عرس الدم

إبراهيم اليوسف
تضع الحسكة رأسها اليوم
على وسادة جغجغ
يصرخ الخابور:
مجراي لا يكفي الدم
تصيح السماء أنا أضيق من الصراخ
يصرخ العالم:
أنا أصغر من ألم الكردي
يصرخ الكردي:
كل هذا الدم علامات قيامتي
كل هذا الدم أرومة اسمي التليد..!
لاعلاقة لعنوان هذا النص بمسرحية فيدريكو غارسيا لوركا”1898-1936″، التي تحمل العنوان نفسه، وتركز على عوالم أندلسية على ضوء أدوات قتل بدائية: السكين- المطواة- الخنجر، بل وبعوالم جد مختلفة: ليس بيئة- فحسب- وإنما أحداثاً، وأبطالاً، أيضاً. إذ إن عنوان”عرس الدم” يبدو غارقاً في استفزازيته. إنه-هنا- فصل من ملحمة الدم الذي سفك في المكان، بما يخص حصة الكردي. إذ له علامته الفارقة، ليس على صعيد ماهية زمرة الدم. بل على صعيد ما في هذا الدم من خصوصية جعلته مدعاة استهداف من أعداء صاحبه. يهدرونه تحت صيغ مختلفة، ومسوغات مختلفة، حتى وإن واءم ما هو مرسوم في مخيال القاتل، وهو الذي لا يعرف المواءمات حتى مع ذاته.
إن يكن هناك لؤم. إن يكن هناك حقد. إن تكن هناك أنا متضخمة، متورمة. إن يكن هناك استبداد. دكتاتورية. غرق في وحل الأيديولوجيا المشلولة. إن يكن هناك ظالم ومظلوم. ثأر مؤجل. خرائط مسلوبة. غزاة. أرباب جريمة.  إن تكن هناك دواعي استرخاص الدم، بل إن سلسلة حفلات”عرس الدم” ستظل مفتوحة، في انتظار أسماء جديدة، يتوزعهما القاتل والضحية…!. 
لقد غدا تاريخ الكردي مجازر، متسلسلة، في أشكال متباينة، منها ما يتوارد في صيغة الجمع، ومنها ما يتوارد في صيغة المفرد. إن يكن خارج حظيرة القاتل، أو داخلها، لا فرق. لأن المقصود هو نفسه، هو ذاته، هو عينه، ورأسه، ورقبته، وجسده، وروحه، وحضوره، وتاريخه، وجغرافياه، أنى كان في قبالة قاتله: الظاهر أو المتواري. في إطار بيته،  ومن هم تحت سقف هذا البيت، والمكان الذي يحتضن البيت، والمحيط الآدمي المشابه له ضمن هذا المحيط، وحتى خارجه.
لا شك في أن المجزرة السورية مفتوحة، وأن ألهبتها، ووفق قانون النار، باتت تنداح في الجهات جميعاً. كي تكون- كردستان- ومناطق توزع الكرد، وسط  تلك المحرقة، يقود إليها اللفح لئاماً ما بعد جاهليين، سواء أكانوا قادمين مما وراء البحار، أو في أرباب مركز دائرة الضغائن، لا فرق. وقد وجدنا ترجمة هذا التنظير-واقعاً- منذ غارات سري كانيي، من قبل مأجورين عابرين، أو طارئين. تم اندحارهم، كي يتم تخريج دوراتهم الواحدة منها تلو الأخرى، حتى يصل المطاف بهم إلى من اصطلح على تسميتهم ب-الدواعش- وهم هلوسة العنف المتكونة، في أكثر من محطة. إحداها التكفير الديني مسلحاً، بكل قيح ما قبل هذه المحطة؛ بعد أن تكونن، عبر لغات أممية كثيرة، من قبل حثالات الأرض الذين التقوا في هذا الفضاء، عبر تسهيل معلوم، من قبل جهات معلومة: محلياً، وإقليمياً، وإسلاموياً، وعربياً، ودولياً، وإن كانت بويضة هذه الهلوسة، ورحمها، وأدوات توليدها، واستنساخها، قد مرت بمختبرات عديدة. كان نظام دمشق أحد هذه الأدوات: زراعة، واستيلاداً، وإنتاجاً…!.
 قد لا يستغرب المتأمل في شأن صنيع هؤلاء الأفاكين، جوابي الآفاق، وهم يحولونها إلى أثرمن هلاك، كلما وجدوا عنصر الجمال فيها أكثر، ليكون الكردي دريئة أحقادهم، سواء أكانوا في حياتهم اليومية، ضمن منازلهم، أو في أماكن عملهم، أو كانوا في ذروة احتفائهم بالحياة-كما حالهم في أعراسهم التي لا يتوقفون عنها بالرغم من قبح الحرب عليهم- لأن هذا ما يتم الاشتغال عليه، من لدن كثيرين، حتى من بين من يقدمون أنفسهم كنخب سياسية ثقافية، ما داموا يلتقون و داعش في نقطة الحقد على الكردي، بل في حضه عليه، والتنظير لذلك..!.
