التنوير كرديّاً عبر رواية (المتنوّر) لـ لالش قاسو / ترجمة: الباحث إبراهيم محمود

هيثم حسين

“المتنوّر”.. رواية للروائيّ الكرديّ لالش قاسو، ترجمها حديثاً إلى العربيّة الباحث الكرديّ إبراهيم محمود، وصدرت عن دار الينابيع، مع كتابين آخرين له، هما: الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا، و: محاكاة الصوت، والأخير عبارة عن دراسة نقديّة لرواية “صرخة دجلة” للروائيّ الكرديّ محمّد أوزون.. وهذه ظاهرة فريدة في الوسط الثقافيّ الكرديّ، وهي دليل جهدٍ وبحث دقيقين دؤوبين، وبخاصّة عندما يقف المرء عند المستوى الفكريّ واللغويّ للكتب الصادرة، وبُعدها المعرفيّ القيّم، ومدى جِدّة البحث فيها،..
سأقتصر في قراءتي هذه على رواية “المتنوّر”، التي هي الرابعة التي تترجم إلى العربيّة للكاتب لالش قاسو، بعد ثلاثيّته “أيّام حسّو الثلاثة، نقمة الحرّيّة، الخراب”، حيث ترجم الأستاذ إبراهيم محمود الجزء الأوّل والثالث منها، وترجم الجزء الثاني الأستاذ فواز عبدي.. 
رواية “المتنوّر”، المتنوّر الذي هو العنوان الرئيسيّ المكتوب على الغلاف الخارجيّ للكتاب، وفي الصفحة الداخليّة الأولى يأتي العنوان مكتوباً “المتنوّر الفارقينيّ”، أيّ تخصّص المتنوّر مكانيّاًً بقرية “فارقين” التي تقع في شمال كردستان، داخل الصفحات يتخصّص، وخارجها، على الغلاف، يبدو المتنوّر عامّاً، هو صفة ستبقى ملازمة للموصوف على مدار صفحات الرواية التي تبلغ (134) من القطع الوسط..
العنوان يحيلنا مباشرة إلى ضدّه، المتخلِّف، أو الجاهل، وهو نداء للقضاء على هذا الضدّ المستفحل، وتكون الثنائيّات متواجدة، النور والجهل، الخير والشرّ.. ويرد المتنوّر الشخص المطلَق عليه، وهو كريم، كما كُتب اسمه بشكلٍ رسميّ، وهذا ال: كريم، مدلَّع من زوجته تدليعاً تصغيريّاً إلى كريمو..
والرواية كما كتب عنها على الغلاف الخارجيّ للكتاب، “هي من سيرة رجل كرديّ متنوّر، تزوّج من امرأة أمّيّة بدجاجتين روميّتين وعلبة شعير في فارقين، لتتحكّم به في السويد، حين لجوئهما إليها، لتقرّر مصيره المفجع هناك”. كأنّه لا يكفي المتنوّر الفارقينيّ، الذي هو نموذج واختصار الكرديّ عامّة، أن يفجع بالنفي واللجوء كمصير مرحليّ، لتفجعه المرأة التي كان يفترض بها أن تكون له السند الحقيقيّ لمواجهة المصير معاً، لا أن تحدّد هي له مصيره على رغبتها، بعد أن تسلّحت ببعض الأحرف التي بدأت تطاوعها بأن تنفكّ معها، بعد أن كانت تستعصي عليها الكلمة، سابقاً..
