شجرتي النارنجية في قامشلو ( 1-2)

 

سيامند إبراهيم*
في صومعتي القامشلاوية أنهض باكراً أذهب إلى شجرة النارنج المزروعة في قلب منزلي هذه, ربما تتساءل هل هذا معقول شجرة نارنج في القامشلي, نعم هذه الشجرة تذكرني بكتاب دمشقيون كبار عشقوها كنزار قباني, والأديب الدمشقي بديع حقي الذي كتب أجمل كتابته الإبداعية بعنوان (شجرة النارنج) وفيها يسوح في جولة تاريخية في فضاءات جلق الفيحاء, وهو الذي ترجم إبداعات الشاعر الهندي الكبير طاغور إلى اللغة العربية,
ومن دمشق نطير إلى بساتين بايزيد ونحط الرحال في حضرة شيخنا ومعلمنا مبادىء القومية الكردية (أحمدي خاني) والذي سقانا من خمرياته المعتقة أجمل الكؤوس من جميع المشروبات التي خرجت من دنه المعتق, فقد ذكر في ملحمته الرائعة (مم وزين) الكثير من الأطعمة والكثير من أنواع الأشربة, (نارنج, ليمو…) تخرج من صومعتك تتبارك بالطين الذي لا يبارح قيد أنملة من حياة أي قامشلاوي,
ويسير الطين كظلك يمتطي ألبستك, يدخل مسامات كل جزء من نسغ هذه المدينة, ولا تفاجأ بقطع من الإسفلت المتشح ببقايا رمل تتكاثر على امتداد الرؤية, يرتفع أحياناً مع كل هبة من ريح تهب في شكل حلزوني ولا تدع أي من المارة إلا ولفح وجوههم بعض هذه الذرات الخليطة الممزوجة بلا اكتراث فتنزاح الوجوه مكشرة لثوان وتستمر حركة الشارع, هو لم يستطع في البداية أن يستأنس مع ساكني هذا المكان, ومهما حدثت هذه الممحاكات فقد ظل القلق تأخذ مسارها في نفس  عيون الجوار الجوار المهمشين في كل شيء إلاً بالحب على طريقتم الخاصة, لكن كل هذا لا يهم بالنسبة لهذا الدمشقي القامشلاوي, وأعود إلى نارنجتي الأثيرية وأقترب من قامتها وفي لحظات تهب نسمة عطرها الرائع, ثم أسير في دهليز مستطيل مترامي الأطراف نبتت على خاصرتيها عشب متنوع الأشكال والأنواع, كأنك في حقل ممسوس تسير بحذر وتنتقل بين كل هذه الأصناف لتدخل إلى المطبخ فتحضر قهوتك اللبنانية اللذيذة, وهنا أتذكر قصيدة لا تغرب عن ذهني للشاعر العراقي الذي عاش في المنفى وتوفي في المنفى فيقول: “
 لاغريب سواي
ولا قبر سوى قبرك..
أرى قوتي تتيبس فوق العشب
تبلل المطر وترمي في سلة المهملات,
أليس البيت قبراً,
هو بالنسبة لي قريب جداً من قلب وإحساس هذا الشاعر الذي مات في الغربة بعيداً عن وطنه, أشرب قهوتي أتأمل ذلك العصفور الذي استيقظ قبلي ولثم بعشق براعم هذه الشجرة الأثيرية, لا أعرف لماذا تصر هي على شحن نفسي بالمزيد والمزيد من العشق لهذه البقعة المباركة, وتبعدني عن هذه القصيدة, والمفردات التي تتعجل في ولوج مملكة روحي, قلبي, منزلي في قامشلو, لا تبتئس في غربتك, و تسير الهوينا فقد ماس النفاق أصبح وشماً غجرياً أزرقاً يدخل تلافيف قلوب المخادعين من الأصدقاء, لا أعرف كيف سموها. (Bajare Evine)
(مدينة العشق), منذ غادر توأم روحي وصديقي الفنان محمد شيخو إلى خلوده السرمدي, مذ بدأ العد العكسي لإبتلاع ملاك الموت لأصدقائي وهو كالحوت الأطلسي يتناولهم واحداً فواحداً وهو يقهقه, ويقول المزيد من اليفاعات, منذ موت آخر قصيدة كتبتها على شيخي المبارك معشوق الخزنوي, وصورته الأنقى من ثلج حرمون, ولحيته الأطهر ما في الكون, حبيبة العمر وسلواي التي لا تبارح حياتي في مملكي الصغيرة, لقد عصرت روحي وأنا أبحث في قاموس العشاق عن أجمل القصائد لأرسلها مع نسمة الصباح التي تهب على قلبي وعلى شجرتي النارنجية, هي نائمة على وسائد قلبي, تسكن في أضلاعي ولا تبارحها, لا شيء في هذه المدينة إلا هدير السيارة السوداء والتراب وجهات الروح المسربلة في ثياب الضياع, هو القهر ضيفي الثقيل السرمدي.

———————————

 

رئيس تحرير مجلة آسو الثقافية الكردية الممنوعة في سورية.
عضو نقابة الصحافيين في كردستان العراق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…

حاوره: ابراهيم اليوسف

تعرّفتُ على يوسف جلبي أولًا من خلال صدى بعيد لأغنيته التي كانت تتردد. من خلال ظلال المأساة التي ظلّ كثيرون يتحاشون ذكرها، إذ طالما اكتنفها تضليلٌ كثيف نسجه رجالات وأعوان المكتب الثاني الذي كان يقوده المجرم حكمت ميني تحت إشراف معلمه المجرم المعلم عبدالحميد السراج حتى بدا الحديث عنها ضرباً من المجازفة. ومع…

مروى بريم

تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.

أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.

مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا…