عرض وإعداد: إبراهيم اليوسف
جاء كتاب ” سوريا من الاضطهاد السياسي إلى الكارثة الإنسانية” لمؤلفه الباحث الكردي إدريس عمر أحد أهم الكتب التي تناولت الواقع السياسي في سوريا، من خلال منظور كردي، وهو أمر مهم يسجل للثورة السورية التي أعادت طرح الكثير من الأسئلة، وإعطاءها الأهمية، انطلاقاً من مفهوم شراكة الكردي في بناء بلده، من جهة، ودرجة الظلم التاريخي المحيق الذي طالما لحق به،على امتداد عقود، من جهة أخرى، لاسيما تحت نير وسطوة التيارات الشوفينية التي وجدت في وصول حزب البعث إلى سدة السلطة، ضالتها، كي ينال الكردي حصته من الاضطهاد المضاعف، على يدي آلة النظام، إلى جانب اضطهاد شركاء المكان أية كانت رؤاهم، ما لم تنتم إلى دفة السلطة الحاكمة التي أعاثت، وعلى مدى عقود تعنتاً وصلافة وجوراً وفساداً، وبلغت هذه السياسات حدها الأعظمي مع وصول الأسد الأب في العام 1970 إلى رأس السلطة، ولتكون مرحلة ابنه امتداداً، وترجمة مكثفة، منفلتة، لمفهوم العقل الدكتاتوري، في إرساء صروح الدولة الأمنية التي تحكم بالحديد والنار.
وقدم للكتاب د. آزاد علي، الذي دون شهادته في علاقته واسرته بالباحث منذ لحظة ولادته واسمه” إدريس” تيمناً باسم الراحل إدريس البارزاني. وكانت والدته أطلقت عليه الاسم، كتقدير لنضالات هذه الأسرة في تلك المرحلة، وحتى الآن. وبين أن الباحث عمل في الحركة السياسية الكردية التقليدية “البارتي”، قبل أن تضيق به، وينضم إلى حزب العمال الكردستاني الذي ظهر في بدايات الثمانينيات، كي يصبح ضمن قائمة المطلوبين من قبل هذا الحزب بالتصفية، نتيجة عدم تقبل الحزب للنقد الذي مارسه المؤلف وأمثاله ممن غادروا صفوفه نتيجة إحباطهم من سياساته، لتتم تصفيتهم، أو لينجوا، كما هو حال المؤلف، الذي سيعتقل بعد ذلك، من قبل نظام دمشق، ويتعرف على أن النظام العنصري الذي يعاني منه الكرد، إنما يضطهد العربي، وغير العربي، إذا رفضا سياساته الاستبدادية بحق السوريين.
يبين المؤلف، في مقدمة كتابه أن هذا الكتاب كان عبارة عن رسالة ماجستير تقدم بها في الجامعة العربية المفتوحة في الدانمرك بعنوان” الاضطهاد السياسي في سوريا من1970-2010″ قبل أن يغيره إلى العنوان الحالي، بعد إضافة فصل آخر على هذه الرسالة، ليستقر على هذا العنوان.
يتضمن الكتاب الذي امتد على مساحة320 صفحة من القطع الكبير: إهداء، ومقدمة شخصية، وملاحق، وخاتمة، بالإضافة إلى أربعة فصول المتن. حيث عنون الفصل الأول ب” نشوء الدولة السورية وتطورها، وتناول فيه مرحلة الاستقلال والسيادة الوطنية “فترة الحكم الوطني”- الانقلابات العسكرية ودورها في تطور منظومة البلاد السياسية. إذ استعرض فيه أول انقلاب عسكري تم في البلاد على يدي حسني الزعيم في30-3- 1949. بالإضافة إلى الانقلاب الثاني لسامي حناوي في 14-8-1949- وهكذا بالنسبة إلى انقلابات أديب الشيشكلي في 1949 وانقلاب 25 شباط- 1954، ليتوقف عن مرحلتي الوحدة والانفصال، قبل أن يبدا انقلاب حزب البعث الذي استلم في إثره السلطة.