مارس المكان طقسه في تغيير النفسيّات، فمن كانت في القرية لا تفقه إلاّ في أمورها البيتيّة، تصبح داعيةَ حقوق المرأة، وتبدأ بالتطاول على زوجها الذي هو المتنوّر، سليلُ المآسي، بطلُ المأساة المعاشة في أوربا، من فارقين إلى السويد، وهو ينسكن بالأعداء، هؤلاء الذين يأبون مفارقته، هم ظلّه، لا لحمايته، بل للمبالغة في النيل منه.. تبرز ممارسة الطبيعة فعلها، على عكس مضمون البيت الشعريّ المعروف لعليّ بن الجهم حين جاء من الصحراء إلى الخليفة مادحاً: أنت كالكلب في الوفاء/ وكالتيس في قراع الخطوب، ليثور عليه مجلس الخليفة إذ ظُنّ بأنّه يسبّ الخليفة، لكنّه كان يتكلّم من واقعه الذي جاء منه، ووفق قيمه، ثمّ يوضع بأمر من الخليفة في رياضٍ جميلة، ويأتي به بعد أشهر ليطلب منه المدح ثانية، فينشد: عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.. فالطبيعة تلك أثّرت في نفسيّته ومنحته الرقّة والحبّ بدلاً عن القساوة والجلافة، أمّا الفارقينيّة: سالمة، فإنّ الطبيعة والمكان قد تفعّلا داخلها سلبيّاً، فانتقلت من البساطة والطيبة إلى القساوة والتحكّم والتعالي.. والجنون، بمعنىً من المعاني..
ما هو التنوير؟
هو السؤال المكتوب في الصفحة (133) من الرواية، أي في النهاية، التي هي بداية لقراءة الرواية، وتعريفه كما يراه الكاتب:”هو كلّ ما يستبعد من القوى العقليّة، ولا يفسح مجالاً للعقلانيّة، والتقدّم الجماعيّ والعلميّ، ويبصر المستقبل، ويربط متعة الحياة والعيش بارتقاء عقلانيّة الأفراد والجماعة، ويقف حرباً غير مهادنة إزاء الظلم والاستبداد!”.
وبعد تعريفه، القريب من المدرسيّ، يبدأ بتعداد واجبات المتنوّر المجتمعيّة، كمثقّف غرامشيّ، لا بدّ له أن يتقن دوره في مجتمعه، وألاّ يقف مكتوف اليدين إزاء ما يتعرّض له شعبه، يصف المتنوّرين بأنهّم كانوا دائماً أمراء الزمان، عقرب التاريخ، وأنّهم هم من حقّقوا التطوّر، لا القادة والملوك من أمثال: الإسكندر، نيرون، نابليون، هتلر..
ويذكر نماذج تاريخيّة من المتنوّرين الذين كانوا ضحايا في مجتمعهم، وفي سبيله، على الرغم أنّ تضحياتهم لم تكن تقدَّر حقَّ قدرها، حينذاك، ولكن اسمهم بقي متخلّداً في التاريخ، كأبطال لم ينالوا ما يستحقّونه من تقدير وإجلال..
ثمّ يورد الكاتب أمثلة المتنوّرين الذين قاوموا الظلم وتحدّوه، يقارن بين التنوير كونيّاً وتاريخيّاً، وبين التنوير كرديّاً، إن جاز التقسيم، وهو التقسيم الذي اعتمده الكاتب، إذ بعد أن يذكر بطولات المتنوّرين يقارن بينها وبين تصرّفات المتنوّرين الكرد، أو من يفترض بأنّهم هم المتنوّرون، ومن ذلك:
المتنوّر الكبير هيباتا، قبل الميلاد بأربعة قرون، والذي وقف في وجه الآلهة وصُفّي من قبل الطغاة بطريقة همجيّة.. وجون هوس 1415 و براكلي جيروم 1416 وفان ريسويك 1512، أحرقوا من قبل رجالات الكنيسة على عملهم التنويريّ.. وغيرهم من المتنوّرين الذين ضحّوا، إيماناً بمبادئهم، في سبيل مجتمعاتهم، على مدار التاريخ..