وتفيد الأنباء الواردة  حول مجزرة- صالة السنابل للأفراح في الحسكة- التي احتضنت عرس أسرة وطنية كردية معروفة في الوسط الجزري على نطاق واسع- وهي أسرة آل فاطمي الكرام- بأن إرهابياً  مفخخاً صغيراً في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره- بحسب إفادات بعض الناجين من الشهود للإعلام-  قام بتفجير نفسه، كي يستشهد على الفور العشرات من الحضور- منهم اثنان وعشرون شخصاً من الأسرة نفسها، بالإضافة إلى جرح ما يقارب المئة شخص، بإصابات مختلفة، منهم من هو في حالة خطيرة- شفاهم الله جميعاً- وقد كان من بين هؤلاء الضحايا: الطفل، والمرأة، والكهل، والشاب، على حد سواء. بل إن هؤلاء بقايا القلة التي لم تترك بلدها، بعد كل أفانين التهجير التي تمت بحق كرد المدينة…!.
لا يمكن استقراء مشهد هذه الجريمة، إلا من منظور كيدية الآخر، تجاه الكردي. إذ إن الكردي أياً كان هو المستهدف، وقد أكدت المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين في عدد من المدن الكردية، أومدن التواجد الكردي ذلك، فلا فرق بين مقاتل ذائد عن أهله، وطفل، أو أمه. وإن كانت ذريعة هؤلاء هي معاداة ب ي د، إلا أنه لولم يولد ب ي د، وولد جيش كردي وطني شعاره: الدفاع عن سوريا كلها، بل حتى عن الأمتين: الإسلامية والعربية، فإن خريجي مدارس العفن، هاتيك- وهنا أعني الموبوئين بوباء الحقد على شركاء المكان نتيجة عقد هائلة تجاههم- لابد أنهم كانوا سيرفضون ذلك، لأنهم يرفضون الكردي، إن لم يكن مجرد حارس، حام، تابع، على خطوط النار الأولى…!.
ثمة ما يستطيع هؤلاء الاستفادة منه، وسط حالة التنابذ الكردي. إذ إن ذلك ترك و يترك الكثير من الثغرات التي كان من الممكن تلافيها، وهو ما يدعو من جديد إلى-إطلاق المناشدة- الحرى، من أجل تشكيل حالة كردية-في ظل هذا التفكك المكاني- بغرض الحفاظ على الذات، بما يتيح المجال لنا للعودة لممارسة أدوارنا: كل بحسب إمكاناته في امتحان الوجود، بعيداً عن هيمنة حزب واحد، ستودي أنانيته المتضخمة بنا، عبر المزيد من الكوارث والمجازر التي تؤدي بنا إلى نقطة التلاشي، أو التآكل، من خلال السياسات الهدامة الممارسة التي آزرت المتربصين بالكرد، للنيل منهم…!.
إن عرس الدم- بهذا المعنى- في نسخته الكردية المغايرة جعلنا أمام عرسين مختلفين: عرس كردي، وآخر إسباني، محور كليهما: الموت والحياة، بعيداً عن تفاصيل أبطال النصين اللذين تفصل بين زمنهما ما يقارب التسعين سنة” إذ كتب نص لوركا في العام 1933 عن أحداث العام 1928″، إلا أن عرس الدم، لا يفتأ يتكرر في طبعات كثيرة، من دون أن نتعظ من أخذ الدروس لا من التاريخ الإنساني، ولا من تاريخنا، وهو ما لا علاقة له بتناول أمور الحيطة اللازم اتخاذها، في عرس محيط بالأعداء الحقيقيين- وذلك لأن هذا الداعشي مستجلب من ضمن الخلايا المكانية النائمة. وإن كنت أعرف أن لا هوية محددة لداعش، من جهة الهوية القومية، كما أن لادين له، حتى وإن تجلبب بألف رداء كاذب…!.
مجهر قراءة الدم الكردي لا يتردد في الكشف عن ماهية بقعة الدم، المستنسخة، المنداحة. بيد أن علتنا تكمن في شعيرات التنبيه، اللامرئية، والميكروسكوبية التي تربط بين: العين والأثر – الحدث والفعل. إذ ثمة عطل ما يكمن في هذه الآلة، بما يجعل أي تفكيك لها غير مجد، ونحن نمر في أحرج اللحظات الحاسمة في التاريخ المعاصر.
 أمام مثل هذه المجزرة الرهيبة، لابد لنا من أن نعمل بوتائر أعلى. أن نعيد النظر في أدواتنا، وتموقعاتنا، عسى أن نستطيع فعل أي شيء، في ظل الإحساس بالمسؤولية. بل الوعي بالمسؤولية، وإلا فإننا جميعاً في”قفص الاتهام” أمام محكمة التاريخ، في دورته التي لا تتوقف..!.:
عبثاً تحاول إطفاء العرس الكبير
أيها المفخَّخ بكل ضغائن الكون
أعراسنا تتواصل
إلى تلك اللحظة
من عرسنا الكبير
لقد حان أن نقول لك ذلك
لقد حان لك أن تندحر…!.
*المقال مهدى إلى كل قطرة دم هناك في تلك الصالة المفتوحة علينا أينما كنا…
** قرأت في وسائل التواصل الاجتماعي أن أسراً من غير الكرد في الحسكة هرع أبناؤها-الذين هزهم ماجرى لجيرانهم- إلى المشافي للتبرع بالدم لجرحى المجزرة الرهيبة؟؟!!.
-تلك هي الحسكة من دون الفكر العنصري.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…