وتناول المؤلف في الفصل الثاني سمات الاستبداد السياسي من عام 1963 إلى نهاية حكم حافظ الأسد، بالإضافة إلى طبيعة النظام السياسي السوري في دستور 1973، والأحزاب ودورها في حياة البلاد السياسية، والنظام السياسي والحقوق القومية للكرد، والسمات السياسية والاقتصادية لنظام الاستبداد السياسي، والصراعات الحزبية بين أجنحة البعث العسكرية والمدنية ، والقوانين المقيدة للحريات وانعدام الضمانات القانونية في ظل نظام الحزب الواحد.
وخصص المؤلف الفصل الثالث لتوريث الحكم واستمرار الإرهاب السياسي، بالإضافة إلى تجذر الاستبداد السياسي في منظومة البلاد السياسية، ومحاولات الإصلاح وتراجع النظام عنها. كما تناول أيضاً” ربيع دمشق” واستمرار” الأزمة” السياسية في البلاد.
و تناول المؤلف في الفصل الرابع الثورة السورية التي بدأت في آذار 2011ولما تزل جارية، وذلك تحت عنوان” من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة” ليسلط مجهره على مفهوم- الكارثة السياسية، كنتاج للاضطهاد السياسي، بالإضافة إلى تناوله لاستخدام الغازات السامة، وتقديم إحصاءات لضحايا الثورة.
كما ذيل الكتاب بعدة ملاحق حول قانون الطوارئ في سوريا، ومحاكم الميدان العسكرية، إلى جانب عدد من شهادات المعتقلين السياسيين، من دون أن ينسى محكمة أمن الدولة العليا، وطرق الاعتقال السياسي، وأساليب التعذيب التي دعمها بشهادات حية من قبل بعض المعتقلين. كما أنه تناول طرق التعذيب في سجن تدمر، من خلال شهادات حية لبعضهم، ليتوقف عند مرحلة تعذيب المعتقلين في مرحلة ما بعد الثورة السورية. واختتم الكتاب بثبت لأبرز المجازر الجماعية التي تمت في سوريا حتى العام2015
وحقيقة، فإن الكتاب يؤرخ تاريخ سوريا الحديث والمراحل السياسية التي مرت بها البلاد، والأسباب التي أدت إلى وصول الحالة السورية إلى ما هي عليه الآن. إذ إننا نجد وفي قراءة سريعة، لفصوله، بأن المؤلف أولى نشوء الدولة السورية وتطورها ما أمكن من الاهتمام البحثي. ويرى أن ذلك جاء بعد الثورة العربية التي تمت ضد الحكم العثماني بتحريض من بريطانيا في عام 10حزيران ، 1916 . حيث وقف العرب إلى جانب الحلفاء(بريطانيا وفرنسا وروسيا)ضد دول المحور(ألمانيا وتركيا واليابان) في الحرب العالمية الأولى. ويبين المؤلف أنه وقبل نهاية الحرب عقدت فرنسا وبريطانية اتفاقية سايكس بيكو السرية وبمصادقة الإمبراطورية الروسية ،1916 وكان الاتفاق تفاهماً حول اقتسام أراضي بلاد الشام بين بريطانيا وفرنسا، وتلخصت مقرراته بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق تحت الانتداب البريطاني. ولكن الشعب السوري قاوم الانتداب الفرنسي حتى نال استقلاله في 17 نيسان عام 1946 ، ليجري بعد ذلك انتخاب الرئيس شكري القوتلي كأول رئيس للجمهورية الفتية ولكن للأسف لم تستمر المرحلة الديمقراطية إلا ثلاث سنوات. ومن ثم بدأ الانقلاب العسكري 1949 بقيادة الضابط الكردي حسني الزعيم، وكانت بداية لانقلابات عسكرية عديدة اغتصب العسكر السلطة وكان ذلك بداية لشرعنة القتل، التي بدأت بإعدام حسني الزعيم الرئيس العسكري الأول حتى 1963.