أمّا التنوير المقارَن، فيكون المتنوّر الكرديّ، كما يصفه الروائيّ، ندّاً للآلهة على شعبه، إذ يؤدّي الخدمة العسكريّة للآلهة الذين يتوجّب الوقوف في وجههم، ويشارك مستعبديه مَعْسَ رؤوس أطفال الكرد، في تطوافهم كردستان بلباسهم الميدانيّ الكامل مؤتمرين بأوامر العساكر، ولا ينسى أن يقلّل من شأن ابن خلدون، وتقليل الشأن ليس من جانب علمه الذي هو علَم فيه، بل من جانب سلوكيّاته التي تطيح بأحسن العلوم وأشرفها، إذ يذكّر بموقفه المعيب في ركوعه أمام قدمي تيمورلنك، ليكون مثال المثقّف الانتهازيّ المتاجر، مؤثر السلامة، مؤاخي الصمت، (إنّه يلتقي هنا مع نظرة الروائيّ عبد الرحمن منيف في دراسة قيّمة عن ابن خلدون في كتابه: مقالات في الفكر والسياسة)، وكي لا يصبح هو المثال المحتَذى، لأنّ كلّ علم يفقد كرامته، لطالما حامله قد فقد كرامته.. والتنوُّر متجرّداً عن متجسّده هباء، وقتل المتجسِّد، الذي هو المؤلّف عند بارت، كرديّاً على الأقلّ غير جائز، ليختم الكاتب رسالته ببيانه الختاميّ عن مفهوم التنوير، حين يغدو إثبات الجنون هدفاً للمتنوّرين للعيش بسلام في ظلّ الناهبين المستعبدين وطنهم المقسَّم أوطاناً، بالتعس للتنوير الضالّ السبيل.. قائلاً: تعساً لكم، ولتنويركم، وكفى!
لم يترك أيّ فسحة للأمل، يُسقط كلّ العتمة على الآتي، ليكون العنوان معاكساً مضمونه، ويتحوّل إلى ضدّه المراد تجاوزه وتبديده.
كأنّي به يختصر على قارئه الطريق للتعرّف على التنوير كمفهوم، وعلى المتنوّرين كممارسين للمفهوم هذا، بعد التعريف الذي يفرضه الكاتب، ويسرد أعلاماً تنويريّين، يحتفي ببطولاتهم المقدَّمة، يتأسّف للتنوير المعمول به كرديّاً، الممارَس كردستانيّاً، فالمعاناة المركّبة، من عدوّين لدودين: العدوّ، والنساء المتحالفات معه، من ناحية جهلهنّ بوظائفهنّ، وذلك حين يأخذن من الغرب البهارج، ويتمسّكن من القانون، بما سيضمن لهنّ إركاع رجالهنّ، كأنّه ردّ الحيف التاريخيّ بأضعاف ما لحق بهنّ على أيادي الرجال..
المتنوّر يكتب رسالة- بياناً، يضمنها توصياته، ورؤاه، وباعتقادي أنّ الكاتب قد منح قرّاءه كلّ شيفراته الروائيّة، واكتفى بأنّ هذه الرسالة ستفي بالمطلوب، وهي حلوله المقترحة لمواجهة الكوارث المتلاحقة، والضامن الوحيد للتنوير الحقيقيّ الذي يليق باسمه..
الكاتب، يركّز على الجوانب السلبيّة، في حياة وممارسات المهاجرين الكرد في أوربا عامّة، يخصّص في السويد، التي هي مسرح أحداث الرواية، وقد يخطر للقارئ اعتقاد، أنّ الكاتب متحامل على هؤلاء الناس، وأنّه يتعامى عن كلّ المحاسن، مكتفياً بذكر السلبيّات في أكثر من جانب، بخاصّة عند الانتقال إلى رحابة المكان بمحدوديّة الأفق، هذا ليس تغييباً للخير، إنّما تغذية الرغبة في التنقيب عنه، ولا ينسى الكاتب أن يسكن بطله- متنوّره المتماهَى معه، بروحٍ برّيّة، ذلك من خلال عدم استقراره في أيّ عملٍ يؤمَّن له، من حارق للجذوع، إلى مُتَدكتِرٍ مميّز في تخفيف الأوزان، إلى الخياطة، إلى عامل في المراحيض، ومن بعدها إلى راعٍ للحمير، كذلك العمل في خدمة العجائز، ثمّ العمل في المطعم، ثمّ السياقة، ثم ليكون الحلّ في الاستجنان.. كما يقال له ويعمَل به، يرافق الانتقال من عمل إلى آخر وتغييره بالتالي، اختلاقه المعاذير التي تدفعه إلى ذلك، ليعيش على السوسيال، الدعم الماليّ، وتتداخل القصص الجانبيّة لتدعم فكرته الرئيسة، والمشكلة تستجرّ أختها، في سبّحة مشاكل لا تنقطع، فمنها مثلاً عمله في رعي حديقة الحيوان، تهرب منه الأتان الشرسة إلى وسط المدينة، وعندما يساعده أحدهم في جلبها، تصدم طفلين، ليقوم بإسعافهما، أو عندما يعمل في المطعم، ويتحدّث للعمّال عن قضيّته، القضيّة الكرديّة، التي وصل من أجلها إلى ما وصل إليه، ليكون التهاؤه بالحديث وإلهاؤه العمّال سبباً في احتراق الفرن، وليطرد إثر ذلك من هناك..
