يوسف بويحيى (أيت هادي شيشاوة المغرب)
أغمضت عيناي برهة كي أسترجع أنفاس الماضي، لمحت في ظلام غموضي لونا ليلكيا يبعث فقاعات تتطاير فوقي بشكل غير منتظم ومتنافرة فيما بينها، و كأنها تعي مذى ٱشتياقي لقطرات النذى الباردة المختلطة بنسمات الصباح و الأمس الماضي، تعلوها حمرة الإبتسامة المتعددة القراءات، نعومة بيضاء تعلو ذلك الوجه البريء الكاذب، عينين زرقاوين تكادان تفقدان لونهما إلى الخضرة الممزوجة بالبني المفتوح، أجفان رقيقة تسترق النظر خلسة في فراغهما في كل ما ليس بريء، يدين تنبسطان أتناولهما بقوة خوفا من خوفهما عن نفسيهما، قدمين ترتعشان أوقفتهما بعد أن كانتا رهينتين للسقوط.
أحببت هذه الصورة إلى حد درجة الألم الذي يمزق كياني، أعلنت حربا على كل رسام أخد ريشته نية الإبداع في تلك الصورة، سألتني الصورة قائلة: لماذا الحرب على صورتي؟؟ أجبت بهذوء: لأن صورتك إبداع فما زاد عنها يكون خارج منظومة الإبداع، لم أكن أنهي جوابي حتى لمحت تلك العينين تنغمران دموعا تلمع بإخطلاتهم بضوء الظلام الغامض، ثم تقول ٱه كم أحبك وأنا مجنونة بجنون تعبير حبك المبدع.
أرى من تلك العينين ثورة رهيبة تنفجر بوحشية في أعماقها الباطنية، أخدت هذه الصورة بهذوء، لم أكن أرنو لأتملكها ولا حتى أن أحكم القبض عليها، لكن وددت أن أدخلها في أعماقي أكثر كي يكون عبء راحتها مقرون بذاتي، إنتاب المكان صمت غريب ثم إعتلا محياها لون يميل إلى ما يسبق نبرة الإبتسامة، هنا تذكرت في نفسي تلك الحمامة التي أربكت توقع “أبو العلاء المعري”؛ (أغنت تلك الحمامة أم بكت ؟؟؟ على فرع غصنها المياد)، توالت الساعات في ظلام حالك بعد أن هبت عاصفة باردة ممطرة، أخدت الصورة في حضني قطرات الماء تتساقط على جسمي لتحدث لهيبا باردا يحرق قواي، أحرقت وجودي لتندفع تلك القوة دفئا لتثبت شقوق الصورة من حدة الصقيع.
كم كنت أخاف من خوفي من رغبة خوف الصقيع من إرادة النار على الصورة، أكلت النار ذاتي وتلاشى وجودي وأقحمت الصورة نفسها في فن طي النسيان، إنزلق القدر على اللاموجود وٱصطحبت الصورة المشقوقة كائنا موجودا، لتكتمل الصورة على تلك المنصة التي لا يجلس أمامها سوى جماعة شذرة بارعة في التصفيق تزدري المواقف بإنتظام وبدون نظرة إبداع، أرى البعض يتجهم من ركاكة الحركات والكلمات الغير المفهومة بلغة شارذة، والبعض يبتسم من السخافة المسرحية للقصة، بينما أنا أراقب الغرفة المظلمة والمشهد من قبري الذي كان بجانب الغرفة لمحت شخصا هادئا كغير الجميع يرمق إلى المنصة بحسرة ممزوجة بالسخرية، كنت أعرف أنه على علم جدير بالممثلين وخصوصا البطل والبطلة أي الصورة المشقوقة، كان ينتظر في صمت ويترقب بعيدا عن الجموع أمرا مستحيلا، سقط الكأس من على المنصة تكسرت مقدمته أحست البطلة بشيء عكر صفوة مسرحيتها، كيف لا وأن كيانها مقرونة بشقوق لا يراها البطل ولا حتى الملأ، أمسك البطل المسكين يدها وأخدها إلى النكبة بعيدا عن قطع الزجاج، كان الملل يلف المنصة مما أدى بخروج المشاهدين وبقي المشهد على ماهو عليه، ٱنسحب المخرج وراء الكواليس من شدة التعب، نام البطل وسط العرض الذي لم يدرك مشقته وحقيقته، لم يتبق سوى تلك الحمامة اللعينة البيضاء تتحسس المكان الفارغ بعينيها الملغومتين، كم كانت شاحبة مقرفة خبيثة الكيان وعدوانية الماهية، لكن كانت ما تزال تستمد جمالها من الشمس التي كثيرا ما كنا في حاجة ماسة إلى ضوءها ليلا، هكذا كانت تبذو من حقيقتها الحقيقية.
إسترقت حسي لها فشعرت بها تبحث عن حقيقة الحب الذي يجمعها بالبطل، هنا بدأت أفرغ ما تبقى من كنزي الذي لم تأخده مني لسرعة ضيق الوقت المؤلم، لا أريدها أن تتألم، أريدها أن تكون سعيدة. أن تحيا أكثر مني، أن تكتب، أن تفكر، أن تغني، أن ترسم، أن ترقص، أن تبتسم للحياة، أن تحب البطل بجنون، أريدها أن تعيش من أجل القيم، أريدها قوية فالمستقبل للأقوياء، أريدها أن ترقد بسلام وتستيقظ بسلم، لا أعرف كم سأعيش ولا حتى أين وكيف؟؟ لكن أعرف أني مازلت في قيد حياتها ….
إن الحقيقة غالبا ما تتطلب جهدا وقدرة على تحملها، لكن كيف؟! وكيف لي أن لا أجيبها وأنا قد تمعنت في “نتشه” كثيرا وكان للوهم بالنسبة لها وجودا لا يمكن أن تستغني عنه الحقيقة، لكن أية حقيقة؟؟!! بالرغم من أن لا حقائق موجودة سوى تفسيرات، تكاد تطرح غموضا شائكا قد يراه البعض نقطة للتهجم على الشخصنة، والآخر يراها حلقة بدون مخرج ،، لكن في كلتا الحالتين سواء “الببغاء” و”الصورة المشقوقة” مخطئتين بخصوص التأويل حيث لا يقتصر على بعد أو نسق فلسفي معين، بل إلى أبعد ذلك بكثير، إلى نظرة نفسية بغض النظر عن كل ماهو سيكولوجي يكتفي بالسلوكيات والممارسات والقدرات المادية والرمزية المحددة لشخصية الفرد (أقول الشخصية وليس الشخص)، إن “الحب” غالبا ما يكشف على نزعة التملك والإشباع والطمع، حيث يمكن بواسطة العقل أن نجعل من الحب مرادفا للأنانية والنزعة الفردية للإنسان وحتى الحيوان لكن بقوانين تختلف من حيث النظرة النفسية فقط، أنثى الحيوان تحب الحيوان القوي ويفوز بها، الأنثى تبحت عن الأمان في قوة الذكر والذكر يبحث عن التملك من خلال قوته، أما فيما يخص الإنسان فدائما ما لا يستطيع أن يظهر حقيقته من أجل حب المرأة بالقوة والأنانية والطمع، لذلك يلجأ الرجل من العقل إلى الوهم، الذي هو في حاجة ماسة إليه المرأة حيث بها تعيش وعليه تحيا، إن المرأة لا تستحمل حقيقة الحب بل وهم الحب فقط بعيدا عن حقيقته، فكلاهما لن يستطيعا الوصول إلى ذلك الشعور المنشود الذي يتعطشان له، لذلك كان ضروريا على اللاشعور الإنساني أن يبتدع طريقا من أجل الوصول إلى الغاية (الحب)، وكانت الوسيلة المبتدعة هي الوهم، فإن سقط الوهم بالحقيقة أسقط معه الحب والعكس صحيح، لذلك قال “نتشه” : (يخشى الناس سماع الحقيقة كي لا تتحطم أوهامهم) لاذغا المرأة في فهمها الفارغ من الحقيقة، والرجل في بلوغ غايته.
هكذا كانت حقيقتك أيتها الصورة المشقوقة، وهذا كان معظم غموضك وكان سر تفكيرك وغاية وجودك.
لقد قرأتك يا “نتشه” من جديد سأقسم لك أمام الله بأنك الوحيد الذي تعلم ماذا أريد من حياتي.