اما الفصل الثاني، فيستعرض خلاله المؤلف سمات الاستبداد السياسي من عام 1963 إلى نهاية حكم حافظ الأسد. ويرى أنه في هذه المرحلة اغتصب حافظ الأسد مع بعض من رفاقه العسكريين السلطة بقوة السلاح في 8 آذار 1963 ، ليشكل دولة ايديولوجية مصطنعة في تكوينها الذي بدأ بالإقصاء القومي لغير العرب، وإهمال غير المسلمين- بحسب المؤلف- حتى تبلورت الدولة كنموذج لحالة الإقصاء، وليس لدولة المواطنة.
وقد أورد المؤلف مثالاً عن هذه الحالة، قائلاً:
إننا ككورد شعب اصيل في المنطقة ونعيش على أرضنا التاريخية وتم تقسيم وطننا إلى أربعة أجزاء ونحن كنا أكبر الخاسرين في اتفاقية سايكس بيكو 1916التي قسمت كردستان ما بين تركيا وسوريا والعراق، فالكرد في سوريا عانوا مختلف أشكال الاضطهاد القومي والسياسي حيث تم تجريد 150 ألف كردي من حق المواطنة السورية في إحصاء أجري في يوم واحد في محافظة الحسكة في عام .1962 ولقد شمل هذا الإجراء عائلتي ايضاً . ويتابع المؤلف قائلاً: وإنني إلى هذه اللحظة اعتبر من الأجانب السوريين، وتم حظر اللغة الكردية وإهمال المنطقة الكردية حيث لا توجد شركة أو مصنع خاص في المناطق الكردية. كما تم استيطان العرب في المناطق الكردية، من أجل تعريبها وأخذت الأراضي من الفلاحين الكرد وتم توزيعها على الفلاحين العرب بحجة غمر أراضيهم في مياه الفرات، ومنعت الأحزاب السياسية من ممارسة النشاط السياسي، وإصدار الصحف والكتب باللغة الكردية، ومنع الموسيقى والأغاني الكردية حيث تم فصل الطلاب من المعاهد والجامعات ومورس على الكرد مختلف أشكال التعريب والاضطهاد القومي والسياسي. بل تشكلت وتنامت ظاهرة الاستبداد السياسي في مرحلة حكم البعث وصولاً إلى مجازر جماعية بحق المعارضين للسلطة.
أما في الفصل الثالث من الكتاب فيتناول المؤلف موضوعة توريث الحكم واستمرار الإرهاب السياسي.
يقول: كما هو معلوم للجميع بعد موت حافظ الاسد في 10 حزيران عام 2000 تم توريث السلطة لابنه بشار الأسد، عندما اجتمع البرلمان السوري، لتعديل المادة 83 من الدستور النافذ، التي تشترط ” في من يترشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربياً سورياً متمتعاً بالحقوق المدنية والسياسية متمماً الأربعين عاماً من عمره). فتم تعديلها بموجب القانون رقم /9/ تاريخ 17/6/2000 في أسرع تغيير دستوري في العالم، عبر اجتماع استمر ربع ساعة فقط، وبشكل هزلي، من خلال عملية تصويت استغرقت خمس دقائق، فأصبحت المادة (83) نفسها من الدستور تنص على أن من يترشح لرئاسة الجمهورية عليه أن يكون عربياً سورياً متمتعاً بالحقوق المدنية والسياسية متمماً الرابعة والثلاثين عاماً من عمره). وعلى ضوء هذا التعديل تمكن بشار الأسد دستورياً من تقلد منصب رئاسة البلاد.