في سياق الحديث عن الحمّى التي تجتاح الكرد في مناطقهم، رغبة في الهجرة إلى فردوس أوربا المأمول، يعرّي الكاتب الكثير من الحالات التي تحصل، لا يتحايل على قارئه، إذ يقدّم الحقيقة، من وجهة نظره، دون أن يقف مجمّلاً، وهذا لا يعني بأنّ أوربا هي الشرّ بإطلاقٍ تعميميّ، لكنّها شرّ على الجهّال، وهذا أيضاً بدوره منعكس على الجاهل، لأنّه أينما كان، فإنّه شرّ في شرٍّ، وأوربا رغم حضارتها وتطوّرها، فإنّ اللاجئ إليها، كما هو بادٍ في الرواية، يأخذ منها الصَغار ويدمن الأغلاط..
بالمقابل، على صعيد المهاجرين واللاجئين والمنفيّين الكرد، فإنّ حمّىً أشدّ وطأة ونخراً تلازمهم، ألا وهي البحث عن الكراسي التي تفقد الباحث عنها كلّ احترام أو تقدير لذاته، قبل القضيّة التي يدّعي أنّه يناضل في سبيلها، فكم تؤثَم القضيّة بأمثال هؤلاء، وهم كثر على مدار الزمان، وفي اختلاف الأمكنة..
المتنوّر الفارقينيّ، يبقى العاقل بين المجانين، وحده صديقه بادو يفهمه ويقدّره، وهو من وجهة نظر مضادّة، المجنون في نظر العاقلين، نهر الجنون يجتاح الجميع إلاّه وبادو، ليكونا الملك والوزير (مسرحيّة نهر الجنون لتوفيق الحكيم)، العاقلين اللذين يبتليان بعقلهما وسط مجانين يعيّرونهما بجنونهما البادي لهم، ويقولون بأنّ المجنون لا يعرف أنّه مجنون، وكما يقول المثل الشعبيّ: “إذا جنّ قومك فإنّ عقلك لا يفيدك”.. يركَّز على مسايرة الموجة، لئلاّ يكون المرء الضحيّة، لكنّ المتنوّر لا يساير المجانين، يؤثر أن يكون الضحيّة بعقله، على أن يكون المجنون المستجنّ بإرادته ووعيه، فهو الذي ناضل في تعزيز سلطة وسطوة العقل وتحكيمه، كيف يُفقد نفسه العقل الذي يزيّنه، وينير له دروبه المعتمة..؟ كيف ينقلب على دعواته السابقة وتاريخه النضاليّ حيث كان سجيناً سابقاً في أسوأ السجون التركيّة، وهو سجن ديار بكر السيّئ الصيت..؟!!
صورة المرأة في “المتنوّر” / كما يراها المتنوّر:
إن كان من المتعارَف عليه شعبيّاً، ومثاليّاً، أنّ المرأة نصف المجتمع، بضلالها يضلّ، وبصلاحها يصلح، فإنّ الكاتب يمنحها دوراً كاملاً في مجتمعه الروائيّ، فهي بعملها وممارستها تعلي من شأن الرجل، وهي التي تحقّره.
