيتي الحورية الأصل التي انتقلت معها عبادة إله الشمس من جبال كردستان إلى ضفاف النيل الفرعوني, أو الحدائق المعلقة التي بناها نبوخذ نصر لزوجته الأميرة الكردية ( سميراميس) التي كانت تحن لموطن آبائها وأجدادها في الجبال الكردية ليقرب لها المسافة بنى لها إحدى عجائب الدنيا السبع( حدائق بابل المعلقة) , و برزت في التاريخ الكردي نساء تمتعن بالاستقلالية الكاملة في الحكم وإدارة البلاد مثل ( خنسة داوود باشا) زوجة ( إبراهيم باشا المللي) , وقد نالت رتبة الباشاوية من السلطان( عبد الحميد) , (عادلة خاتون) التي حكمت حلبجة وعشيرة الجاف في كردستان العراق, وبرزت عشرات النساء التي قضين عمرهن في النضال من أجل حقوقهن وامسكن اليراع في سبيل الأدب والثقافة الكردية, مثل المؤرخة والشاعرة الكردية (مستورة خان الأردلانية) التي احتفلت الأوساط الأدبية في كردستان العراق بمناسبة مرور200 سنة على ولادتها, والرائعة) روشن بدرخان) والمناضلة ( ليلى زانا) , إلا أن المجتمع الكردي لا يزال يعيش في مرحلة المجتمع الذكوري حيث لا دور للمرأة بشكل كامل وفعال إلى جانب الرجل الذي تقع عليه المسؤوليات الكاملة في تطويرها، ولا تزال تعاني إلى يومنا هذا من سلطة الأوصياء المتسلطين ومن المعروف الحرية تنتزع ولا تعطى .
س9 – تحت سقف الكاتب سيامند إبراهيم تعيشين ولست بعيدة عن محنه ما هي تقاطعاتكم اليومية؟
الكاتب الكردي يواجه مصاعب عديدة من سياسة التهميش والفقر وكما يقولون ( إنها مهنة الفقر) ، وانعدام الحريات لكي يكتب ويبدع, ويعيش بكرامة, و سيامند صمد وواجه المصائب والمحن والسجن, وكافح من أجل اللغة الكردية و بنى نفسه بنفسه في زمن غاب فيه الكثيرون , نعم وهو الذي أعطاني الدافع الأكبر للكتابة, و يحثني على قراءة المزيد من الصحف والكتب, وهو من شجعني على الكتابة لثقته بموهبتي, وبتشجيع بعض الأصدقاء في الساحة الأدبية أيضاً, نحن نقرأ كثيراً نناقش ما نقرأه, نتصفح الإنترنت سوياً, وأهتم بطفلتي ولها الحيز الأكبر من وقتي طبعاً, ونتزاحم للجلوس على الكومبيوتر بسبب وقتي الضيق, ونعيش كبقية الناس في هذا المجتمع بأفراحه القليلة وأتراحه الكثيرة.
س 10- المرأة بركان كامل للغيرة من تريد أن تنافس أوركيش ؟
بلا شك ولكنني أجد الساحة الثقافية واسعة جداً ومجال المنافسة ضئيل جداً لأن الأقلام النسوية قليلة جداً, ومن هذا الموقع أنا أشجع كل من تجد في نفسها الموهبة أن لا تبخل بعطائها على مجتمعها, وأن تكون جريئة تثبت فيه قلمها إلى جانب الرجال, والجدير من يثبت ذاته كان رجلاً أم امرأة .
س 11- المشروع الكردي الكتابي يبدو قليلاً لدى الكاتبة, ألا تجد كاتبتنا شخصها المتكامل داخل لغة مازالت جنينية للكتابة ؟
نعم وربما سيظل جنينياً إلى أن تشاء السلطة الحاكمة, لأننا تربينا وترعرعنا على موسيقية لغة أخرى بعيداً عن لغتنا الأم وأعزي ذلك لانعدام المدارس باللغة الكردية, وشحة الكتب باللغة الكردية ومنعها من التداول إن وجدت, والذي تعلمناه كان بمجهود بعض الغيارى على اللغة الكردية ومجهودنا الشخصي, والحمد لله أننا نعرف القراءة والكتابة بلغتنا الأم بالرغم من هذه الظروف القاسية التي لازلنا نمر بها.
س 12- للحب مفرزات خاصة تتعلق مباشرة بالذات ؟ فأي عنوان مهم تختارها الكاتبة في الحب , وكيف تترجمها كتابياً وميدانياً ؟
ربما الكلمة تبدو صغيرة ولكن المعاني التي تنشأ منها كبيرة جداً, فالشاعر لا يستطيع أن يكتب الشعر إن لم يحب القصيدة, والبلبل لا يشدو إن لم يحب اللحن, والوردة إن لم تسقها فلن تعطيك عبيرها, والكتابة بالذات حالة إبداعية إن لم تحبها وتحبك لن تستطيع أن تبدع فيها, وأي عمل إن لم يغلب طابع الحب عليه فلن يكون هناك إبداع, فكل شيء في حياتنا ممزوج بالحب, وحب الوطن, وعائلتي وطفلتي ( آيندة ) هم أسمى وأجمل حب لدي .
س13- كلمة أخيرة ماذا تقول أوركيش لقرائها ؟
أقول يجب أن نكون عوداً مستقيماً ليكون ظلنا مستقيماً ونورث لأولادنا حياة ملئها الحب والاحترام ( احترام الذات واحترام الرأي الآخر), وأن نبتعد عن منطق (المريد ) أو التابع لنحقق ذاتنا بعيداً عن التشنج العنصري لفئة دون أخرى وليكن صدرنا رحباً لبعضنا البعض لتنقية النفوس وتطهيرها من الأحقاد, وهذه رسالة موجهة لأحزابنا الكردية للتكاتف والتلاحم وغض البصر عن أي شيء لأن الهدف الرئيسي واحد, وفي ختام هذه المحاورة أود أن أعبر عن امتناني وشكري لجهدك ومحاوراتك الذكية والنبيلة لتوضيح صورة المرأة الكردية أمام الرأي العام الكردي والعربي وإعطائها حقها الشرعي في القيام بدورها التاريخي لتكون مع الرجل عوناً له وليس منافساً يزاحمه , وأكرر شكري وامتناني .