ولم يستطع بشار خلال فترة حكمه أن يوفي بوعوده في الإصلاح وتحقيق مطالب الشعب السوري. بل استمر في كتم الأفواه والاعتقال والقمع وتسليط أجهزة الامن على الرقاب، وازداد نفوذ العائلة حتى وصل الأمر بابن خاله رامي مخلوف إلى بناء امبراطورية اقتصادية على حساب الشعب السوري.
وفي الفصل الأخير الذي عنونه ب”من الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة”.. فيستقرىء المؤلف كيفية تحويل مسار الثورة من سلمية إلى ثورة مسلحة. أدت إلى دمار البنية التحتية، و قتل أكثر من نصف مليون سوري، ناهيك عن اعتقال مئات الآلاف من المواطنين، بالإضافة إلى أكثر من مئتي ألف مفقود، ومئات الآلاف من المشوهين والعجزة، وهجرة أكثر من 12 مليون سوري داخلياً، وخارجياً .
وتم توثيق الاعتقالات والمجازر التي حصلت في سوريا واستخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة دولياً بحسب تقارير المنظمات الدولية والأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.
وقد أدرج الكاتب ضمن الملحق الخاص بشهادات المعتقلين والمساجين شهادته الشخصية كمعتقل سياسي عاش التجربة بنفسه في سجن صيدنايا العسكري في دمشق خلال أعوام 1992 لغاية 1996 ، بالإضافة إلى وثائق متعلقة بالكرد الأجانب وفصل الطلاب من الجامعات.
حقيقة، إن كتاب” سوريا من الاضطهاد السياسي إلى الكارثة الإنسانية” يشكل إحدى القراءات المهمة لواقع الاستبداد الذي تحول بموجب قوانين الحياة، إلى كارثة إنسانية كبرى، مازلنا كسوريين ندفع ضريبتها، بل إن أذاها تجاوز دائرتها إلى دول الجوار، والعالم، من خلال الآثار التي خلقتها ظروف الحرب، والهجرة التي أدت إلى إفراغ البلاد من أبنائها، ليكون هناك وطن على مقاس مجرد شخص، وفي هذا ما يشكل إدانة للضمير العالمي الذي لم يتحرك-عملياً- من أجل إيقاف دورة العنف والخراب في سوريا والمنطقة، وإنما راح يسعى لأجل مفاقمتها.
من هنا، فإن هذه الدراسة التي قدمها المؤلف، بعد مرور خمس سنوات على الثورة السورية، تعد إضافة جديدة لقراءة فعل الاستبداد، ومعاناة السوريين من الاضطهاد من قبل الطغمة التي تحكم بلادهم، بموجب تواطؤ دولي واضح. كما أن الباحث لم ينس نصيب الكرد في سوريا من جرعة الظلم المركزة والعالية، باعتباره أحد الذين اكتووا بنارها، إقصاء، واعتقالاً، وهجرة. إذ كان ولايزال من عداد السوريين مسلوبي الجنسية..!.
كما أن كتاب” سوريا من الاضطهاد السياسي إلى الكارثة الإنسانية” هو محاولة في كتابة تاريخ سوريا-سياسياً- خلال عقود، بعيداً عن الكتابة الرسمية التي طالما ساهمت في ترسيخ وتوطيد الطغيان، ومفاقمته، لاسيما في عهد سلطة حكم البعث، وعلى نحو خاص، في مرحلة حكمي الأب والابن. وفي هذا ما يؤسس لمرحلة بحثية جديدة، يواصل أصحابها المشروع الذي بدأه قلة من المشتغلين في هذا الشأن، بعيداً سطوة آلة القمع. أجل. إن تاريخ الاستبداد في سوريا، بات يحتل حيزاً لا بأس به من الاهتمام، وهو ما يظهر من خلال عشرات الكتب الجادة، في هذا المضمار، ويأتي هذا الكتاب، بلا شك، من ضمن هذه الدائرة، تحديداً..!.
سوريا من الاضطهاد السياسي إلى الكارثة الإنسانية
المكتب العربي لمعارف- القاهرة ط أولى2016