يبدأ الكاتب لعبة المفارقات، حيث كانت النسوة في بلاده، أدواتٍ في أيدي رجالهنّ، عدوّاتٍ لهنّ،(ص12) ويستشهد بفولتير: إنّ العداوة تجرّد الإنسان من الأخلاق، وهكذا كان الرجال مجرّدين من الأخلاق في تعاملهم مع نسائهم، تعاملَ العدوّ مع عدوّه.. أو حسب المثل الكرديّ: ( dijminayî bê minete )، أو كما يقال: في الحبّ والحرب كلّ شيء عدل، وهنا ليس حبّاً وليس حرباً، إنّه واقع كرديّ لا يزال يعاش في أكثر من مكان، فالمرأة ليست عدوّاً لتعامَل معاملته، وليست حبيبة، لتعامَل معاملة الحبيبة، إنّها، رغم الادّعاء القائل بتحريرها وتحرّرها، لا يحقّ لها حتّى حقوق الأمَة في أكثر من مكانٍ.. وهذا ما يخجل المرء من ذكره..
يسرد المتنوّر قصّةً للخلق، هي من وحي توقّد نيران قلبه، واستعار حقده على النساء اللواتي أذبلنه، نتّفق معه أو نختلف، هذا أمر آخر، لكنّ قصّته قد تكون مقنعة للبعض الذي قد يوافقه، على الأقلّ في سياقها الذي وردت فيه، ملخّصها أنّ الله خلق حوّاء أولاً، أغوته حواء وأثّرت فيه بطريقتها، ثمّ خلق آدم ليتخلّص منها، فأغوته كذلك، وبرزا مقابلاً له، فخلق الشيطان ليدقّ إسفيناً بينهما، فخدعته أيضاً، فصار هناك ثلاثة وأغاروا عليه، فعاقب الله الناس بأن دفع بهم إلى الاقتتال، وبالتالي انتفت العدالة. (ص16).. والروائيّ هنا يتلاقى مع الباحث إبراهيم محمود في تحليله واجتهاده في مفهوم الخلق، في جانبٍ منه، سبْق حواء في الخلق على آدم، (انظر إلى ذلك بدقّة في كتابه “الشبق المحرَّم” الصادر عن دار ريّاض الريّس)..
إنهّا قصّة روائيّة، وهي مناقضة للمفهوم الدينيّ – إسلاميّاً-، وبخاصّة إذا علمنا بأنّ الكاتب يقول في بداية المقطع الفصل العاشر قوله: “ليكن ما يكون الدين، إنّه الخصم الأكبر للإنسان”. (ص79)، لكنّ الروائيّ لا يحاسَب على عدم رضوخه لقصّة الخلق الدارجة دينيّاً، لأنّه في روايته خالقها، يخترع من القصص ما يشاء، شرط تغليفها بطابع من الإقناع الذي لابدّ منه.. وهو هنا يؤكّد بأنّ الشيطان تابع للمرأة، وليس كما يقال بأنّ النساء حبائل الشيطان، لأنّها المتبوعة، والمتبوع لا يكون تابعاً لتابعه، لينقلب القول روائيّاً إلى: الشياطين حبائل النساء.
تتطوّر صورة المرأة عنده من سلعة شبه مجّانيّة، إلى مالكة لكلّ شيء، بما في ذلك “مالكها”، بحسب مصطلحات البعض الذكوريّ، لتتحوّل من تابعة جاهلة إلى متحكّمة مستبدّة، لتعوّض الظلم التاريخيّ الملحق بها على أيدي الرجال، لتكون العبد المتماهي مع سيّده، (بحسب د.مصطفى حجازي في كتابه التخلّف الاجتماعيّ)، وهنا هي المضيفة إلى ذلك الاستبداد مضاعفةً الأعباء على كاهله، ومضاعفة طلباتها التي لا تنتهي. مثلاً(ص17-18).
ويشرح الفجوة التي يخلّفها الانتقال إلى السويد في دماغهنّ، فالسنوات التي قضاها الأوربيّون سعياً وراء امتلاك ثقافتهم تجاوزت المِائتين، مخلّفين وراءهم، الكنسيّة، الإقطاعيّة، الملكيّة، ليتأثّروا بأفكار نابليون التي يعتمدها النساء الكرديّات دون وعيٍ بها وتقديرٍ لها، لأنّهنّ خلال أقلّ من عشر سنوات تخلّين عن كامل ثقافة شعبهنّ، ودسْنَ على ثقافة رجالهنّ، دفعة واحدة دون اعتبار لها ولتاريخهنّ.. تترك الواحدة منهنّ زوجها، باسم الحرّيّة الشخصيّة، ومستظلّة بالقانون المدنيّ الأوربيّ الذي يعطيها كامل الحقّ في ذلك، لتتزوّج من رجالٍ من مختلف الجنسيّات والأعراق، (صوماليّ، كولومبيّ، تايلانديّ، ص18، على لسان بادو، عندما يذكر للمتنوّر ما جرى معه)، تجرّب معهم وتستمتع رفقتهم، لتعود إلى زوجها، ظانّة أنّها بذلك إنّما كانت تمارس حرّيّتها المظلومة معها وبها، الحرّيّة كمفهوم مغلوط الفهم من قبلها، هي الخطيئة التي تعقب سوء الفهم ذاك..   
ونراه يشبّه عقول النساء الكرديّات في تعاملهنّ المزاجيّ المرَضيّ، بجغرافيّة السويد، حيث تمرّ الفصول الأربعة على منطقة لا تتجاوز الكيلومتر، المطر ينهمر في جهةٍ ، وفي جهة أخرى الثلج يتساقط، وفي جهة ثالثة الشمس تشرق، هو تشبيه للحطّ من المشبّهين، لا سيّما عندما نعلم، نقرأ، موقفه من حالات التبدّل الفجائيّة التي تنتابهنّ في ملاذهنّ الآمن، كأن تخرج واحدة مع رفيقاتها وهي مشلَّحة إلاّ من داخليّاتها التي تصبح هي الخارجيّات، لتحتسي معهنّ القهوة على الرصيف، أو تجلب ثانية عشيقها معها إلى البيت متذرّعة بأنّها حرّة..إلخ تلك التصرفات المشينة التي تعكس مدى الأسر المعاش، رغم الحرّيّة المكشوفة، الغاية فقط إذلال الرجل.. لا غير..
نقرأ في مفارقة مرّة، على لسان بادو، الذي هو نموذج الكرديّ الحقّ المدافع عن كرديّته، بأنّه يفضّل في هذه البلاد استعمال ما يخصّ النساء في ملبسه وحلاقته، لا من منطلق التخنُّث، بل لأنّ ما يخصّص للنساء هناك، يكون هو الأمتن والمحكم الصنع: “أستطيع أن أحلق مرّتين بشفرة مصنّعة خصّيصاً للرجال، وبعد ذلك أرميها، ولكنّني أستطيع أن أحلق سبعاً وعشرين مرّة تماماً، بالشفرة التي صنعت خصّيصاً لحلاقة شعر سيقان النساء”.(19).
يثور الكاتب على تلك الثقافة التي علّقت الشرف بالمرأة، فيصرخ في وجه زوجته التي نغّصت عليه عيشته وحياته تحت ستار الحرّيّة والقانون الذي يبيح لها ذلك، بأنّها تستطيع الاقتران بمن تشاء، تركيّاً كان، أم عربيّاً أم فارسيّاً، ويركّز على هؤلاء باعتبارهم من يستبيحون الوطن، ولطالما الوطن استُبيح فليس من غالٍ بعده، كما أنّه يذكّر زوجته إنقاصاً من قيمتها، حين تشبيهها بالرجال، وهنا نتذكّر قولاً: بأنّ المرأة التي تسترجل لا تصبح رجلاً، كما أنّها لا تعود امرأة، هنا أيضاً يمكننا تناول جانب من الثقافة الشعبيّة في جانب تعظيميّ منها، فالمرأة التي تقوم بعملٍ بطوليّ، توصَف معظّمة، بأنّها رجل وأيّ رجل، إلى جانب الدارج: أخت الرجال، أي تكون في الظلّ وتحت جناحيّ الرجل، لكنّ الكاتب إذ يشبّهها بالرجل، يبتغي التحقير فقط، حين ينزع عنها صفة الأنوثة التي تجمّلها، قائلاً: يا مرا أنت لست سالمة، أنت سليمو.. بممارسة إمالة وإعلال وإبدال في الأحرف يجرّدها من الأنوثة اسماً، بداية، ليكون المدخل إلى المراحل اللاحقة..
وهو في ثورته يسعى ليحفظ للمرأة مكانتها الرفيعة التي تتخلّى هي بنفسها عنها، لتترك مكانها شاغراً لن يشغل أبداً، فهي الأمّ والأخت والزوجة والبنت والحبيبة ..إلخ، وهؤلاء يشكّلن العالم الذي لا يمكن لأيّ رجل الاستغناء عنهنّ، فتارة يصفها بأنّها مثل الوطن، يجب أن تكون من المقدَّسات، وأن تعي ذلك، كلاهما يشكّل مطمعاً للآخرين، لأنّ العدوّ يمدّ يده إليها أولاً: “على المرأة أن تكون أكثر حرصاً على الوطن لأنّ العدوّ في البداية يمدّ يده إليها”.(ص73). وتارة أخرى يشبّهها في ظلمها بأنّها كالقوى التي تحتلّ الوطن كردستان.(ص49). وهذا ليس خللاً في بنية الرواية، أو في بنية الكاتب الفكريّة، بل هو عاكس لوساعة المواقع التي تحتلّها المرأة، والتي بإمكانها أن تحتلّها..
في الجانب الآخر، جانب البراءة، تظهر صورة الأمّ التي لا تتأقلم مع الواقع الذي أقحمت فيه، وهي في زيارتها إلى هناك، ونراها تتعجّب من عدم تقدير الأوربيّين لمطمطتتها، لأنّها كانت تتمدّد، وهي مريضة روماتيزم، في أيّ مكان تشتهيه نفسها، حيث السويد بلاد نظيفة، والأخضر يغطّي كلّ مكان صيفاً، ولكن كان الناس يتحلّقون حولها، ليسعفوها إلى المشفى، ويبدي الكاتب الأمر فكاهيّاً للقارئ، غريباً للأمّ، وللناس هناك على السواء، وتستنكر الأمّ البسيطة فعلهم ذلك، لأنّهم يتمطمطون حيث يشاؤون  ولا أحد يناقشهم، أو يمنعهم. (ص 55).    
هو محاصَر أينما توجّه بالمرأة، فهي المسؤولة عنه في السوسيال، وهي المشرفة على ورشة الخياطة، وهي الشريك الملك في كلّ شيء، وهي الزوجة المتسلّطة، على هذا يصبح المثل: إذا زلّت المرأة زلّ العالَم، بدلاً من: إذا زلّ العالِم زلّ العالَم، لأنّها بدأت باحتكار العالم، آخذة دورها ودور غيرها، في حين لم تتقن بعد دورها.. نلحظ ذلك في تشبيه للجاهلة التي تدّعي التمدّن والتَمَدْرُن، دون أن تتمدّن في الصميم، بأنّها أخطر من القنبلة الأمريكيّة، “إذ يقتل المرء عن طريق القنبلة الأمريكيّة، ولكن مع أعدائه، يظلّ المرء، طالما هو على قيد الحياة، في حالة ألم ومجافاة.(ص42).
من جهة الموقف العامّ من أوربا، فإنّ موقفه ينبني على نظرته للجزء، بناء على مواقف ثانويّة، وبالتالي تعميم هذه النظرة الجزئيّة، وإسقاطها على الكلّ، بأن يتّخذ موقفاً سلبيّاً من السويد وينسف المفهوم الديمقراطيّ، بمجرّد عدم رضاه عن مسؤولة السوسيال،(ص68)،أو عن زوجته التي تستغلّ الحرّيّة لتمارس فوضاها، والديمقراطيّة لتستبدّ وتطيح بكلّ قيمة. 
“المتنوّر”، بين مقدَّمة مركّزة، من ناحية اللغة، مكثّفة من ناحية الأفكار، والتنظير، وبين خاتمة شبيهة بها إلى حدّ كبير، وما بينهما سرد لمواقف تتمتّع بالسلاسة والعمق الوجدانيّ في المتناوَل، تمتّع بهما، البسمة فيها مقرونة بالحسرة على امتداد خطوط متوازية، تغلب الحسرة والدمعة في الأخير، لتوقظ مَن يتوجّه إليهم..
“المتنوّر” رواية النور لتسييده، رواية العتمة، لتبديدها، إنّها رواية الكرديّ المنفيّ في حلّه وترحاله..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…